د. علي زعيتر*

مئة يوم من الحصار والقتال. إنها المدة ذاتها التي استغرقها حصار الإسكندر المقدوني لغزة عام ٣٣٢ ق.م، قبل أن تسقط بيده، فيدخلها ويشرع في قتل رجالها، وبيع نسائها وأطفالها، حتى لم يستبقِ منهم نسمة. فهل يعيد التاريخ نفسه، أم تكسر غزة السياق التاريخي، وتعيد كتابة التاريخ بالطريقة التي تحلو لها؟

عام ٣٣٢ ق.م كان الإسكندر يطمح لتأسيس إمبراطوريته الكبرى، بيد أن إمبراطوريةً موازية، حاولت أن تحد من طموحه، فوقع الصدام. إنها الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، صاحبة اليد الطولى في الشرق، والآمر الناهي. آنذاك، كانت بلاد كنعان جزءاً من تلك الإمبراطورية، ولمَّا كانت السيطرة عليها مطمعاً استعمارياً يستحق المحاولة، فقد شد الإسكندر الرحال إليها عازماً على انتزاعها من يد الأخمينيين، فكان أن وقعت معارك عدة في نواحٍ متفرقة منها، كان أهمها معركتا حصار صور وغزة.

لا يتوهمن أحد لوهلة، أن ما يجري في غزة اليوم جديد عليها. لطالما عانت من الحصار والقتال تماماً كما عانت سائر المدن الكنعانية على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. لعل الجديد في الأمر نوع الأسلحة المستخدمة، ففي العام ٣٣٢ ق.م كان الإسكندر مضطراً لاستعمال السيف وركوب الخيل ليقتل كماً محدوداً من العرب الكنعانيين، أما اليوم فسلاح الجو الصهيوني كفيل بقتل الآلاف في بضع غارات جوية.

إن السيرورة التاريخية القائمة على المبدأ الآتي: “غالباً ما يعيد التاريخ نفسه” تحتم علينا أن نقارب حرب غزة الجارية من زاوية تاريخية، فنقول، إن كثيراً من المؤرخين المعاصرين، حاولوا على وقع المعارك الدائرة في غزة حالياً، أن يسلطوا الضوء على نقاط الشبه المشتركة بين الحرب الجارية والحصار الذي ضربه عليها الإسكندر قبل نحو ٢٣٥٦ سنة، فهل أصاب هؤلاء المؤرخون في ما ذهبوا إليه من مقارنات واستنتاجات، وما أهم أوجه الشبه وأوجه التباين بين الحربين؟

أوجه الشبه:

أ_ مثَّل حصار غزة ذروة الصراع على النفوذ بين الإمبراطوريتين اليونانية والأخمينية الفارسية. واليوم تمثل حرب غزة ذروة الصراع بين الإمبريالية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، وبين محور المقاومة الذي تقوده الجمهورية الإسلامية، مع فارق التشبيه بين إيران الحاضر وإيران الماضي، فإيران الفارسية الأخمينية كانت تحركها النزعة الاستعمارية التوسعية القائمة على استعباد الشعوب وسرقة مقدراتها، أما إيران المعاصرة فتتحكم فيها تعاليم الإسلام التي تدعو إلى نصرة المستضعفين والذود عنهم، أياً كان انتماؤهم الديني والعرقي، فما بالك إذا كانوا مسلمين مستضعفين كحال أهل غزة.

بـ_ على ما يبدو، فقد كُتب على غزة أن تخوض حروبها داخل الأنفاق، إذ ينقل المؤرخ الروماني كوينتوس كورتيوس يوفوس (Quintus Curtius Rufus) الذي عاش خلال القرن الأول الميلادي، أن الجيش الإغريقي لم يتمكن من دخول غزة إلا بعد أن حفر أنفاقاً تحتها، وقد ساعدته على ذلك ــ بحسب روفوس ــ طبيعة تربتها الرملية.

المفارقة، أن الأحفاد تعلموا من تجارب الأسلاف، فبدل أن يحفر الصهاينة الأنفاق ليدخلوا غزة، استعار الغزاويون من قدامى اليونانيين الفكرة وأعادوا إحياءها، فحفروا الأنفاق تحت مدينتهم، وأجبروا عدوهم على خوض معاركه فيها. لقد بنى الغزاويون شبكة معقدة من الأنفاق تحت مدينتهم، حتى تكاد تحسبها مدينة تحت مدينة، لشدة تعقيدها.

جـ_ تركيبتها السكانية الحالية هي عينها التي كانت عليها زمن الحصار اليوناني، فقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت أن حاكم غزة كان عربياً ويلقب بملك العرب، ما يعطي انطباعاً حول الهوية القومية للسكان في ذلك الوقت، وذلك بخلاف ما تروج له الدعاية الصهيونية التي تزعم أن العرب طارئون على فلسطين.

أوجه التباين والاختلاف:

أ_ في زمن حصار الإسكندر، كان الحاكم على غزة معيناً من قبل الإمبراطور الأخميني، وكان جيشه خليطاً من العرب وأقوام أخرى. أما اليوم فحكومة غزة منتخبة من قبل شعبها، وما علاقتها بإيران الإسلامية إلا علاقة حليف بحليف وند بند. ولا غرابة في ذلك، فكلاهما يَحترمان ويُحترمان، الإيراني والفلسطيني.

في زمن الأخمينيين لم يكن الأمر كذلك. كانت العلاقة بين الطرفين أشبه بعلاقة تابع ومتبوع، عبد وسيد تماماً كحال حكام الجزيرة العربية في أيامنا هذه. فأغلب هؤلاء تجمعهم بواشنطن علاقة رئيس ومرؤوس.

بـ_ إن حصار غزة الذي دام لمدة مئة يوم، انتهى بهزيمة نكراء للغزاويين القدماء، أما أحفادهم المعاصرون فقد تخطت حربهم مدة المئة اليوم، وما زالت انتصاراتهم تتوالى على الصهاينة وداعميهم الدوليين والإقليميين.

جـ_ كانت وما زالت غزة ممراً إجبارياً للغزاة الطامحين للاستيلاء على مصر. في زمن الإسكندر، كان سقوط غزة مقدمة لسقوط مصر. أما في وقتنا الراهن، فلا يبدو أن الأمور مشابهة. مصر ليست غاية، وغزة ليست وسيلة. فاتفاقيات التطبيع التي وقعتها مصر السادات ومصر مبارك حيدتها جانباً وجعلتها بمنأى عن كل صراعات المنطقة.
قبل ٢٣٥٦ سنة، كانت عينا الإمبراطوريتين الإغريقية والأخمينية على مصر، ما جعل الصراع على غزة يحتدم بينهما. أما اليوم، فلا الإيرانيون طامحون لتوسيع نفوذهم وصولاً إلى مصر، ولا العبرانيون ورعاتهم الغربيون طامعون في مصر، فما حاجتهم بها وهي طوع يمينهم؟

د_ كانت غزة زمن الإسكندر، أشبه بمفترق طرق عالمي، فهي تربط ما بين قارتي آسيا، وأفريقيا، فإذا ما أرادت أي قافلة تجارية أن تنتقل بين طرفي العالم القديم (آسيا وأفريقيا) عليها أن تعبر لزاماً في غزة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الجيوش الغازية. أما اليوم فقد تحولت إلى قطاع صغير، مكتظ بالسكان، يكاد لا يدخله أي وافد جديد. ديمغرافيتها تتسع باستمرار، نتيجة التوالد، فيما جغرافيتها آخذة في الانكماش نتيجة سياسة القضم الصهيونية.

هـ_ في عام ٣٣٢ ق.م سقطت غزة، بعد مئة يوم من الحصار، أما في العام ٢٠٢٤ فما زالت تقاتل رغم مرور ما يزيد عن مئة يوم، فما السر؟

يكمن السر في الجانب العقائدي والإيديولوجي، فغزة زمن الغزو اليوناني، كانت تقاتل نيابة عن الفرس الأخمينيين، أما اليوم فهي تقاتل نيابة عن نفسها وعن كل الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال وفي الشتات. آنذاك لم يكن هناك قضية يقاتل لأجلها الكنعانيون العرب، أما اليوم فقد اختلف الأمر. القضية مكتملة الأركان، وكل ما تحتاج إليه هو المزيد من التضحية وبذل الدماء.

إن التجارب الراهنة والأحداث المعاصرة، أثبتت صوابية مقولة “التاريخ غالباً ما يعيد نفسه”، بنسبة تفوق التسعين بالمئة. ولكن علينا أن نحترس، فمن يصنع التاريخ ليس كمن يكتبه! ومن يقف على البدايات ليس كمن يقف على النهايات! قد تتطابق البدايات وقد تتشابه الأحداث والوقائع، ولكن حتماً، ما من نهاية تشبه الأخرى. لكل بداية نهاية مختلفة.

* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المقالة تعبر عن وجه نظر الكاتب