جرائم الحرب الإسرائيلية.. بين تبرير قتل الفلسطينيين والإفلات من العقاب
السياسية || علي دربج*
بالرغم من أنهار دماء المدنيين الأبرياء التي سفكتها "إسرائيل" في لبنان وغزة على مدى عام وأكثر، فشل القانون الدولي ومعه الإدانات المتواصلة لمنظمات حقوق الإنسان، في كبح مذابح جيش الاحتلال الإسرائيلي التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.
أما المشكلة فتكمن، ليس فقط فيما فسّره العديد من الفقهاء الحقوقيين، بأن "فصل القانون عن الأخلاق هو الذي حفّز ووفّر غطاءً لأعمال القتل والمجازر في غزة ولبنان"، بل إن النقاشات حول شرعية تكتيكات "إسرائيل" الوحشية، صرفت الانتباه عن المبادئ الأخلاقية الأساسية ذات الصلة بالحرب، وركزت بدلاً من ذلك على أسئلة مثل المعنى القانوني لمصطلح "الدروع البشرية".
الأكثر أهمية هنا، هو أن دفاع "إسرائيل" عن فاشية جيشها وإفلاته من العقاب، يمثل أيضاً أحدث مثال على تاريخ طويل من استخدام الديمقراطيات الليبرالية تبريرات أخلاقية مشوهة لجرائم الحرب التي كانت قد ارتكبتها في مناطق مختلفة من العالم. وقد اعتمدت في تبريراتها لأعمالها الوحشية تلك، على القيم الأخلاقية، بدلاً من القواعد القانونية، لتجنب المخاوف بشأن إمكانية إدانتها بجرائم الحرب والمساءلة عنها.
ونتيجةً لهذه السرديات الأخلاقية المضلّلة، استمرت كل من الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي في ارتكاب جرائم حرب دون رادع أو حساب، في الوقت الذي يدعيان فيه امتلاكهما "الجيوش الأكثر أخلاقية في العالم".
الغرب: تاريخ من عدم المحاسبة على جرائمه
لم تفلح الدول الغربية (التي قدّمت نفسها على أنها النموذج الأرقى الذي يُحتذى به في الالتزام بحقوق الإنسان والقانون الدولي) في حجب حقائق تورطها بجرائم حرب على نطاق واسع، وهو أمر أكدته الشواهد التاريخية بشكل قاطع لا لبس فيه. فعلى سبيل المثال، انخرطت بريطانيا في حملة تعذيب واعتقال في كينيا ضد أفراد من عرقية الـ"كيكويو" في العام 1952. وبالمثل، نفّذت فرنسا "تعذيباً منهجياً" أثناء حربها على الثورة الجزائرية في الخمسينيات من القرن الماضي. أما الولايات المتحدة، فقد شنّت حملة قصف شاملة في كمبوديا خلال حرب فيتنام، وقامت بأعمال قمع بربرية للمدنيين.
صحيح أن هناك اختلافات بين هذه الحالات، غير أن الرواية الأخلاقية التي تتذرع بها البلدان الغربية لتبرير جرائمها الحربية، بقيت قائمة بشكل ملحوظ، ويعود تاريخها إلى قرون مضت. لذا، ومع الأيام الأولى للاستعمار الأوروبي للعالم الجديد، برّرت القوى الاستعمارية الإبادة الجماعية والاضطهاد بحق السكان الأصليين، بالترويج لمجموعة حجج تقول: إن الطبيعة الهمجية للشعوب الأصلية أجبرت الدول المتحضرة على اللجوء إلى مثل هذه الأساليب الوحشية.
وتعقيباً على ذلك، يوضح الباحث الأمريكي دانيال برونستتر كيف أنه بعد حرب الاستقلال الأمريكية، برّر المدافعون عن حروب الإبادة ضد السكان الأصليين أفعالهم بالقول: إن هؤلاء السكان "لم يلتزموا بالقواعد (الأوروبية) للحرب، بل خاضوا حرباً لا رحمة فيها، متجاهلين جميع القيود المتحضرة... وتم تبرير معايير مختلفة عند التعامل مع مثل هذه الشعوب".
وبحلول القرن العشرين، جرى اللجوء إلى سرد مشابه لتبرير الغزو الأمريكي للفلبين، بعد قيام القوات الأمريكية باضطهاد الجنود والمدنيين الفلبينيين. وعليه، عندما كشف تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي عام 1904 عن أدلة على الاستخدام الواسع للعنف والتنكيل الذي نفذته القوات الأمريكية بحق الأبرياء والعُزّل، ادّعى أعضاء في إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت، أن التعذيب "قد يكون مبرراً أحياناً بسبب الانتهاكات المتكررة لقواعد الحرب المتحضرة التي ارتكبها عدو همجي وخائن".
الأسوأ، أنه جرى تصوير القوات الأمريكية على أنها شريفة. وتبعاً لذلك، زعم الحاكم الاستعماري للجزر والرئيس لاحقاً، ويليام هوارد تافت، قائلاً: "لم تُجرَ حرب أبداً أظهرت فيها القوات الأمريكية قدراً أكبر من الشفقة، وضبط النفس، والكرم، كما كان الحال في الفلبين".
وبناءً على ذلك، ليس من الغرابة، أن يُلقى باللوم بعد وقوع جرائم الحرب الأمريكية على العدو "الهمجي الفلبيني"، وفي الوقت نفسه، يجري تصوير القوات الأمريكية على أنها نزيهة وبمنتهى الأخلاق، لذلك، كان هذا السرد فعالاً للغاية في خلق الإفلات من العقاب على هذه الجرائم، وبالتالي لم يُسجن أي ضابط أو جندي متهم بالتعذيب في الفلبين، وتم نسيان الأحداث هناك إلى حد كبير.
11 أيلول والمعركة بين "المتحضرين والهمجيين"
مع مطلع الألفية الثالثة، اقتبست واشنطن هذه الرواية، بعدما جاهرت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بالدفاع عن غزو أفغانستان وتعذيب المشتبه فيهم بالإرهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر، ولشرعنة أفعال قواتها الإجرامية، تم إبراز الصراع مع "تنظيم القاعدة" على أنه معركة بين "المتحضر والهمجي"، على حد تعبير المدعي العام آنذاك جون آشكروفت، ثم وصفت مذكرات التعذيب الشهيرة التي أصدرها مكتب المستشار القانوني، هذا الأسلوب بأنه "مرفوض للقيم الأمريكية"، من جهة، لكنها جادلت بأنه قد يكون ضرورياً "لتجنب ضرر أكبر"، من جهة أخرى.
أكثر من ذلك، وفي أعقاب تقرير مجلس الشيوخ لعام 2014 حول برنامج التعذيب هذا، وصف الرئيس باراك أوباما، الذي انتقد أعمال العنف والتنكيل، المشاركين في البرنامج بأنهم ذوو نوايا نبيلة، معتبراً أن "الكثير منهم عملوا بجد تحت ضغوط هائلة، وهم وطنيون حقيقيون".
المخزي، أن إدارة أوباما قامت بمنع جميع المقترحات للمساءلة المدنية والقانونية، عن المتورطين في برنامج التعذيب، بما في ذلك رفض اقتراح تشكيل "لجنة حقيقة ومصالحة" على غرار جنوب أفريقيا.
"إسرائيل" ومعادلة "الأيادي القذرة والأعداء الهمجيين" لتبرير جرائمها
خلقت "إسرائيل" رواية "الأيادي القذرة والأعداء الهمجيين"، بهدف الإفلات من العقاب أولاً، ولإضفاء الشرعية على جرائم الحرب التي نفذها جيشها ثانياً، باعتبارها خياراً مأساوياً ولكنه ضروري "مفروض على كيان شريف أخلاقياً" رداً على أعمال "بغيضة يرتكبها عدو غير إنساني".
من هنا، وبمجرد أن أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان سعيه للحصول على أوامر اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير أمنه السابق يوآف غالانت، على الفور وصف حلفاء "إسرائيل" القرار بـ"المعادلة الكاذبة". ولهذا قال متحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية إن "التطبيق المتزامن لمذكرات الاعتقال ضد قادة حماس من ناحية، والمسؤولين الإسرائيليين من ناحية أخرى، أعطى انطباعاً خاطئاً بالتكافؤ".
كما رأى الرئيس جو بايدن أن تصرفات المحكمة "شنيعة"، مشيراً إلى أنه "لا يوجد تكافؤ – لا شيء – بين إسرائيل وحماس". كما أصدرت اللجنة اليهودية الأمريكية بياناً زعمت فيه أن تصرفات خان خلقت تكافؤاً زائفاً بين قادة الكيان وقادة حماس للإبادة الجماعية، واعتبرت ذلك أمر بغيض.
اللافت في الأمر، أن أحد الافتراضات الكامنة وراء تهمة "التكافؤ الزائف" هو أن تصرفات "إسرائيل" في غزة ولبنان لا ينبغي أن تُسمى جرائم حرب بنظر أصدقاء كيان الاحتلال لأن نيته الدفاع عن نفسه فقط. ووفقاً لهذا التوصيف للصراع، فإن "تكتيكات حماس" و"حزب الله" والخطر الوجودي الذي يمثلونه على إسرائيل هو الذي يجبرها على مواصلة القتال.
الأخطر، أن "إسرائيل" استندت إلى هذا المنطق للدفاع بشكل علني عن محارقها في لبنان وفلسطين، لذلك، برّر المتحدث باسم جيش الاحتلال جوناثان كونريكوس، أمر "التجويع" الذي أصدره الوزير غالانت، ومنع فيه توزيع الغذاء والماء على المدنيين في غزة، بقوله: "لدينا مدنيون... أخذهم هؤلاء من غزة... نحن في حالة حرب".
وعلى المنوال ذاته، دافع غالانت نفسه عن فرض "حصار كامل" على القطاع مستخدماً التبرير الآتي: "نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف على هذا الأساس".
وانطلاقاً من ذلك كله، أصبح قتل "إسرائيل" لعشرات الآلاف من المدنيين في غزة ولبنان نتيجة حتمية لعمليات المقاومة الفلسطينية واللبنانية وليس دليلاً على نوايا "إسرائيل" الإجرامية.
في المحصّلة:
لا عجب إذاً، وعبر تصوير جرائم الحرب الإسرائيلية "كضرورية"، أن تجذب رواية "الأيادي القذرة والعدو البربري" الدول التي تُسمى ديمقراطية، فتقوم بالدفاع عن الكيان الإسرائيلي، وتبييض سجله، وغسل أياديه من أي مسؤولية عن جرائم حرب ارتكبتها بغزة ولبنان.
* المادة الصحفية نقلت من الميادين نت بتصرف