المجازر في غزة
عبدالرحمن مراد
مضت على العدوان الاسرائيلي على غزة سبعة أشهر أو تزيد وخلال هذا الزمن مارست اسرائيل أبشع أنواع العدوان والقتل والتدمير ومازال الزمن يكشف كل يوم عن مجزرة جديدة ومقابر جماعية لأطفال ونساء وشيوخ، ومازال المجتمع الدولي يغض الطرف عن كل الجرائم التي تمارس ضد الانسان في غزة .
استطاعت الصهيونية العالمية أن تحقق أهدافها - تحت غطاء محاربة الارهاب ، وتحرير المحتجزين لدى حماس - في التصفية العرقية لشعب غزة والقطاع ، واستطاعت استغلال بعض الظروف الدولية حتى تصرف التركيز الاعلامي الى مناطق وجهات أخرى في حين تقوم اسرائيل بتحقيق ما رسمته لنفسها من أهداف وهو التصفية العرقية لسكان قطاع غزة واحتلاله ،وصولا الى المرحلة التالية من الاهداف والتي تتمثل في الوصول الى دلتا النيل ،أو مجمع البحرين ،ومن ثم الوصول الى الفرات لقيام دولة اسرائيل الكبرى.
تمضي اسرائيل في مقاصدها في ظل تواطؤ عربي غير مسبوق بل ومساندة من بعض الأنظمة العربية وفي ظل صفقات سياسية سرية، وتتخذ من محور المقاومة مبررا للقيام بنشاطها العسكري، وتعمل على تكريس صورة شيطانية لمحور المقاومة تخوف به الأنظمة العربية التي تنساق كالقطيع وراء أمريكا وبريطانيا واسرائيل بمعلومات استخبارية في غالبها معلومات غير صحيحة ولكنها تظلل بها وعي الساسة العرب حتى تبلغ غايتها.
نحن اليوم أمام معركة وجودية كبرى لا مجال فيها للقاعدين ولا مجال فيها للانفعالات الآنية ، تديرها المعرفة والاستراتيجيات التي تقوم على العلوم الحديثة ،ولذلك فالنشاط العسكري والعلميات المحدودة التي تقوم بها المقاومة توظف أحيانا بصورة عكسية كدعاية مضادة ضد محور المقاومة ،وتعمل الآلة الاعلامية التي تديرها الشركات الكبرى ذات التأثير الطاغي على الترويج لها لتبدد تعاطف الرأي العام العالمي ،ولعل المتابع يلاحظ - خلال مسار الاحداث - كيف أختفت التظاهرات العالمية ، وكيف انحسر المد في تنامي الرأي العام العالمي الذي كان يتعاطف مع قطاع غزة، واكتنز مشاعر غضب عارمة ، كل ذلك تبدد وماجت الآلة العسكرية الاسرائيلية في قطاع غزة بتوحش غير مسبوق تبيد وتقتل وتدمر في غفلة واضحة من الضمير العالمي الذي وقع تحت طائلة التظليل ، ومع كل خبر جديد في اكتشاف مقبرة جماعية لا نجد ذلك التفاعل ولا نجد ذلك التعاطف فوصول الخبر أو الصورة اليوم أصبح محدودا ،وفي الحدود التي يرغب العدو في وصولهما ، فهو يتحكم بالشركات الكبرى التي تدير الشأن الاعلامي التقني ،والتطبيقات الاجتماعية ،ويحدد - من خلال الخوارزميات أو تقنية الذكاء الصناعي الجمهور الذي يستهدف ، فالزمن الذي نحن فيه غير كل زمن مضى ، ولذلك فالترسانة العسكرية ليست وحدها من يخوض المعركة الوجودية ولكنها تشكل جزءا بسيطا من مكونها العام ، فهي تفتعل الحدث وتصنع المقدمات للوصول الى النتائج والغايات التي تدار وفق استراتيجيات تقوم على المعرفة ،وهي بالغة الدقة وتتجدد كل يوم مع كل نشاط عسكري مقاوم يحدث ، فالرأي العام العالمي الذي تفاعل مع قطاع غزة في بداية المعركة وكاد يشكل ضغطا دوليا كبيرا تلاشى بسرعة البرق لقدرة النشاط المعرفي على التعامل معه وتظليله وتغيير مشاعر غضبه أو الحد منها .
الموت وحده من ينتظر سكان قطاع غزة المهجرين أو الذين فضلوا البقاء في أرضهم فقد قالت الايام - وهي تقول كل يوم – أن قتلا جماعيا حدث للذين فضلوا البقاء، أما الذين خرجوا الى رفح فالجوع والحصار يحصد أرواحهم كل يوم فضلا عن الامراض الفتاكة وغياب الرعاية الصحية للمهجرين .
ومن المؤسف أن نجد الكثير من العرب ومن المسلمين في عموم الأرض في حالة ذهول ودهشة أو في موقف المحايد الذي لا يعنيه من أمر الناس في فلسطين شيئا وكأن ما يحدث لن تصل أضراره اليه كفرد مسلم تستهدفه الصهيونية العالمية باعتباره في نظرها شخص فوضوي غير منتظم وغير حضاري ويشكل تهديدا مباشرا على الحضارة الانسانية المعاصرة ،لذلك يكرسون فكرة القضاء عليه أو تحييده ويروجون لفكرة عودة احتلال أرض العرب والمسلمين بسبب خطرهم المباشر على الحياة الرفاه وعلى الإنسانية ، وقد عبر رئيس وكالة المخابرات الأمريكية عن مثل ذلك بقوله : "سنصنع لهم إسلاما يناسبنا ، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية ومن بعدها قادمون للزحف وسننتصر" .
ومن العجيب أن الغرب المتوحش الذي يدعي الانسانية تعلم على يد الحضارة الاسلامية يقول المؤرخ (مارك غراهام) في كتابه (كيف صنع الإسلام الحديث اوروبا) : إن أوروبا جلست طويلًا لتتعلم تحت أقدام اساتذتها المسلمين لما يزيد عن خمسمائة عام ، و أن السر العظيم وراء النهضة الأوروبية الحديثة هو ما تخفيه أوروبا من فضل العرب عامة و المسلمين خاصة على أوروبا ، مدعية أن الإسلام متوحش همجي و مناقض للحداثة ، لكن الواقع ان العرب و المسلمين أصحاب امبراطورية حضارية و ثروة علمية ذات ألق لم يرَ العالم له مثيلًا . وما حدث في أوروبا أنها سرقت الحضارة العربية والشرقية عامة والإسلامية خاصة وأعادت تشكيلها و أطلقوا عليها " ولادة النهضة الأوروبية ".
إذن ما يحدث هو طمس وتجريف للهوية الحضارية والثقافية الاسلامية وهذا ما تقوم به الصهيونية العالمية منذ ظهر الاسلام الى اليوم وما يحدث في قطاع غزة ليس سوى جزء صغير من تفاصيل المعركة بين المسلمين واليهود.
- المصدر: صحيفة المسيرة