الخفيّ في الجليّ
بثينة شعبان
بعد كلّ جرائم حرب الإبادة اللامسبوقة التي يرتكبها كيان الأبارتيد الصهيوني على الشعب الفلسطيني الأعزل، وخاصة إبادته للنساء والأطفال وقصفه المدمّر للمدارس وقتله النازحين بدم بارد، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر يوم الأربعاء الماضي أن “الولايات المتحدة لا ترى أي أعمال في غزة تشكّل إبادة جماعية”، ممّا يؤكّد أن القيم الغربية تقوم على العنصرية والإبادة العرقية للشعوب مهما حاول الإعلام الغربي التغطية على جرائم حكوماته. كما صرّح رئيس الوزراء البريطاني الهندوسي ريتشي سوناك أنه “لا يعتبر قتل المواطنين الفلسطينيين انتهاكاً للقانون الإنساني”، بينما حضّ وزير خارجية بريطانيا كيان مجرمي الحرب على اتباع “نهج أكثر استهدافاً” في حربه ضد حماس، ممّا يؤكد مرة أخرى همجية الغرب عند تعامله مع الشعوب الأخرى.
بينما كانت الجمعية العامة قد اعتمدت قراراً بعنوان “حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير” حصل على تأييد 172 دولة وعارضته أربع دول فقط، منها كيان الإبادة الصهيوني والولايات المتحدة الداعمة دوماً لجرائم “إسرائيل” ضد الإنسانية، وإن كان هذا يدل على شيء فإنما يدل على أن حكومة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وحكومات الدول الغربية لا يمثّلون إلا القيم الاستعمارية المتوحّشة، ولكن يمطرون العالم بوابل من السرديات والمصطلحات والمفارقات اللغوية والمفهوماتية التي يقتبسها معظم من يقرؤون ويكتبون من دون تحرير أو تغيير في اللغة والمضمون.
فقد أصبح جليّاً اليوم أن الغرب برمّته لا يأبه بالإنسانية ولا بحقوق البشر، وأنه لا يوجد في سياسات حكوماته أي احترام لقانون إنساني دولي، ولا منظمات دولية مستقلّة فعلاً قادرة على العمل خارج نطاق الإرادة الوحشية الغربية، وأن ما يقوم به كيان الإبادة الصهيوني في فلسطين والمنطقة هي جرائم إبادة وتطهير عرقي وإرهاب منفلت من عقاله، وحائز على تواطؤ القوى الغربية كلها معه في تقديم الدعم العسكري وفي الصمت الإعلامي والتبرير السياسي والشروحات الواهية.
وغالبية ما يكتبه الغربيون في إعلامهم المسيّر من قبل الصهيونية العالمية عمّا يجري في فلسطين مضلّل للقرّاء، إذ إن ما يجري ليس حرباً بين طرفين، بل هي إبادة وحشية موصوفة من قبل قوة استعمارية صهيونية تنهل من التاريخ الغربي تقاليد الإبادة العرقية، وهي تمتلك كل وسائل الإبادة ومدعومة بشكل غير مشروط من أعتى قوة عسكرية في العالم، في حين أن المقاومين لا يمتلكون طيراناً ولا أسلحة ثقيلة أو مدرّعات بل يدافعون بلحمهم الحيّ عن كرامة وطنهم وأمّتهم، في الوقت الذي يرتكب فيه كيان الإبادة الصهيوني أبشع أساليب القتل والتعذيب والحرمان والحصار والفتك بالبشر والشجر والحجر، ويرتكب عشرات المجازر المخزية يومياً في “هولوكوست” غير مسبوق.
إن أول ما على العرب أن يدركوه من المحيط إلى الخليج هو أن حرب الإبادة هذه موجّهة إليهم جميعاً، وأنّ الفلسطينيين يواجهون اليوم هذا العدوان الآثم الذي لا يستهدفهم فقط ،وإنما يستهدف عروبتهم وعروبة الدول العربية جميعاً وتاريخهم وتراثهم وحضارتهم ومقدّراتهم، وإن كان هذا غير واضح اليوم فالبعض من العرب يعتقد أنه وسيط، والآخر مقرّب، والثالث أنه محمي ومصان، ولكن الحقيقة الساطعة هي أن الحقد الصهيوني على فلسطين والفلسطينيين هو جزء لا يتجزأ من الحقد الغربي القديم الجديد على العرب والعروبة، وأن الهدف الأهم للصهاينة ليس فقط السيطرة على أرض فلسطين بل السيطرة على الوطن العربي بكلّ أقطاره واستعباد العرب ونهب ثرواتهم كما فعلوا في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا.
من هذا المنظور فقد خسر العرب جميعاً فرصة تاريخية في أن يثبتوا قوتهم ووحدتهم وبأسهم في الوقوف بكلّ ما أوتوا من قوة مع أخوتهم الفلسطينيين، ليس من أجل فلسطين فقط، وإنما من أجل مستقبل بلدانهم وحماية لهم ولمستقبل أجيالهم من قدر مشابه لما يواجهه الفلسطينيون اليوم في الضفة وغزة، والتصريحات الوحشية لمجرمي الحرب من قادة الصهاينة عن أن “محو قطاع غزة متعة للعين”، وأنه “لن تصل أهل القطاع نقطة ماء”، وأن “الهدف هو محو قطاع غزة من على وجه الأرض”، ليس بعيداً أبداً عن أهداف الصهاينة للعرب جميعاً وللبلدان العربية برمّتها من دون التمييز بين بلد عربي وآخر.
ولذلك ورغم الجهود المحمودة والتضحيات في لبنان واليمن والعراق في المساندة لأهل فلسطين إلا أنني أتحدّث عن موقف عربي يُسمِع صوته للعالم بشأن فلسطين ويعتبر الوجع الفلسطيني وجعاً عربياً بحتاً، ويستخدم كل الوسائل المتاحة لنصرة فلسطين وأهلها ضد العدوان والإبادة، ومردود ذلك للعرب أنفسهم في بلدانهم قوةً وعزةً ومنعةً واحتراماً.
رغم اختلال ميزان القوة الكبير بين كيان الإبادة الذي يمتلك كل أسلحة الدمار والقتل والإرهاب والمدعوم بلا حدود من قبل غرب استعماري متوحّش وبين مجموعة مؤمنة مقاتلة، فقد تمكّن المقاومون في جميع الميادين أن يثبتوا تفوّقاً في الإرادة والعزم والتضحية والأخلاق، وهذا يجب التوقّف عنده مليّاً لأن الصراع في أساسه هو صراع حضاري بين العرب وبين شُذّاذ آفاق يدّعون الحضارة وليس لهم من الحضارة الإنسانية من شيء.
لنتوقّف قليلاً عند الكوادر الطبية في غزة والتي فضّلت الشهادة على مغادرة مرضاها الذين قضى أكثر من 800 منهم شهداء، كما أنه لا يزال المئات من الأطبّاء والممرضين العاملين في المشافي يرزحون في المعتقلات الصهيونية ويعانون من أبشع جرائم الحرب والتعذيب والإذلال؛ أوليس هذا جديراً بحملات يقوم بها كتّاب عرب بكلّ لغات الأرض ليظهروا للعالم من هم العرب، وما هي أخلاقهم وحجم الفرق بينهم وبين مجرمي الحرب الصهاينة ممّن يستهدفهم ويعتدي عليهم؟
أوليس تعامل المقاومين مع الأسرى عنوان فخر واعتزاز بينما لا يستحقّ مجرم الحرب الصهيوني في سجلّه مع الأسرى العرب سوى الخزي والعار؟ هناك مئات المجالات التي يمكن للكتّاب والفنانين والمفكّرين العرب أن يساندوا إخوانهم ضد عدوان لئيم عنصري حقود ولكنّ ما شهدناه هو نزر يسير ممّا يستحقه الزمن والموقف.
الهدف الصهيوني المعلن من حرب الإبادة هذه هو القضاء على حماس، ولكن الهدف الحقيقي هو إبادة الشعب الفلسطيني والاستيلاء على الأرض وإرهاب العرب جميعاً من الوقوف في وجه هذا الوحش الصهيوني الذي برهن أنه لا يقيم وزناً لأعراف حرب أو أخلاق أو قوانين إنسانية ودولية، فترهيب العرب والعالم هو هدف خفيّ جليّ في الوقت ذاته، ومن الضروري فهمه على حقيقته من أجل اتخاذ الخطوات المناسبة في مواجهته.
هذا مثل واحد وغيض من فيض، أمّا السرديات التي يستخدمها مجرمو الحرب الصهاينة وأعوانهم فمن السهل جداً تفكيكها وإثبات زيفها وتناقضها مع كل ما تشاهده العين وتسمعه الأذن، ولكن للأسف ليس لدى العرب تلك المجموعة المنظّمة المستعدة فقط لمقارعة مفاهيم الأعداء وطرح المفاهيم السليمة بديلاً عنها واستبدال سردياتهم المزيّفة بسرديات مُقنِعة تظهر الواقع على حقيقته وتخاطب العقول والأنفس البشرية السوية.
العتب الثاني هو على الأسرة الدولية الشرقية والجنوبية والتي ولسنوات تحضّر للعمل ضد الهيمنة الاستعمارية الغربية على المنظمات الدولية وعلى الوضع المالي والاقتصادي العالمي، وها هي حظيت بفرصة إظهار دعم الغرب لإرهاب موصوف وإبادة مخزية بحق الأطفال والنساء، فأين هي التحرّكات القانونية والإعلامية التي تليق بالحدث وتطمح ليس فقط لنصرة فلسطين وإنما لدكّ الأسس المهترئة للهيمنة الاستعمارية الغربية واستبدالها بنظام عالمي وأخلاقي يعبّر فعلاً عن ضمير البشرية وطموحها في تحقيق الأمن والسلم الدوليين، مع توجيه التحية هنا لجنوب أفريقيا التي رفعت دعوى على كيان الإبادة الصهيوني بشأن جرائم الحرب التي يرتكبها في غزة أمام محكمة العدل الدولية.
بعد أن حال المقاتلون الجبارون بين كيان الإبادة الصهيوني وادعاءاته بامتلاك “جيش” لا يقهر، وبين انتصاره في المعركة الذي ظنّه قريباً وبرهن حتى اليوم الثالث والتسعين أنه بعيد المنال، بعد كل هذا لجأ الصهاينة في الكيان وجيش الاحتلال الأميركي إلى توجيه ضربات إرهابية في سوريا ولبنان وإيران والعراق ليبرهنوا أنهم قادرون على إلحاق الأذى بدول المقاومة، وأنهم يمكن لهم أن يطالوا من ناصَبَهم العداء على أي أرض كان.
ولكن هذه محاولات مكشوفة لتوسيع رقعة الصدام وإمداد مجرم الحرب نتنياهو بالوقت والمدد الكافي لإطالة عمر حكومته، ولن تنال من عضد المقاومين الصابرين والناذرين أنفسهم لقضاياهم. فقد اغتال العدو الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس منذ ثلاثين عاماً، فهل حماس اليوم أضعف أم أقوى ممّا كانت لدى اغتيال مؤسسها؟ المسألة ليست حماس وإنما أصحاب الحق في مواجهة المعتدين والقتلة والظالمين، ولا شك أن الحق هو المنتصر في النهاية.
لقد أثبت المقاومون الشرفاء قوة العقيدة والإيمان لديهم وأوْدوا بنظريات أسطورة القوة الصهيونية في مهبّ الريح، ولكن العرب والعالم الشرقي والجنوبي قصّروا بحق أنفسهم، وما يجري اليوم من مفاوضات وخطط سوف تأخذ بالحسبان هؤلاء الذين تبنّوا المقاومة والمقاومين، وليس الذين صمتوا أو حاولوا استرضاء المعتدين. وسوف يظهر الخفيّ بعد حين ويبرهن أنه كان واضحاً في الجليّ الذي نشهده اليوم وأن ما يتمّ خطه اليوم سوف يكون حُكماً ما نقرأه جميعاً يوم غد.
- المصدر: الميادين نت
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع