علي عوباني

تلبية لندء الإمام الخميني (قده) قبل خمسة وأربعين عامًا، أحيا اليمنيون يوم القدس العالمي هذا العام تحت شعار "طوفان الأحرار"، بطوفان شعبي هادر، إذ احتشد الملايين في ميدان السبعين في العاصمة صعناء وباقي ساحات المحافظات في حضور جماهيري عظيم. فالقدس حاضرة عند اليمنيين ليس في الجمعة الأخيرة من رمضان فحسب بل في كلّ أيامهم وتفاصيل حياتهم، حاضرة بفعل الميدان الفاصل والحاسم، والموقف الداعم الجازم. لم يعدم يمن العروبة والأصالة وسيلة، لمواجهة العدوان الجاري منذ أشهر على غزّة إلا ونصر بها الغزاويين، فأينما طاولت أيديهم وصواريخهم ومسيراتهم، قصفوا وانقضوا وألحقوا الخسائر بكيان الاحتلال، ولم يهنوا أو يخشوا كلّ تهويل وتهديد، حتّى أذاقوا العدوّ مر كؤوسهم يوم جاؤوه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب.


للقدس في قلوب اليمنيين مكانة رفيعة، ولا يحول بينها وبينهم بعد المسافات ولا كلّ العوائق والحدود. لطالما حلموا وتمنوا لو يحدهم كيان الاحتلال، فلو تحقق حلمهم، لاستفقنا على سيناريوهات وأوضاع مغايرة تمامًا للوضع القائم، ولكانت فلسطين محررة منذ زمن، ولربما لم يكن هناك كيان في الاصل، وإذا وُجد لقطّع اليمنيون أسلاكه الشائكة بأسنانهم، وهدموا بقوة عزيمتهم التي لا تلين جدران فصله العنصري على قطعان مستوطنيه، وقهروا آلة بطش جيشه حفاة عراة بعروبتهم الخالصة الصادقة، وقمة وفائهم لمقدساتهم، كيف لا وقد باتوا الوحيدين من عربان الخليج من يحملون راية فلسطين، ويرفعون علمها وينصبونه على جدران ساحاتهم وفي احتفالاتهم، والوحيدين من يستضيفون سفارة فلسطين بعدما حلت سفارات "تل أبيب" مكانها في دول الجوار.

مواقف أشراف العروبة في اليمن السعيد، التي حفظت أمانة القدس وفلسطين، من غدر طعنات الخلجان بخنجر التطبيع والخذلان، وصدّت عنها خيانة "عرب الاعتدال" لمقاومتها الباسلة وتضحياتها الجسام، ولشلال دمها الذي استولد أحرارًا وأثمر طوفانًا سيجرف الكيان المؤقت ولو بعد حين، ليست بمواقف منعزلة أو منفصلة عن هذا الشعب الأبي، فتاريخ اليمنيين حافل باختلاط الدم اليمني بالدم الفلسطيني منذ الطلقة الأولى بمواجهة نشأة الكيان المحتل عام 1948، يوم ارتقى ما لا يقل عن خمسين شهيدًا يمنيًا في جبهات يافا والقدس والخليل، وداخل المسجد الأقصى، ويوم فرضوا أول حصار بحري على كيان الاحتلال بإغلاق مضيق باب المندب أمام سفنه في حرب أكتوبر 1973، ويوم خلّد السوريون اسم الطيار اليمني عمر غيلان الشرحبي بنصب تذكاري في أكبر شوارع العاصمة السورية دمشق، تكريمًا لعمله البطولي في تلك الحرب، لتروي الأجيال بعد ذلك حكاية تطوع ابن محافظة تعز في سلاح الجو العربي السوري وانقضاضه على طائرة "فانتوم" وتحطيمها، وتدميره لمواقع تموين وتخزين العدوّ في طبريا جنوب جبل الشيخ، ليستشهد في إثر ذلك في الأول من أكتوبر 1973.

لم تمر خمسة أعوام، حتّى عبّد الشهيدان اليمنيان محمد حسين الشمري وعبد الرؤوف عبد السلام طريق القدس بدمائهما، وهما اللذان ارتقيا عام 1978 على أرض فلسطين، بعد تسلل مجموعتهم الفدائية بقيادة دلال المغربي عبر البحر إلى فلسطين وتنفيذها "عملية كمال عدوان"، ونجاحها بالسيطرة على حافلة تقل جنود العدوّ وقتل أكثر من ثلاثين منهم. بعد تلك العملية المدوية بأربعة أعوام فقط عاد يمن العروبة مجددً إلى الواجهة ليكون الملجأ الآمن لأبطال المقاومة الفلسطينية ووجهتها المقصودة بعد ترحيلهم من بيروت عقب اجتياحها من قبل جيش العدوّ عام 1982.

واليوم رغم الحرب الظالمة التي فرضت على اليمن، وما رافقها من عقوبات وحصار على مدى السنوات الماضية، خرج المارد اليمني أقوى وأشد عودًا، والتحق بطوفان الأحرار مخترقًا المعادلات، ومتحديًا كلّ التحالفات، بوقوفه إلى جانب شعب فلسطين المظلوم ونصرته لأهل غزّة التي فاقت كلّ التوقعات، وتجاوزت بأهميتها استخدام العرب لسلاح النفط بمواجهة العدوّ الغاشم خلال حرب 1967. لقد قلب اليمنيون موازين القوى الدولية، يوم تكفلوا بفك حصار غزّة، فأطبقوا حصارهم البحري الثاني (الأول خلال حرب 1967) على الكيان الغاصب، وشلوا مرافقه الحيوية جنوبًا ومنها مرفأ إيلات الاستراتيجي، وكسروا الهيبة والهيمنة الأميركية على البحار والمحيطات والمضائق المائية الدولية، عبر استهدافهم للسفن "الإسرائيلية" والغربية العابرة باتّجاه الكيان سواء عبر مضيق باب المندب ومضيق هرمز أو رأس الرجاء الصالح، ما رفع كلفة الفاتورة الاقتصادية للحرب العدوانية التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزّة.

هذا العام يجدد اليمنيون في يوم القدس أكثر من أي وقت مضى البيعة لفلسطين فهي كانت وستبقى بوصلتهم الدائمة ولن يحيدوا عنها مهما بلغت التضحيات، فتلك سياسة تاريخية ثابتة انتهجوها منذ 1948 ولا يزالون، ورسالتهم الأهم اليوم وهم يحيون يوم القدس تحملها صواريخهم ومسيّراتهم وهي تهز الكيان المؤقت، للمقاومة الفلسطينية في غزّة والضفّة، ومفادها: لستم وحدكم في الميدان ويمكنكم في الشدائد أن تراهنوا على يمننا الأصيل وكفى.

- المصدر: موقع العهد الاخباري
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع