متى تسقط حكومة نتنياهو؟
محمد جرادات*
كان الطبيعي، وفق المألوف "الإسرائيلي"، أن تسقط حكومة نتنياهو بكامل تركيبتها منذ شهور عديدة، ولكن نتنياهو أدخل الكيان "الإسرائيلي"في مسار بعيد كليّاً من القيم والأعراف التي تشكّل على أساسها هذا الكيان، خصوصاً عندما نجح نسبياً في تجاهل قضية الأسرى الإسرائيليين خلف أولوية الحرب والانتقام تبعاً لأطماعه الشخصية والحزبية، وكذلك عندما دفع الدولة بكاملها إلى تحمّل نزيف الحرب على جبهات عدة فترة طويلة، والأهم أنه نجح في تغيير عقيدة الكيان القائمة على بدهية إصغاء المستوى السياسي إلى"الجيش" والمخابرات، حيث واصل معارضة توصياتهما ومضى بالكيان على حد السيف بشكل استبدادي من دون تردد.
يأتي سؤال توقيت سقوط نتنياهو وحكومته خارج السياق الطبيعي، والسؤال هنا عن السقوط وليس الاستقالة، فنتنياهو لا يشبه إيتمار بن غفير الذي انسجم مع جنون تطرفه واستقال مع كامل وزراء حزبه من الحكومة بسبب إقرار الصفقة مع غزة، ولا هو رئيس هيئة أركان "الجيش" هرتسي هليفي الذي أعلن هو وقائد المنطقة الجنوبية يارون فنكلمان في "الجيش" استقالتهما، ولا هو قائد الوحدة الأمنية 8200 ولا حتى قائد قوات "غولاني" ولا قادة بعض الفرق الذين سبق أن استقالوا بسبب هذا الفشل التاريخي، ذلك أن نتنياهو ومعه سموتريتش يقبضان على زمام الحكومة تبعاً لشهواتهما الشخصية من جهة، ومن جهة أخرى، لتحقيق أهداف الحرب في الضفة حيث مشروع الضم وتعزيز الاستيطان.
ولكن قبضة نتنياهو على الحكم بدأت بالارتخاء، وسط عاصفة الأصداء المتصاعدة بعد الصفقة في غزة، وهي صفقة يصعب تجاوزها، ومن نتائجها المباشرة وقف الحرب التي لم تحقق أهدافها، وإن حصدت عشرات الآلاف من الأرواح والبيوت والمؤسسات، ونجحت في اغتيال القادة والكوادر وتدمير المشافي والبنى التحتية في غزة والضفة ولبنان، وطالت اليمن وإيران وسوريا، ما عدّه نتنياهو تغييراً لوجه الشرق الأوسط، ولكنه تغيير دون القدرة على هزيمة المقاومة في غزة، ولا إعادة المستوطنين إلى بيوتهم في شمال فلسطين، ولا استعادة الأسرى بالقوة بل عبر الاتفاق غير المباشر مع قوى المقاومة في غزة ولبنان.
تراخي قبضة نتنياهو لن يعوضها الهجوم على الضفة، ولاسيما جنين ومخيمها البطل، مهما حقق من نتائج أمنية هي بالأصل تراوح مكانها منذ سنوات عدة، فليست عملية الجدار الحديدي ضد جنين هي الأولى، إذ واصل اجتياحاته لجنين وشمال الضفة وعمومها عشرات المرات وخرج بنتائج أمنية كثيرة، ولكن الواقع الاستراتيجي بالنتيجة لم يتغير، إلا إذا مد ترامب يد النجاة لنتنياهو وساعده في ضم مستوطنات الضفة وإقامة مناطق عازلة حولها، وهو أمر متوقع، رغم ما يتسرّب من أخبار عن رغبة ترامب في عزل نتنياهو، وهو ما يعزز قرب سقوط نتنياهو في وقت أخذت الأرض تحته ترتج بشكل عنيف.
تكثف اليأس "الإسرائيلي" بعد معركة بيت حانون، وهي المعركة الأخيرة قبل توقيع الصفقة، وكانت معركة مذهلة بكل المقاييس عندما أرادها "الإسرائيلي" خاتمة معاركه، ليخرج عبرها بصورة نصر حاسمة، ولكن السحر انقلب على الساحر ما خلّف فشلاً ميدانياً راكم الإحباط السياسي وهو ما دفع بالنتيجة نحو الصفقة، وهنا تأزم وضع نتنياهو رغم استغنائه عن شبكة الأمان التي وعده بها زعيم المعارضة يائير لابيد، عندما أغرى سموتريتش بالضفة للبقاء في الحكومة ما يكفل له ثبات تأييد الأغلبية في الكنيست، وإن تناقصت نحو الحافة، وهو تأزم لن يصمد مع أول تحقيق رسمي لواقعة السابع من أكتوبر، وهو تحقيق أصبح قاب قوسين أو أدنى، خصوصاً عند انتهاء مراحل عمليات تبادل الأسرى.
يستحيل على نتنياهو منع التحقيق الرسمي بواقعة السابع من أكتوبر، وجاءت الاستقالات المتلاحقة في "الجيش" بعد توقيع الصفقة، وقد استهلها هليفي ثم فنكلمان وغيرهما، إضافة إلى استقالة بن غفير، رغم الفارق، وهو ما دفع زعيم حزب "يسرائيل بيتنا" المتطرف اليميني أفغدور ليبرمان أن يدعو نتنياهو إلى الاستقالة الفورية، وهي استقالة لن تحصل إلا عند تهيؤ الكيان، ذاتياً وموضوعياً، لسيل من التحقيقات الداخلية.
وعندما تبدأ التحقيقات الداخلية في فشل السابع من أكتوبر، فإنه لن يكون لمنجز تغيير الشرق الأوسط علاقة بها، وهو ما أوضحه وزير الحرب السابق غانيتس ومثله فعل سموتريتش بقولهما إنه، على الرغم من تحمّل رئيس الأركان المستقيل هليفي مسؤولية عسكرية عن فشل السابع من أكتوبر، فإنه يتحمّل أيضاً مسؤولية تعافي "الجيش" وتحقيقه منجزات عسكرية كبيرة، بمعنى أن مزاعم الإنجاز الذي يكثر نتنياهو من تكرارها، لن تحول دون تحمّل مسؤولية الفشل في السابع من أكتوبر، وهو الذي وقّع على عدة اتفاقات لوقف النار مع غزة في حروبها الأخيرة، إضافة إلى أنه لم يصغ إلى تحذيرات بعض الضباط عن إمكانية قيام حماس بالهجوم على "إسرائيل".
تقابل تمسك نتنياهو بالسلطة موجة من التخوين بحقه، ويصفه قطاع واسع من المثقفين والإعلاميين والسياسيين بالطاغية، ما يجعل من سقوطه، عندما يقع، مدوّياً يشبه الزلزال لتأخذ أصداؤه مجمل الكيان نحو وجهة مختلفة، وهي الوجهة التي يفترض أن تظهر فيها تبعات انجلاء غبار المعركة في غزة، رغم افتعال الحرب على الضفة بحثاً عن صورة نصر تساعد نتنياهو في تحقيق حالة توازن، يمكنه تنزيل آثارها على المستويين السياسي والنفسي الإسرائيليين، ما يكفل له البقاء أطول فترة في السلطة، والأهم أن يكون سقوطه سهلاً في حال وقع لا محالة، في محاولة يستخدم فيها نتنياهو علاقاته وتراثه ومنجزاته التي يبالغ في الحديث عنها.
تصعب رؤية الكيان "الإسرائيلي" كما كان قبل فشل السابع من أكتوبر، إذ تتبلور بعد هذا التاريخ، والأهم بعد تجدد الفشل في حرب الإبادة على غزة، صورة الكيان وفق نتائج "طوفان الأقصى"، وعلى الرغم من نجاح نتنياهو في تغيير بعض سمات هذا الكيان الأمنية والسياسية، فإنه لن يقدر على تجاوز بعض محددات هذا الكيان، خصوصاً بعد رضوخه أمام غزة، رغم ما فعله فيها من أفاعيل وحشية، ليذهب نحو اللحظة الفارقة حال انجلاء مراحل تنفيذ الصفقة وقد تعهد أن ينفذها بحذافيرها، وهنا سيدفع الثمن مضاعفاً، داخلياً وفق اعتبار الفشل المتدحرج مع القضايا الموجهة أصلاً ضده في المحاكم "الإسرائيلية"، وخارجياً في ضوء كونه مطلوباً للمحاكم الدولية كمجرم حرب.
* المقال يعبر عن راي الكاتب ـ موقع الميادين نت