“طوفان الأقصى”… ومصالحة الشعوب
أحمد الدرزي*
على الرغم من التباين الشديد في تعبير الدول والقوى السياسية في أغلبية دول هذا المشرق عن موقفها السياسي تجاه نتائج عملية “طوفان الأقصى”، مع غلبة واضحة لأكثريتها بالاصطفاف مع الموقف الغربي العام الحامي للكيان “الإسرائيلي”، فإن المزاج الشعبي العام لشعوب هذه الدول كان متبايناً بوضوح عن سياسات الأنظمة السياسية وبعض القوى السياسية والعسكرية، والتي كان لها حسابات متباينة عن الشعوب التي أجمعت على الموقف الرافض لحرب الإبادة لأهل غزة والتفاعل بأشكال متعددة مع المقاومة الفلسطينية وقضيتها الأهم في العالم.
هذا المزاج العام الذي عبَّر عن نفسه بوضوح من خلال المظاهرات الضخمة التي حدثت في بعض الدول التي استطاعت أن تخرج عن إرادة أنظمتها السياسية، أو من خلال ارتفاع مستوى التعاطف والتأييد الضمنيين لغزة ومقاومتها في الدول التي منعت أنظمتها السياسية شعوبها من التعبير عن موقفها، أيقظ مخاوف حقيقية لدى النظام الغربي من تحولات مستقبلية لهذه الشعوب نحو قضية جامعة لها.
قد تكون النخب الأدبية من أكثر الفئات الاجتماعية قدرة على التعبير عن هذه المخاوف واستكناه مخاطر نتائج عملية “طوفان الأقصى”، وقد يكون المثال الأبرز في توضيح هذه المخاوف هو ما كتبه الروائي “الإسرائيلي” داڤيد غروسمان، في مقال نشره في صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان: إسرائيل تسقط في الهاوية، والذي اعترف فيه بأن “حق إسرائيل في الوجود موضع شك بشكل حماسي”. وأضاف باعترافه “أن هجمة الـ 7 من أكتوبر أيقظت تخوفاً من إمكان المصالحة بين الشعوب”.
هذه المخاوف لغروسمان لم تنشأ من فراغ، وهو الحائز أعلى جائزة أدبية إسرائيلية، بل من المشاهد العامة المتتالية الرافضة لسياسة الإبادة التي تتبعها “إسرائيل”، بدعم كامل من النظام الغربي عموماً، والتي انطلقت المظاهرات فيها بمئات الآلاف في أرجاء العالم وفي أعرق الجامعات العالمية الأكثر احتراماً، وفي المساجد ووسائل التواصل الاجتماعي.
غروسمان محق فيما ذهب إليه، وخصوصاً في منطقة المشرق التي عمل عليها النظام الغربي ضمن مشروعه لتحطيم المنطقة، والذي بدأ العمل عليه بوضوح في القرن التاسع عشر، واستطاع إنجازه بعد الحرب العالمية الأولى في إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية على يديه، على نحو يخدم نشوء كيان غريب عن نسيج المنطقة، تاريخياً وحضارياً، وأقام دولاً غير قابلة للاستمرار من تلقاء ذاتها بحكم مخالفتها للجغرافيا السياسية للمنطقة، وما تفرضه على شعوب المشرق من علاقات متداخلة فيما بينها ضمن إطار التفاعل الحضاري المتراكم التبادلي بالأدوار.
سيطرت الصراعات الدموية المتنقلة على تاريخ منطقة المشرق بعد نجاح الغرب في مشروعه، وكانت ضمن مستويين: الأول داخلي في كثير من الدول التي تتسم بالتنوع، طائفياً وإثنياً وقبلياً، كما في تركيا ولبنان والعراق وليبيا واليمن وسوريا والسودان. والمستوى الثاني هو الصراعات البينية بين الدول في حروب دموية مديدة (إيران والعراق) (سوريا وتركيا)، فتركت هذه الصراعات الدموية المبرمجة غربياً آثاراً عميقة من الجروح بين الجماعات الإنسانية ضمن الدول ذاتها وفيما بينها، وخصوصاً بين العرب والكرد والترك والإيرانيين.
أظهرت المظاهرات التي خرجت في المغرب وتركيا على سبيل المثال بعد 7 أكتوبر التوجه الحقيقي العام للشعوب، على رغم العلاقات التطبيعية عالية المستوى بين المغرب والكيان الصهيوني، وعلى الرغم من امتناع شعوب كثير من الدول من التعبير عن رفضها للإبادة وتأييدها لفلسطين حرة نتيجةً لقهر أنظمتها السياسية، فإن الإحصاءات التي قامت بها مراكز دراسات غربية أبرزت بصورة واضحة أن أكثر من 90% من السعوديين على سبيل المثال هم مع فلسطين حرة في إثر العملية، وهذا ينطبق بطبيعة الحال على الإمارات العربية المتحدة.
وقد يكون اليمن هو المثال الأوضح على تأثير الموقف المتقدم لأنصار الله في دعم غزة ومقاومتها في تأسيس الأرضية لمصالحة اليمنيين فيما بينهم، فالانقسام المعزز إقليمياً ودولياً بين اليمنيين، بدأ يفقد مبرراته بعد التدخل الواسع لأنصار الله في المعركة الدقيقة الشاملة التي تخوضها قوى المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا واليمن ضد النظام الغربي، وما ترتب على ذلك من تدخل غربي واضح في اليمن، الأمر الذي أحيا يقظة متنامية لليمنيين للتوجه نحو مصالحة سياسية من بوابة انكشاف الاستقطابات المتناقضة لليمنيين، واكتشاف المكنون السياسي الصادق لأنصار الله كقوة مقاومة منسجمة مع التاريخ اليمني المقاوم والرافض لأي استعباد، أياً كان مصدره. وما بوادر المفاوضات التي تجري بين حزب الإصلاح اليمني وأنصار الله للوصول إلى صيغة للمصالحة الوطنية سوى تعبير عن تحولات المصالحة الداخلية.
وكذلك الأمر في العراق، المشهود له بالانقسام السياسي المزمن. فإن انخراط المقاومة العراقية في دعم غزة وأهلها عبر استهداف الأميركيين في العراق وسوريا والأردن، بالإضافة إلى استهداف الإسرائيليين في فلسطين المحتلة والجولان السوري المحتل، فرض على القوى السياسية العراقية التي تسير مع المشروع الأميركي الصمت وعدم إظهار موقفها السياسي المؤيد للنظام الغربي إدراكاً منها للمزاج العراقي العام الداعم لغزة وأهلها وارتفاع أسهم المقاومة العراقية داخل العراق والخشية من المكاسب السياسية لها في الشارع العراقي.
قد تتباين سوريا عن سائر الدول بشأن عدم ظهور أي مؤشرات على مصالحة داخلية بعد، فالمشهد السوري أكثر تعقيداً من كل المناطق، وجرحها ما زال يحفر عميقاً في وجدان السوريين الذين انقسموا على أنفسهم، سياسياً وطائفياً وإثنياً، وارتباط هذا الانقسام بامتداد هوياته خارج الحدود السورية إقليمياً ودولياً. ومع ذلك، فإن آثار ما بعد الـ7 أكتوبر لن تبقى بعيدة عن السوريين.
نجاح المقاومة الفلسطينية في غزة وفي كامل فلسطين ومعها كل قوى المقاومة هو ما يعول عليه في تغيير مسار منطقة غربي آسيا قسراً، والتي تشهد صراعاً حاداً قابلاً للانفجار بين نظام غربي يسعى لاستمرار مشروعه القديم عبر صيغ جديدة من التحالفات الإقليمية تحت مظلته، وبين محور المقاومة الذي يخوض معاركه في كل الساحات وحيداً من دون دعم حقيقي من أي قوة دولية.
هذا النجاح المرتقب خلال الأشهر المقبلة يمكنه أن يؤدي دوراً مهماً في إطلاق عمليات مصالحة الشعوب خلال الأعوام المقبلة، ويمكّنها من التأثير في أنظمتها السياسية والدفع بها إلى تغيير تموضعها الجيوسياسي على نحو يساهم في إطلاق المصالحات الداخلية والإقليمية البينية، اعتماداً على تراجع تأثير الدور الغربي المحفز للصراعات، وإمكان انطلاق المشاريع التغييرية الداخلية والإقليمية البينية لاستكمال المصالحات على نحو يعيد المنطقة إلى سياقها التاريخي الطبيعي بعيداً عن تأثيرات النظام الغربي المدمر.
كل ذلك رهن نتائج المعركة الأشرس في تاريخ المنطقة المعاصر، والتي تجري في أرض فلسطين.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب