د. عبدالرحمن المختار*

منذُ عشرةِ أشهرٍ سَوَّقَتِ الإدَاَرةُ الأمريكيةُ ولا تزالُ تسوِّقُ وَهْـــمَ وزَيْفَ ما تُسَمِّيه بجهودِها التفاوُضية؛ لوقف ما تُسَمِّيه إطلاقَ النار؛ تمهيدًا لوقفٍ نهائيٍّ لما تُسَمِّيه الحربَ في غزة.
ولا زالت -منذُ ذلك الحين وإلى اليومِ- في دائرة التهيئة لوقفِ إطلاق النار، ولم تتعدَّ هذه الدائرةَ، وفي ذات الوقت سوَّقت ولا تزالُ تسوِّقُ بشكل فعلي عشراتِ الآلاف من أطنان وقود استمرار أفعال جريمة الإبادة الجماعية، ومَن شارك من الأنظمة العربية، ولا يزالُ يشاركُ حتى اليوم الإدارةَ الأمريكيةَ المجرمةَ، وَهْمَ وزيفَ جهودها التضليلية، حول الوساطة وتيسير جولات التفاوض، تشاركُها هذه الأنظمةُ العربيةُ في إسناد الكيان الصهيوني، وإمدَادِهِ بكل مستلزمات الحفاظ على وضعِه الداخلي مستقِرًّا؛ ليستمرَّ في اقترافِ أفعال جريمة الإبادة الجماعية، بشراكة وإسناد غربي وعربي، وتحتَ عناوينَ وهميةٍ زائفة، رفعتها الأنظمةُ الإجراميةُ الغربيةُ والعربية، هدفُها الواضحُ، الذي لا لَبْسَ فيه ولا غموض، هو توفيرُ مساحات زمنية إضافية لكيان الإجرام الصهيوني؛ لاستكمال فصول الجريمة.

ويُعَـــدُّ سُلُوكُ القوى الإجرامية المشارِكةِ للكيان الصهيوني في جريمة الإبادة الجماعية، انتهاكًا صارِخًا من جانبها لكل القيم الإنسانية والأخلاقية، ولا يمكنُ بحالٍ من الأحوال فَهْمُ سلوك هذه القوى المروِّجة والمسوِّقة لجولات التفاوض مع كيان الإجرام الصهيوني، إلا في إطار أنها امتهنت الجريمةَ، وأمعنت وتفنَّنت في أساليب اقترافها، وولغت في الدماء لعقودٍ من الزمن.

ومع أن القِيَمَ الإنسانيةَ والأخلاقيةَ تمنَعُ وتردَعُ كُـلَّ ذي فِطرةٍ سليمة من أبناء الأُمَّــة الإسلامية، أَو من غيرِهم من الوقوف متفرِّجًا على تلك الأفعال الإجرامية، ناهيك عن الاشتراك مع مقترفها، بأيَّةِ صورةٍ من الصور، وبأي شكل من الأشكالِ، ورغمَ أن أحكامَ ميثاق الأمم المتحدة وقواعدَ القانون الدولي تجرِّمُ أفعالَ الإبادة الجماعية، وتعاقبُ مقترفيها، مع كُـلِّ ذلك فإدارةُ الإجرام الأمريكية وحلفُها الإجرامي من الأنظمة الغربية والعربية، يروِّجون لشراكتهم في الجريمة بأنها وساطة، وتيسيرٌ واستضافةٌ لجولات المفاوضات في القاهرة والدوحة، بين طرفَي الصراع في غزة!

وكُلُّ ذلكَ؛ بهَدفِ التغطية على جريمة الإبادة الجماعية، بتصوير ما يجري في غزةَ بأنه نزاعٌ مسلَّحٌ (حرب)، وهو في حقيقة الأمر ليس كذلك؛ فما يجري في قطاع غزةَ ليس حربًا؛ باعتبَار أن الحربَ نزاعٌ مسلَّحٌ طَرَفَاه أَو أطرافُه دُوَلٌ مستقلَّةٌ ذاتُ سيادة، يتوافرُ لكُلٍّ منها كافةُ وسائل ومقومات الدفاع، وما يجري في قطاع غزةَ ليس جرائمَ حرب؛ فجرائمُ الحرب ترتبطُ أَسَاساً ارتباطًا غيرَ قابل للانفكاك بحالة الحرب، ويمكن تبريرُها والحالُ هذه بالأخطاء البشرية، وغيرها من التبريراتِ لارتباط وقوعها بحالة حرب قائمة بين طرفَينِ متكافِئَينِ من الناحية القانونية؛ بوصفِهما دُوَلًا مستقلَّةً وذات سيادة، ومتكافئين من ناحية العدد والعُدَّة أَو قريبين من حالة التكافؤ.


جريمةُ إبادة جماعية:

ووَصْفُ ما يجري في قطاع غزةَ بأنه حربٌ، نوعٌ من الزيف والخداع والتضليل، هدفُه نفيُ المسؤولية الأخلاقية عن المقترِف المباشِرِ لأفعال الجريمة، وشركائه في اقترافِها من الأنظمة الغربية والعربية، وتبريرُ تقديم تلك الأنظمة لكافة أوجُهِ الدعم والإسناد لكيان الإجرام الصهيوني؛ فحالةُ الحرب القائمة بشكلٍ قانوني بين طرفَين، لا تمنَعُ الدُّوَلَ الأُخرى من تزويدِ طرفَيها بالأسلحة والمعدات الحربية؛ للدفاع عن النفس؛ فليس من القيم الإنسانية والأخلاقية أن تمتنعَ الدولُ الأُخرى، التي لا تعد طرفًا في النزاع من تزويد طرفَيها بالمواد الغذائية وغيرها من المستلزمات، التي تمكّن كُـلَّ طرف من الدفاع عن نفسه، أَو إيجاد حالة من الردع المتبادل بين طرفَي النزاع؛ لدفعِهما إلى وقف الحرب، وحل ما هو قائم من نزاع بينهما بالطرق السلمية، وَفْــقًا لقواعد القانون الدولي.

ولكي لا ننساقَ جميعاً خلفَ ترويجِ الإدارة الأمريكية، الشريكِ الرئيسي للكيان الصهيوني في جريمته، وغيرها من الأنظمة الغربية والعربية الشريكة في الجريمة، بأشكال وصور متعددة؛ فالواجبُ أن نعيَ، ويعيَ الرأيُ العام الإسلامي والعالمي، أن ما يجري في قطاعِ غزةَ جريمةُ إبادةٍ جماعية مقصودةٌ بذاتها ولذاتها؛ بمعنى أن الكيانَ الصهيونيَّ بوصفِه المباشِرَ لأفعال هذه الجريمة يقصُدُ فعلًا اقترافَها، وقد سبق فعلَه إعلانُ عددٍ من قيادته النيَّةَ المبيَّتةَ لاقترافِ جريمة الإبادة الجماعية بحق جميع سكان قطاع غزة؛ فوزيرُ الحربِ الصهيوني سبق أن صَرَّحَ بأن القِطاعَ محاصَرٌ تماماً، وأنه لا يدخُلُه لا غذاءٌ وَلا ماءٌ ولا دواء ولا كهرباء، وأن جميعَ من في غزة هم حيواناتٌ بشرية، الواجبُ التعامُلُ معهم على هذا الأَسَاس، وتصريحٌ آخر طالب فيه أحد الوزراء في حكومة نتن ياهو إلقاءَ قنبلة ذرية على قطاع غزة!

وإذا ما وعينا ووعى الرأيُ العام العربي والإسلامي والعالمي، أن ما يجري في قطاع غزة جريمةُ إبادة جماعية، فَــإنَّه يترتَّبُ على ذلك -وَفْــقًا لأحكام القانون الدولي- امتناعُ أيةِ دولة من تزويد مقترف الجريمة بأية مساعدة مدنية أكانت أم عسكرية، وليس ذلك فحسب، بل الواجبُ على جميع الدول التعاونُ لمنع وقمع مرتكب أفعال جريمة الإبادة الجماعية، ومن ثَمَّ فَــإنَّ تقديم أية دولة لأية نوع من المساعدة، ولو بالموقف السياسي، فَــإنَّها تعد شريكًا في اقتراف الجريمة، كما أن الواجبَ على منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها -وَفْــقًا لأحكام القانون الدولي- منعُ أفعال الإبادة الجماعية وقمعُ مقترِفها عن الاستمرار في اقترافها، ويعد تنصُّلُ المنظمة الدولية ومجلس أمنها عن واجباتهما القانونية شراكَةً منهما مع مقترِف الجريمة في جريمته.

وإذا ما تنصَّلت مُنَظَّمَةُ الأمم المتحدة، ومجلسُ أمنها عن واجباتهما القانونية في منع جريمة الإبادة الجماعية وقمع مقترفها، فَــإنَّ الواجب ينتقل على الأقل من الناحية الإنسانية والأخلاقية إلى جميع الدول فرادى وجماعات؛ للتعاون في ما بينها، لمنع الجريمة وقمع مقترفها، ولا يمكن بحال من الأحوال قبولُ تذرُّعِ المنظمة الدولية ومجلس أمنها بجهود الوساطة، بين المجرم والضحية للتنصُّلِ عن واجباتهما القانونية في المنع والردع والقمع المخوَّلة لهما بموجب أحكام ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي؛ فالمجرمُ في جريمةِ الإبادة الجماعية يُردَعُ ويُقمَعُ ويُوقَفُ قَسْراً عن الاستمرار في اقتراف أفعال الجريمة.



لا مشروعيةَ للصمت:

ولا معنى أبدًا لما يُسَمَّى بجهود الوَساطة بين المجرِم والضحية، خُصُوصاً إذَا كانت هذه الجهودُ من جانبِ دُوَلٍ شريكةٍ بشكل أَسَاسي في جريمة الإبادة، ولا يُقبَلُ أخلاقيًّا وإنسانيًّا من بقية دول العالم أن تلتزمَ الصمت، وتظلَّ مكتوفةَ الأيدي في مواجهة مقترِف جريمة الإبادة الجماعية وشركائه في اقترافها؛ انتظارًا لما تسفِرُ عنه الجُهُودُ الوَهْمِيةُ الكاذبة والزائفة والمضلِّلة، التي تضطلعُ بها قوىً استعماريةٌ إجرامية، وبشراكة شكلية من أدواتها في المنطقة العربية.

وليس هناك من مستند قانوني أَو واقعي يمكن أن يبرِّرَ سُلُوكَ تلك القوى الإجرامية، التي تقفُ سَدًّا منيعًا في مواجهة أية قوى إقليمية أَو دولية تحاولُ منعَ كيان الإجرام الصهيوني من الاستمرار في ارتكاب أفعال جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتنبري هذه القوى الإجراميةُ -وعلى رأسها الإدارة الأمريكية- لتُعلِنَ بكل وقاحة التزامَها الكَامِلَ بأمن الكيان الصهيوني، والدفاع عنه، وهذا الالتزامُ يأتي في ظل أفعال إبادَةٍ جماعية يرتكبُها كيانُ الإجرام الصهيوني يوميًّا، وعلى مدارِ الساعة.

فكيف يمكنُ التصديقُ بأن مثلَ هذه القوى الإجرامية التي تقدِّمُ الحِمايةَ للمجرم، أنها يمكنُ أن تؤدِّيَ دورَ وساطة، وهي أَسَاساً في موقف الشريك فعليًّا في الجريمة، بصور وأشكال متعددة، لو لم يكن منها إلَّا الالتزامُ بالحماية، لَكفى؛ لاعتبارها شريكًا كامِلًا في الجريمة، في صورة تقديم مساعدة معاصِرةٍ لارتكاب أفعال الجريمة، ناهيك عن أنها قدَّمت الآلافَ الأطنان من القنابل شديدة التدمير، التي فتكت بعشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزةَ، وجرحت وشرَّدت مئاتِ الآلاف، ناهيك عن المواقف السياسيَّة الغِطائية للجريمة في مجلس الأمن الدولي، التي حالت دونَ صدور عدد من مشاريع القرارات، التي تدعو إلى الوقفِ الفوري لإطلاق النار في قطاع غزةَ، كما ورد في تلك المشاريع! ناهيك عن عشرات المليارات من الدولارات التي رفدت بها تلك القوى الإجرامية خزينةَ الكيان الصهيوني؛ للحيلولة دونَ حُدُوثِ حالة الانهيار الاقتصادي، وغيرها من أوجه الدعم والإسناد!

* المصدر : المسيرة نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه