شرحبيل الغريب*

بينما تجري جولة مفاوضات مكوكية بين حركة حماس و “إسرائيل” بوساطة قطرية وغطاء ودعم أميركيين كاملين؛ في محاولة لإبرام صفقة تبادل للأسرى كمرحلة أولى من أصل ثلاث مراحل، لقناعة توفرت لدى الإدارة الأميركية أن إطفاء نار الحرب المستمرة على قطاع غزة للشهر السادس يكون بالحل السياسي، تعيش حكومة نتنياهو حال اشتباك متصاعدة بينها وبين أطراف صهيونية أخرى.

ترى هذه الأطراف وقف الحرب ضرورة ملحّة بعد فشلها في تحقيق أهدافها، كما يرى يائير لابيد رئيس حكومة الاحتلال الأسبق الذي أعلن بشكل واضح ربطه بين الهزيمة التي تعيشها “إسرائيل” في غزة ووجود حكومة الائتلاف اليميني المتطرف، أما نتنياهو فلا يزال يطارد وهم الانتصار، رغم الإخفاقات الكبيرة والفشل الذريع وضيق الأفق في تحقيق أهداف الحرب الحالية المعلنة، وعلى رأسها القضاء على حماس وذراعها العسكرية وفصائل المقاومة الأخرى، وحكومتها في قطاع غزة، وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية، وتحرير الأسرى من قطاع غزة بالقوة العسكرية.

لنكن واعين أكثر، إذا ما نظرنا إلى الشهادات والمواقف عندما نتحدث عن إخفاق نتنياهو وفشله في حرب غزة من جهة، وهزيمة “إسرائيل” الاستراتيجية من جهة أخرى، جدير أن نصغي إلى تصريحات اللواء الصهيوني المتقاعد إسحاق بريك لصحيفة “معاريف” الصهيونية مخاطباً نتنياهو: لقد خسرنا هذه الحرب، لا يمكنك الكذب على الناس فترة طويلة”، وشهادات أخرى لكبار ضباط “جيش” الاحتلال الصهيوني الذين دخلوا غزة في معركتهم البرية وقالوا إن القتال فيها صعب ومعقد جداً، ناهيك بفاتورة القتلى والإصابات الكبيرة في صفوف الجنود والضباط التي وصلت إلى الآلاف ممن تفاجأوا من حجم استعداد المقاومة لهذه اللحظة من المواجهة، وهذا ما كشفت عنه حديثاً القناة 12 الصهيونية ، والتي أشارت إلى أن “إسرائيل” فقدت أكثر من 600 من جنودها و ضباطها، وأصيب أكثر من 3000 آخرين، وقالت إن هذا العدد يعادل حجم لواء كامل، وهو ما لم تفقده “إسرائيل” منذ عشرات السنين، ناهيك بأن الإحصائيات في هذا الشأن متضاربة، إذ صدرت إحصائيات في فترات سابقة تفوق هذه الأعداد بكثير.

استراتيجياً، الوقوف عند تصريحات الرئيس الأميركي بايدن هو أمر لافت وبالغ الأهمية، إذ وصف أحداث السابع من أكتوبر بأنها غيّرت العالم، وأن تبعاتها ستمتد طيلة القرن الواحد والعشرين، وحديث وزير خارجيته بلينكن مؤخراً عن تزايد المخاوف الأميركية من عزلة “إسرائيل” الدولية التي بدأت تتزايد، وعن تورطها في الغرق في وحل غزة، والتعبير الأميركي عن وجود تقديرات أن نتنياهو يكذب في ما يتعلق بنجاحه في القضاء على قدرات كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، و ادعائه أنه نجح في القضاء على 75٪ منها، فيما تشير تقديرات استخبارية غربية.

في السياق ذاته أن ما فقدته حماس من إمكانيات يتراوح بين 30-35٪، إذ يؤكد التقرير نفسه أنها قادرة على ترميمها في غضون عام إلى عامين على أبعد تقدير، وهذا يعطي مؤشراً واضحاً على أن “إسرائيل” طيلة الأشهر الستة نجحت في القتل والإبادة والتطهير العرقي والتدمير، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في القضاء والسيطرة على أحد أهم أهدافها التي أعلنتها، وهو القضاء على حماس والمقاومة في شمال غزة، وما قدرة المقاومة في التصدي لاقتحام مستشفى الشفاء إلا دليل ومؤشر على قوتها وشراستها التي كشفت فيها عن فشل “جيش” الاحتلال الصهيوني في فرض السيطرة الأمنية، كما أنها مؤشر على إخفاق “جيش” الاحتلال في تحقيق أحد أهم أهدافه، وتخلص الإشارة هنا إلى أن أهم الدروس في هذا الحدث المستجد، أن أي قوة عسكرية صهيونية يمكن أن تتحرك في أنحاء قطاع غزة ستكون بمنزلة هدف للمقاومة الفلسطينية.

نتنياهو يعيش مأزقاً كبيراً، وهو محشور في الزاوية، يطارد وهم الانتصار بتلويحه في آخر ورقة بيده، وتكرار تهديداته بدخول رفح وتنفيذ عملية برية فيها، وما زال يراهن على ذلك، لأنه يدرك أن اللحظة التي تنطفئ فيها نار هذه الحرب سيدق جرس التغيير، وسيحمّل مسؤولية الفشل التاريخي التي مُنيت به “إسرائيل” يوم 7 أكتوبر. في المقابل، وتحديداً في الداخل الصهيوني ، تتعالى الأصوات وتقول بوضوح لقد استنزفنا، وتدعو إلى تغيير حكومة نتنياهو في أقرب وقت، وترى أنه لا مفر إلا بإنهاء الحرب التي استنزفت كل مناحي الحياة في “إسرائيل”.

فعلياً، الحرب على غزة استنفدت كل أهدافها، وبعد أكثر من 170 يوماً، يدرك نتنياهو أنه بات أمام خيارين كلاهما مر، فإذا استمرت الحرب سيقتل كل أسراه في غزة وسيغرق في وحلها أكثر، وإذا توقفت سيدفع الثمن كبيراً وسيحاسب على فشله يوم 7 أكتوبر وسيكون السجن بانتظاره.

أما الحديث عن مفاوضات تجري في الدوحة، ففرص نجاح الصفقة التي تريدها أميركا حالياً ليست بالكبيرة؛ لسبب رئيس وواضح هو أن نتنياهو لا يريدها، وكل ما يفعله من مفاوضات وإرسال وفود هدفه شراء مزيد من الوقت، إذ يرى فيها معضلة شخصية له، ففي المرحلة الأولى منها ومدتها ستة أسابيع قد تفضي إلى امتداد التهدئة أكثر وطرح مشروع الانتخابات المبكرة في الكنيست الإسرائيلي، وصولاً إلى إخراجه من المشهد وفي سجله هزيمة كبرى مدوّية مع وعود بنصر مطلق لم يتحقق.

تدرك إدارة بايدن أكثر من غيرها أن الحشد الدولي لخيار الحرب العسكرية على غزة تراجع كثيراً ولم يعد متوفراً كالسابق، وكان آخر هذه المواقف موقف كل من ألمانيا وفرنسا، كما تدرك أن “إسرائيل” خسرت الحرب على جميع الصعد، وأن المدة التي منحت لنتنياهو كانت كافية، والغطاء والدعم الدوليين يتراجعان شيئاً فشيئاً، لكن أكثر ما يخيف أميركا الآن وما يجعلها تعمل على إنقاذ “إسرائيل” من نفسها وتصر على الحل السياسي، وجود تقديرات أميركية، أن “إسرائيل” تكذب في ما يتعلق بقدرتها في القضاء على حركة حماس وقدراتها العسكرية، و إدراكها أن “إسرائيل” لن تستطيع البقاء من دون الدعم الأميركي.

المعطى الأهم وجود مخاوف أميركية من تورط “إسرائيل” أكثر وعدم استطاعتها تحمل عبء توسع حرب استنزاف طويلة في جبهتين مع حماس في الجنوب، وأخرى مع حزب الله في الشمال في ظل استمرار النزيف داخل ألوية النخبة في “جيش” الاحتلال في مختلف محاور التوغل في قطاع غزة.

في أي حال، “إسرائيل” اليوم باتت تعيش حالة من العزلة لم تعشها من قبل منذ نشأتها، وهذا ما كشفت عنه حديثاً وثيقة أميركية داخلية لوزارة الخارجية الأميركية قال فيها إن إدارة بايدن قلقة من أن “إسرائيل” ترتكب خطأ استراتيجياً كبيراً في غزة، وأن الحرب على غزة باتت لا تحظى بشعبية في جميع أنحاء العالم، وعبّرت الوثيقة عن قلقها من تضرر سمعة “إسرائيل” وصورتها لأجيال قادمة، مقابل صعود كبير جداً وحضور للقضية الفلسطينية على المستوى العالمي بشكل عام، وتأييد عال لبرنامج المقاومة الذي هزم “إسرائيل” في ظل عدم تكافؤ القوة.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب