أحمد فؤاد*

 

ننتقل إلى مطلع شهر قتال سادس نجحت المقاومة الفلسطينية الصامدة في غزّة الأبية في جرجرة العدوّ إليه، وكتابة صفحات جديدة من عمر الأمة بتاريخ جديد في 150 يومًا بعنوان الفخر والشرف. وبالضبط كما كان “الطوفان” هو الفعل المناسب لزمن سيادة الجبروت والظلم وحقب المهانة، جاء أداء المقاومة على كلّ جبهات القتال وأمام كلّ أدوات البطش الأمريكية الحاضرة مجيدًا ومذهلًا، وهي كتبت منذ اليوم الأول للحرب أن الضمير اليقظ في هذه الأمة، المقاومة، قد تقبل الموت لكنّها ترفض الذلة.

الثابت والمفروغ منه في تقييم أية معركة عسكرية بين أطراف، هو أن الوقت عدو الحسم، وهو يعد إنجازًا للطرف المستضعف قليل الإمكانات، لكنّه يصبح سيفًا على رقبة الأقوى، خصوصًا إذا كان طرف يدّعي أنه لا يقهر، وأنه يملك الآلة العسكرية الأحدث والأكثر تطوّرًا ليس في المنطقة لكن في العالم أيضًا، ويحضر بشكل خاص إذا ما كانت المقارنة بين حركات مقاومة وبين الكيان الصهيوني الذي قام واستمر لركونه إلى منظومة السيطرة الغربية الكئيبة بالغة الإفراط على الكوكب، وعلى كلّ هيئة أو مجلس أو قرار يوصف بأنه “دولي”.

خلال معركة طوفان الأقصى رأينا للمرة الأولى جبهات تفتح ولا تغلق، وحضورًا أمريكيًا باهتًا أقل كثيرًا جدًا ممّا كنا نتصوره، ودورًا لواشنطن أدنى مما كانت تحمله صورتها النمطية الراسخة، وشهدنا للمرة الأولى على الإطلاق عملية عسكرية أمريكية عاجزة، وهي تفهم أنها عاجزة وتتصرف من هذا المنطلق، الأساطيل الأمريكية والغارات تحولت إلى محفز للإرادة على القتال والاستمرار في ميادين النار، خصوصًا أمام البأس اليمني وعنفوانه وفورانه.

“طوفان الأقصى” لم تكن لحظة انتفاضة أخرى وستمضي، بل كانت ذروة التغيير الاستراتيجي لخيار المقاومة من جولات قتال، قد لا تمتد لأكثر من أسابيع، إلى معركة حاسمة في الحرب طويلة المدى مع العدوّ الصهيوني، وأن قرار الحرب بحد ذاته، ثمّ بتوابعه الهائلة، قد ولّد الانطباع لدى العدوّ أولًا بالهزيمة والإحساس بالخطر الوجودي، وهذا ما يقوله الواقع السياسي عند عصابة وزراء العدو، وتخبطهم وبحث كلّ منهم عن شريك لما بعد الطوفان، والمظاهرات الداخلية والانقسامات التي تعصف بشوارعه وتسيطر على أحزابه، وهي كلها تعكس تشوش المشهد بأعينهم هم، وحكمًا على ما أنجزوه بمعاييرهم، وعلى موقفهم العسكري بفشله وضعفه وانكشاف عواره أمام العالم وأنفسهم.

اللحظة الأولى للمعركة كانت هي لحظة بداية الانفجار الكبير في المنطقة، ومعادلة التغيير، وهي أولًا كسرت معادلة السيادة الأمريكية على قرار المنطقة، وأخذته بين أيديها، وفي هذا الارتجاج الزمني، فإن كلّ احتمال وارد وكلّ سيناريو ممكن، هنا فقط يستطيع الإنسان أن يقول إن المنطقة مقبلة على زمن جديد بعنوان إعادة الاكتشاف والتعريف والقسمة، وأن الجميع مهما بدا لهم الابتعاد حلًا متاحًا أو غرّهم خيار الاستسلام، هم من ضمن صف الخسائر المهولة.

اليوم؛ العالم العربي أمام السؤال الأصعب “ماذا بعد؟”. فالعملية العسكرية الصهيونية ومدد الدعم الأمريكي قد وصلا إلى نقطة العجز الكامل عن تغيير الأوضاع القائمة أو فرض واقع جديد، ولجوء جيش العدو إلى مذابح القتل الممنهج والواسع ما هو إلا شاهد على بؤس لائحة الخيارات أمامهم. بعد شهورٍ من القتال لم يتقدّم الجيش الذي لا يقهر في غزّة، وبالرغم من كلّ ما يمتلكه من قوة نيران لم يفلح في تركيعها أو إجبارها على الاستسلام، وحتّى المناطق التي يعلن إنهاء عملياته فيها لا تلبث أن تعاود الظهور أمامه واصطياد قطعان ألوية النخبة عنده، وقرار “الهدنة” هو رغبة أمريكية أولًا لإعادة ترتيب أوراقها وتنشيط خلايا القوّة لديها.

بالرغم من كلّ ما دُفع في جبهات القتال من الدم والفداء، فإنّ المقاومة غيّرت صورتنا التي حاول الغرب زرعها فينا، صورة العربي المستسلم القدري الكسير، في مقابل صورة الصهيوني المتفوق العنيد، وهي كانت تحشد وتهيئ كلّ إمكاناتها لتأطير هذه الصورة الكاذبة، بأساليب وسياسات يختلط فيها العنف بالخداع، والاغتصاب بالخيانة المريرة، لاستيلاد وتنمية فكرة “الهزيمة” كقدر عربي نهائي لا فكاك منه، وبالتالي تجعل خيارات كريهة أخرى أقل بؤسًا وإدانة، حتّى على مستوى الضمير.

اليوم سيشهد جيل عربي جديد إرهاصات مولد عصر العجز الصهيوني والأمريكي، على جبهة جنوب لبنان استبدل الجيش الصهيوني الصواريخ والقنابل بالتهديدات والقصف بالوعيد، هذا الموقف يخصم من رصيد الكيان وفكرة استمراره، هو يشعر بالقلق لكنّه لا يستطيع رده ولا ردعه، وحتّى بالنسبة إلى مستوطني شمال فلسطين هم يجاهرون بهذه الحقيقة ويصفعون بها ملكات الإحساس والرؤية عندنا.

قدمت المقاومة وعلى الأرض، ومن قلب الواقع العربي الملعون وآلامه وآثامه، الحل للشعوب العربية التي تبحث فعلًا عن حل، بداية إجابة سؤال “إلى أين؟”، إلى هنا حيث ننتمي وحيث تحيا أحلامنا ومصالحنا، وأن الإجابات غيرها فاشلة وناقصة، ولن تقدم المؤسسات الدولية على ضفاف الأطلنطي للإنسان العربي غير التباكي بدموع التماسيح عليه، وأن الخيار الآن لم يعد فيه ضحايا، إما حرّ مقاوم أو ضحية بائسة لن توقف أحدًا، هذا إن التفت لها.

بعد 150 يومًا من القتال، استرد ّالعالم العربي الاسم والعنوان، فلسطين قضيته الأساسية ومحور حياته وصراعه الوجودي، بعد سنوات من محاولات التغييب والتهميش والنسيان العمدي المجرم، لو كان هذا البند هو الهدف الوحيد الذي تحقق من “طوفان الأقصى” فإن المقاومة قد نجحت في تحقيقه وإنقاذنا، على حد سواء.

* المصدر: موقع العهد الاخباري

* المقال يعر عن وجهة نظر الكاتب