شرحبيل الغريب*

تقديم جنوب أفريقيا دعوى قضائية في محكمة العدل الدولية ضد “إسرائيل” بارتكابها جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة هو خطوة شجاعة وجريئة، وتأتي تعبيراً عن رفضها جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يمارس على مدار أكثر من 3 أشهر بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، والمراد منها اتخاذ قرارات قضائية عملية بحق قادة الاحتلال الصهيوني الذين يصنفون وفق القوانين والأعراف الدولية مجرمي حرب أمام صمت 18 دولة عربية موقعة على نظام محكمة العدل الدولية.

خطوة جنوب أفريقيا ليست مستغربة، بل تعكس مبدأ واضحاً وثابتاً، فهي دولة لها تجارب سابقة في مقاومة الاحتلال ورفض كل أشكال التمييز العنصري، وهي تأتي ترجمة فعلية لمواقفها المعلنة تجاه “إسرائيل” التي تصفها دولة احتلال وإرهاب وتمييز عنصري. وقد سُجل لها مواقف مشرفة في وقت سابق إبان رفضها دخول “إسرائيل” في عضوية الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب.

المحكمة قبلت الدعوى، وحدّدت أولى جلساتها يوم 11 كانون الثاني/ يناير الجاري. تركيا وماليزيا ساندتا الدعوى، إلى جانب 100 محامٍ تشيلي معظمهم من أصول فلسطينية تقدموا بشكوى أخرى أمام الجنائية الدولية ضد نتنياهو بشأن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949.

أما الجامعة العربية كإطار عربي جامع، فقد رفضت الانضمام إليها أو دعمها ومساندتها. وعلى صعيد الدول العربية منفردة، فإن الصمت يلازمها، وهي ترفض الانخراط فعلياً فيها. جزء من هذه الدول يقف موقف الصامت المتفرج على قتل أطفال غزة وجرائم الإبادة الجماعية التي تمارس بحق الشعب الفلسطيني، وجزء آخر وضع نفسه في خانة المطبع المتواطئ المنحاز إلى “إسرائيل”.

الحقيقة الدامغة في هذا المقام أن جنوب أفريقيا أوقعت الدول العربية بهذه الخطوة الجريئة في حرج كبير، ولو وجد المطبعون فرصة لتقدموا بدعوى ضدها بذريعة تدخلها في الشؤون العربية الداخلية.

من الواجب شكر جنوب أفريقيا على تقديم مثل هذه الدعوى لإعادتها الاعتبار إلى القانون الدولي أمام محكمة العدل الدولية، وتذكير العالم بعدالة القضية الفلسطينية، وبالظلم الكبير الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وبإثارة الرواية القانونية الحقيقية في المسرح الدولي، وبحرب الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، وتعرية صورة “إسرائيل” وتجريم فعلها الإجرامي أمام العالم، وهي التي تعد نفسها دائماً فوق القانون الدولي، وتضرب عرض الحائط بكل الأعراف والمواثيق الدولية والإنسانية مع ما توفره أميركا التي فصّلت القانون الدولي على مزاجها من غطاء لمسلسل ممتد من جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

ثمة سؤال مركّب يطرح نفسه في هذا السياق الذي فرضته جنوب أفريقيا على مسرح القانون الدولي في سابقة لم تمر من قبل؛ ففي السابق لم يتعاطَ الاحتلال الإسرائيلي مع هذه القضايا بجدية، لكونه يدرك نهايتها. أما هذه الدعوى، فقد جعلت “إسرائيل” تستنفر سفاراتها وتستعين بقاضٍ أميركي للمرافعة أمام المحكمة، فلماذا تقدمت جنوب أفريقيا بهذه الخطوة؟ وهل تخشى الدول العربية رد فعل أميركا و”إسرائيل” من اتهام الأخيرة بارتكاب جرائم إبادة جماعية هذه المرة؟

مسألة المشروعية بحد ذاتها هي مسألة محسومة لا جدال فيها أمام حجم الإجرام الصهيوني الذي يمارس على الشعب الفلسطيني لأكثر من 70 عاماً مستمرة، وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص.

وللإيضاح أكثر في هذا السياق، فإن قرارات محكمة العدل الدولية تعد ملزمة ونهائية في ما يتعلق بالدول، ويمكن التقدم باستئناف ضدها في بعض الأحيان وفق المادة 94-1 من الميثاق، والمادة 60 من النظام الأساسي، ولمجلس الأمن السلطة، بناءً على طلب الدولة المتضررة، لتنفيذ تدابير خاصة لإنفاذ الحكم الصادر من محكمة العدل الدولية (المادة 94-2 من الميثاق).

وبناء عليه، فإن ما صرح به وزير خارجية دولة جنوب أفريقيا يعد الهدف الرئيس من وراء هذه الدعوى التي حسم فيها موقف حكومته بتجريم العدل الدولية جرائم “إسرائيل” التي ترتكبها بحق الفلسطينيين.

السياسة لا تعرف إلا كتابة الحقيقة، ولكل مقام مقال. الصمت العربي في التحرك القانوني رداً على جرائم الإبادة الجماعية قضية غير مبررة، والامتناع عن الفعل القانوني أمام المحكمة العدل الدولية والمؤسسات الدولية الأخرى بحد ذاته جريمة، وينضوي تحت إطار استراتيجية التسويف والمماطلة إلى جوار ازدواجية المعايير في إفلات قادة الاحتلال الصهيوني من العقاب، في وقت باتت كل دقيقة تمر على الشعب الفلسطيني يحدث فيها انتهاك فاضح وصارخ وضياع للحق الفلسطيني وغياب للعدالة الدولية وللدور العربي المنتظر في إسناد الشعب الفلسطيني في المحافل القانونية والدولية كافة.

أعود بالذاكرة إلى الوراء، وإلى ما قبل العام 2000م، وتحديداً خلال زيارة تاريخية قام بها نيلسون مانديلا إلى قطاع غزة، وفي تصريح مشهور له قال فيه: “علينا أن نختار السلام والاستقرار بدلاً من المواجهة، إلا في الحالات التي لا نستطيع فيها المضي قدماً، واذا كان البديل الوحيد هو العنف (وتعبير العنف هنا هو الإجرام الصهيوني بحق الفلسطينيين) فسوف نرد بطريقة العنف”.

تتجسد تصريحات مانديلا اليوم بعد أن مضى عليها أكثر من 23 عاماً. فالدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا تعتبر خطوة استثنائية قائمة على النهج والمبدأ الرافض للظلم وجرائم الإبادة من جهة، والجدية في الوقوف بوجه “إسرائيل” وتجريم فعلها بحق الفلسطينيين في قطاع غزة من جهة أخرى.

الدعوى التي قدمتها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية فيما يزيد على 80 صفحة معظمها من مخرجات القمة العربية والإسلامية الأخيرة التي عقدت في السعودية، لكن تصر كثير من الدول العربية على صمتها وامتناعها القيام باتخاذ خطوات عملية ضد “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية، فيما تصر الخارجية الأميركية في تصريحات رسمية لها على أن ما يجري ليس جرائم إبادة جماعية، بعدما دعمت بالسلاح ووفرت غطاءات للقتل والإبادة الجماعية في غزة، بل وفصلت القوانين الدولية على مزاجها وبما يروق لها، على قاعدة مصلحة “إسرائيل” أولاً وأخيراً، حتى لو قامت الدنيا وقعدت.

الفارق في المشهدين أن مجموع هذه الدول التي وقعت على قرارات البيان الختامي للقمة العربية والإسلامية تفتقد الإرادة السياسية والشجاعة والتحدي أو حتى التصدي لعمل قانوني جاد بهذه الأهمية وهذا الحجم.

دعوى جنوب أفريقيا هي دعوة استثنائية بالغة الأهمية، يجب دعمها بكل الوسائل والسبل الكفيلة بتجريم “إسرائيل”، بل إن مجرد دعم هذه الخطوة الجريئة سيغير الرواية والسردية الغربية والدولية تجاه كل ما يجري على مدار 3 أشهر في قطاع غزة، وسيضع الدول الغربية التي تنادي بالقوانين الدولية والإنسانية أمام اختبار حقيقي، وخصوصاً الدول الموقعة على اتفاقية الإبادة في جنيف. وقتها، ستكشف الحقيقة ويزاح الستار عنها: هل هي دول تصطف إلى جانب العدالة الدولية والقانون الدولي والإنساني أم أنها مع قانون شريعة الغاب!

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة الكاتب