منهال الأمين*

ما زلنا نحاول جهدنا أن نكتب عمَّن مضى من شهداء، أو نوثق تاريخ المقاومة الإسلامية منذ انطلاقتها في صيف العام ١٩٨٢. والمقاومة في أربعينيتها إذا أردنا أن نحصي ما كتب عنها وجدنا أنه قليل قليل. ونحن والحال هذه، دخلنا محطة تاريخية في مسيرة هذه المقاومة. حرب ضروس لا تشبه كل ما مر علينا من حروب مدمرة. في تموز ١٩٩٣ أو نيسان ١٩٩٦ ثم في تموز وآب ٢٠٠٦.

حتى اليوم ارتقى ٦٠٠ شهيد، حصيلة حرب الإسناد التي يفتخر أبناء هذه المقاومة بكونهم خاضوها غضبة لغزة وأهلها. مروراً بمجزرة "البيجر" والأجهزة اللا سلكية واغتيال قادة من "الرضوان".

اليوم الشهداء سعداء يحتفلون بيومهم مع أبيهم، أما نحن فيتامى غيابه الثقيل، الثقيل جداً!.

اليوم، لأول مرة منذ ٤٠ عاماً سيكون الشهيد هو، ويوم الشهيد هو، وكل شهيد هو. اليوم. سنسمع الآلاف يقولون وقد زُف أبناؤهم: هون ما نزل بنا أن ابننا في الركب النوراني لسيد شهداء الأمة.

لا يمكن لكلمات السيد التي كان يؤبن بها الشهداء أن تكون بصلاحية محددة. هي ليست بنت لحظتها بل بنت الحدث والمناسبة وكل أبعادها وعظمة أصحابها. يوم شهيد حزب الله الذي حدده الحزب يوم عمليته الاستشهادية الأولى التي نفذها الفتى أحمد قصير ذو الـ ١٨ ربيعاً، فدمر مقر الحاكم العسكري في صور بكبسة زر، كانت فاتحة نهاية العصر "الإسرائيلي" وإعلان بداية عصر المقاومة. تلك العملية التي ما زالت تقض مضاجع قادة العدو وجمهوره الشتاتي، فلم يعترف بالعملية إلا قبل أشهر قليلة، بعد أن ادعى لاثنين وأربعين عاماً أن سبب الانفجار قوارير غاز!

ما يميز يوم الشهيد هذا العام؟ أي فرد منا يعلم كم هو صعب نعي الشهداء إلى أحبائهم. استشهد شقيقي الأكبر حسن قبل أكثر من ٢٨ عاماً، وما زال الناعي لا يغادرني، ولكننا اليوم نجد الأب ينعى ابنه أو ربما ابنيه، والأخ ينعى أخاه أو أخويه أو ربما ثلاثة إخوة، أو أخاه وصهره، أو أباه وعمه، أو الأم تنعى وحيدها، أو الأخت تنعى شقيقها وابن شقيقها، وكذلك الزوجة تنعى رفيق عمرها.

استوقفني منشور لزوجة شهيد، تعلق على فيديو نشره العدو لمشاهد وثقتها إحدى طائراته المسيرة: مقاوم يتحصن خلف شاحنة صغيرة وهو يشتبك مع الجنود الصهاينة. تقول الأخت: شاهدت هذا الفيديو مراراً، وفي كل مرة كنت أقول، كم هو بطل هذا الشاب! لأكتشف لاحقاً أنه زوجي!(الشهيد علي عارف حب الله. استشهد في مواجهة ببلدة عيترون).

في هذه الحرب رأينا الكثير مما يشبه القصص التي تروى في الكتب. رأيناه بأم العين وبعين القلب وبإدراك العقل لسيرة علوية خيبرية ممزوجة بأداء حسيني كربلائي.

ساجد وميثم رفيقا عمر، أكبرهما ساجد ابن ١٨ عاماً، وميثم لم يتجاوز الـ ١٧ عاماً. عند اندلاع الحرب لجآ مع ذويهما إلى الضاحية. كانا يسهران مع الأصدقاء في أحد المقاهي، حين قررا قرار حياتيهما واختارا خيار عمريهما. يقول أحد الإخوة المطلعين على ما جرى:

خرجا في ليلٍ من بيروت إلى الجنوب، بعد صلاة الليل ثم صلاة الصبح ثم استخارة حملت أمر "افعل". وقفت أمامهما، عانقتهما، قلت لهما: أتعلمان إلى أين أنتما ذاهبان؟ وما الاحتمالات هناك؟

تبسّما بل ضحكا واستبشرا، وقالا: أكثرها استشهاد، وهو ما نريد!

وصلا إلى أقصى الجنوب، وهناك قاتلا أسبوعين، قبل أن يُستشهدا معًا في يوم الجمعة ١٠/١١/٢٠٢٤.

بعد نحو شهر من بدء العدوان ونحو أسبوعين على شهادة الفتيين ميثم وساجد. وصل شيخ سبعيني بجسد نحيل وهدوء لافت إلى الجبهة. والقصة يرويها أحد الجرحى لابنة الشهيد:

"وصل والدك الشهيد إلى مكان التقاء الإخوة وكنتُ على معرفة مسبقة به، فقد عملنا معًا في ما مضى.

كنا جميعاً بعمر الشباب دونه، وعندما عرف الجميع أنه ذاهبٌ إلى الجبهة معنا بدؤوا يصافحونه ويقبلونه وهو يبتسم للجميع.

توزع الإخوة على السيارات التي ستقلهم نحو الجنوب، وعند صعودنا في السيارة سألت السيد: ألم تحضر حقيبة أو أي أغراض معك؟ فأجابني مبتسماً: "هكذا يجوز المخفون"

وكأنه يقول لي أنا ذاهبٌ للقاء الله فلا داعي لزادٍ بيدي غير عملي الصالح، ألقى به ربي.

وصلنا إلى مكان في الجنوب وقد حل وقت الصلاة، فصلينا الظهر والعصر على جانب الطريق، وسط تمنيات السائق بالإسراع لحراجة الوضع. انطلقنا مجددًا وعند الساعة الثالثة والنصف تقريباً وصلنا إلى المكان المحدد، نزلنا من السيارة وتفرقنا كلٌّ في اتجاه، بدا جليًا أن المكان قد قصف بالطيران في وقت سابق، بقي السيد وحده في مكانه، فيما دخلت مع شاب آخر إلى نقطة مجاورة لنكتشف أن هناك في المبنى المجاور إخوة مثلنا ينتظرون. الكل كان بانتظار تكليفه ونحن كنا ننتظر من يوصلنا إلى مكان تموضعنا الأساسي. بعد نصف ساعة تقريباً أغار الطيران الحربي على الإخوة الموجودين في المبنى المقابل فعم الغبار المكان، خرج السيد من مكانه متفقداً مكان الغارة وقد بلغه أنه يوجد شهيد، فمشى متجهاً إلى مكان الغارة، عندها قال له الشاب الذي كان معي: احم نفسك لعلَ الطيران يغير ثانيةً، لم يكمل كلامه الأخ حتى أغار الحربي علينا، أصيب الأخ إصابة بليغة وأنا إصابة طفيفة، ولكن السيد لم يرضَ إلا أن يختم مسيرته الجهادية كما تمنى شهيدًا على طريق القدس.

صاحب هذه الروح هو السيد عبد المعين الأمين الذي بدأ حياته مجاهداً منذ الانطلاقة في العام ١٩٨٢، واستشهد أخوه السيد عبد اللطيف الأمين اغتيالاً في ١٥ تشرين الثاني ١٩٨٤، وكان حينها عبد المعين معتقلاً في سجن أنصار، وها هو بعد أربعين عاماً بالتمام، لم يبدل وصدق ما عاهد الله عليه، ولم تكن تعني له الدنيا والمواقع والألقاب أي شيء، فكان كل همه أن يظل مجاهداً كأي مجاهد في الميدان، فطوبى للمخفين كما كانت آخر دروسه التي ربى عليها أجيالًا وأجيالًا.

كأن أمة حزب الله بعد شهادة قائدها قد انتفضت عن آخرها. كأنهم صرخوا في وجه الدنيا: قوموا نموت على ما مات عليه سيدنا، لا طيب الله العيش بعده. يتسابقون إلى الميدان، يتوسلون المعنيين للسماح لهم بالذهاب إلى الجبهة، وإذا كان الجواب أن الوضع لا يحتمل طلب أحدهم أن يرسلوه لأي مهمة: أحمل الصواريخ، أقود الدراجة أو الآلية لكي أحمي الأخ الرامي من خطر تتبعه، أفعل أي شيء أرجوكم!

فوجدنا الشهيد من كل الفئات. وحين تقول شهيد، فإن هذه فئة دم غالية وعزيزة. رأينا الطبيب والصيدلي والخبير التربوي والأستاذ الجامعي والمزارع وسائق الجرافة ونجار الباطون والعالم العامل والطالب الحوزوي وتلميذ المدرسة والمتطوع في الدفاع المدني والتاجر وصاحب التعاونية والمهندس والنجار والحداد والدهان وووو... جادت أمة حزب الله بكل هؤلاء ...
كم هو عظيم يوم الشهيد هذا العام، ولكننا يا سيدنا سنظل ننتظر كلامك العذب الروي الذي تؤبن به الشهداء والذي تثني فيه على المجاهدين، فتدمع وتبكي ويرتجف صوتك. سنظل نحفظ عهدك تحت راية أميننا العام سماحة الشيخ نعيم قاسم الذي تسنم القيادة في أقسى مرحلة تمر بها أمة حزب الله.

11-11 يوم الشهيد سيمر ثقيلاً على قلوبنا هذا العام، فأبو الشهداء والمجاهدين أصبح شهيدًا.

كان من المُقرر أن تكون أنت من يخطُب بنا غداً، نأخذ من فمك الطاهر أجمل وأعظم الدروس.

نُعاهدك في هذا اليوم الكريم يا سيدنا، أننا سنبقى نُحيي هذه الذكرى بالانتصارات والدم والفداء، ونبقى مع الحق دائمًا، وننصُر المستضعفين في فلسطين وكُل العالم.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب ـ موقع العهد الاخباري