ليلى عماشا*


طالت الساعات على درب النزوح، وما كفّ الطيران المعادي عن محاولة ترهيب العوائل التي غادرت بيوتها على عجل، في مشهد من نار ودخان من كلّ الجهات.. أخبار الشهداء والجرحى من المدنيين رافقت النازحين في طريقهم، وأهل الصبر تلقوا وهم في الطريق أنباء دمار بيوتهم وقراهم.. ملامح الأطفال في داخل السيارات المكتظة بالركّاب بدت رغم هول القهر مشعّة باليقين، كالطفلة التي من داخل السيارة وقفت كي تخرج رأسها ويديها فوق مشهد الزحمة والقصف، وترفع شارة النّصر، فتخبر دونما قصد العالم كلّه أنّ النّصر فطرتنا وهويّتنا، مهما اشتدّت علينا الصعاب..

جيران وأهل غادروا بيوتهم تحت النار، قبل أن يتمكنّوا من توضيب حتى الضروري جدًا من حاجاتهم: نزحوا بلا أدوية، بلا حليب أطفال، بلا طعام ولا ماء، وبلا وجهة نهائية محدّدة.. آخرون لم يجدوا سبيلًا للخروج، ولا سيما بعض كبار السنّ وبعض العائلات التي لا تمتلك وسيلة نقل أو لم تجد مكانًا مع الجيران. وآخرون آثروا البقاء في القرى والاحتماء فيها.

على قدر ما يبدو المشهد مؤلمًا ومتعبًا، حلّت المبادرات الفردية والمدنية والحزبية والرسمية بلسمًا على جرح المشهد، في كلّ لبنان وليس فقط على خطّ النزوح من الجنوب إلى بيروت والمناطق؛ مبادرات مختلفة بدأت عفويّة عبر منصّات التواصل، وجرى تنظيمها على الأرض.

في البداية، ومع اختناق السّير على أوتوستراد الجنوب، تداعى شبّان من مختلف المناطق لإيصال الماء والطعام إلى العالقين في سياراتهم. وتجمهر شبّان صيدا لتقديم أيّ مساعدة قد يحتاجها أهلهم النازحون. فُتحت البيوت والمدارس والمقاهي والمطاعم لتقديم أيّ خدمة، ووقف صيداويّ كريم في وسط الطريق، حمل لافتة كتب عليها "ستعودون مرفوعين الرؤوس"، لافتة حب ومواساة لامست قلوب كلّ الأحرار وأهل العزّة.

في برجا ومحيطها، في بيروت، كما في طرابلس وجوارها، وفي سورية، اصطف الأهل لاستقبال أهلهم النازحين. من لا يجد له وجهة محدّدة عند قريب أو صديق، تمكّن في الساعات الأولى من النزول في البيوت والمدارس والمؤسسات التي فُتحت لاستقبال النازحين، أو من استئجار بيت مؤقت ريثما تنتهي الحرب.. وكثر لم يُوّفقوا إلى خيار كهذا فنزلوا في الساحات العامة وبقوا في سياراتهم بانتظار إيجاد وجهة ما. والمبادرات الفردية هنا تواصلت لتأمين بعض الحاجات الأساسية من طعام وماء وملابس و"فرش" وأغطية ووسائد. وعلى قدر الألم في المشهد، عزّة أهل العزّة محفوظة، والدموع المتبادلة لغة صارت، تحكي الكثير الكثير...

أما بالنسبة لمن لم يتمكنوا من مغادرة القرى بسبب عدم وجود وسائل نقل، فلم يتأخر الكثيرون من أصحاب الفانات والسيارات الخاصة عن محاولة نقلهم أو الوصول إليهم، وأيضًا في إطار مبادرات عفوية تسعى لتخفيف القهر الناتج عن العدوان الآثم.

أما على الصعيد الرسمي والحكومي، فلم تتأخّر الحكومة والوزارات المعنية عن البدء بالإجراءات الطارئة: وزارة الصحّة التي كانت قد بدأت أصلاً خطة طوارئ في المستشفيات استكملتها بكل زخم رغم الأزمات المتراكمة في المجال الطبي والصحي في لبنان. وزارة التربية فتحت المدارس والمؤسسات التربوية لإيواء النازحين، فيما سارعت بعض الجمعيات المدنية بالتعاون مع الجمعيات التجارية والأفراد لتأمين المستلزمات الضرورية التي قد لا تكفي لسدّ الحاجات ولكنّها تجهّز قدر المستطاع ما ينسب لاستقبال الناس. ‏وكذلك أفادت الهيئة العليا للإغاثة اللبنانية أنّ الإدارات كافة مستنفرة لإغاثة النازحين والمصابين جراء القصف الإسرائيلي.

على مستوى لبنان كلّه، باستثناء بعض الحالات الفردية التي عبّرت عمّا يسيء لذاتها قبل غيرها، تتكامل المبادرات الفردية والحزبية مع الاحتضان الرسمي في روح تضامنية واحدة، تحاول بلسمة الجرح الكبير الذي تمثّل بالعدوان الوحشي المستمر.

* المقال نقل من موقع العهد الاخباري ويعبر عن وجهة نظر الكاتب