حسن لافي*

اقترب العدوان الصهيوني على قطاع غزة من يومه السبعين مع استمرار الجيش الصهيوني في عمليته البرية التي بدأت في السادس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر، والتي دشنت المرحلة الثانية من مراحل الحرب، بعدما سبقتها المرحلة الأولى التي كان عنوانها استعادة السيطرة على مستوطنات غلاف غزة بعد عملية طوفان الأقصى والقصف الجوي الجنوبي على كل مدن قطاع غزة، والتي استمرت قرابة 19 يوماً.

ولكن قبل الانتهاء من المرحلة الثانية من الحرب، والتي من الواضح أنَّ الجيش الصهيوني متعسر جداً في تحقيق هدفيها الأساسيين، وهما تدمير المقاومة الفلسطينية في غزة، وخصوصاً حركة حماس، وبناها التحتية والعسكرية والحكومية، إضافة إلى استعادة الأسرى الصهاينة لدى المقاومة أحياء، بدأ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يطرح الأفكار والرؤى عن ماهية الترتيبات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية لإدارة الحكم في غزة وتحديد علاقتها بـ”إسرائيل”، والتي تتمثل بثلاثة محاور يمكن أن تشكل بمجموعها الإطار العام للمرحلة الثالثة والنهائية من الحرب بحسب رؤيته:

المحور الأول: عدم السماح للسلطة الفلسطينية بالعودة للحكم في غزة، تحت ذريعة أنها تدعم “الإرهاب”. وكما صرح نتنياهو، فهو “لن يسمح بوجود حماسستان ولا فتحستان في غزة”، ولن يعود إلى خطأ اتفاق أوسلو مجدداً، الذي اتهمه بأنه كان سبباً في قتل صهاينة أكثر ممن قتلوا في السابع من أكتوبر.

المحور الثاني: بسط السيطرة العسكرية والأمنية الصهيونية على قطاع غزة، وإقامة إدارة مدنية صهيونية لإدارة حياة السكان فيه، بمعنى استعادة احتلاله كله وجعله تحت السيطرة العسكرية والمدنية صهيونية ، كما كان قبل توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وإنهاء خطوة الانسحاب أحادي الجانب التي قام بها رئيس الوزراء الأسبق أرئييل شارون عام 2005، والتي أدت إلى الانفصال الصهيوني عن غزة وإخلاء المستوطنات صهيونية فيها.

المحور الثالث: تَحمّل دول الخليج، وخصوصاً الإمارات والسعودية، بحسب تصريحات نتنياهو، مسؤولية إعادة إعمار قطاع غزة، إضافة إلى استيعاب بعض الدول العربية والأوروبية عدداً لا يقل عن نصف مليون فلسطيني من غزة كلاجئين أو مهاجرين، تحت عنوان التهجير القسري أو الطوعي، وبالتالي لا تتحمَّل “إسرائيل” مسؤولية الكارثة الإنسانية في غزة الذي سببتها آلة الحرب صهيونية .
ومن جهة أخرى، تنفيذ خطة تهجير الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم، وهو ما يعبر عن الحلم الصهيوني، وخصوصاً داخل الجناح اليميني المسيطر على الحكومة صهيونية الحالية، والذي سينقل بالتأكيد خطة التهجير بلا أدنى شك إلى الضفة الغربية والقدس، وأيضاً الأراضي المحتلة عام 1948.

يدرك نتنياهو أنَّ هذه الرؤية لا يمكن للفلسطينيين مجرد التفكير فيها، ولا الدول العربية، وخصوصاً مصر والأردن، اللتين تعتبران أنها كسر لكل الخطوط الحمر لأمنها القومي، ولا يمكن للمجتمع الدولي ومنظماته الأممية أن يقبل برؤية نتنياهو التي تدمر ما تبقى من قانون دولي وإنساني يمكن أن يتغنى به.

ومن الجدير بالذكر أن تلك الرؤية ليست محل إجماع صهيوني داخلي في حكومة الحرب الصهيونية ، بل ووجهت بمعارضة واسعة بين صناع قرارات الأمن القومي الصهيوني ، وخصوصاً المؤسسة العسكرية والأمنية التي ما زال لها تأثير مركزي في صناعة قرارات الأمن القومي رغم تراجع مركزيتها بعد الصفعة القوية التي تلقتها في عملية طوفان الأقصى.

ولكن الأهم، والأكثر خطورة صهيوينا، أن رؤية نتنياهو تصطدم بشكل أساسي مع الرؤية الأميركية لما تسميه الإدارة الأميركية “الترتيبات في غزة ما بعد حركة حماس”، والتي عبرت عن خطوطها العامة نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس بأن الولايات المتحدة الأميركية لا تقبل بتهجير الفلسطينيين ولا إعادة احتلال الجيش الصهيوني قطاع غزة وعدم اقتطاع أي مساحة جغرافية منه، وعودة السلطة الفلسطينية بدعم من قوة دولية تشارك فيها قوات من بعض الدول عربية للتأكد من نزع السلاح من المقاومة في غزة.

من الواضح أن رؤية نتنياهو تواجه معوقات ضخمة تجعل احتمال تحقيقها شبه صفري، ولكن السؤال المركزي: لماذا يطرح نتنياهو السياسي المخضرم في السياسة الصهيونية رؤية تواجه كل هذه المعارضة، وتضعه في مواجهة الحليف الأكبر والأساسي، الولايات المتحدة الأميركية، تحت رئاسة جو بايدن الذي يعتبره الصهاينة الرئيس الأميركي الأكثر صهيونية ودعماً لـ”إسرائيل” في تاريخ رؤساء أميركا؟

ولماذا في هذا التوقيت بالذات الذي لم تنتهِ فيه بعد المعركة البرية في غزة، والتي يشكك كثيرون في قدرتها في المدى المنظور على تحقيق هدفيها المعلنين، الأمر الذي يجعل “إسرائيل” بحاجة إلى الإدارة الأميركية لتوفير الدعم العسكري والسياسي لعمليتها العسكرية في غزة؟

رغم المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية المتعددة وتعقيدات المشهد السياسية والعسكرية، تتركز الإجابات كلها حول مصلحة بنيامين نتنياهو الشخصية، فسلوكه السياسي والإعلامي والعسكري منذ بداية الحرب يدور حول محور واحد ووحيد: كيف يمكن أن يحافظ على مستقبله السياسي وكرسي رئاسة الوزراء بعد انتهاء الحرب، ولا يتحمل مسؤولية الفشل الكارثي الذي حدث في السابع من أكتوبر، كما فعل باقي القادة السياسيين والعسكريين؟

يدرك نتنياهو أن انتهاء الحرب يعني انتهاء حياته السياسية، وقد يكون مصيره السجن، وخصوصاً أن استطلاعات الرأي الصهيونية تشير بشكل واضح وقاطع إلى أن خصمه السياسي وشريكه في حكومة الحرب بني غانتس، زعيم المعسكر الرسمي، هو المرشح الأكبر لتشكيل أي حكومة صهيونية في حال الذهاب إلى انتخابات جديدة بعد الحرب، وخصوصاً أن غانتس هو الشخص الأكثر قرباً إلى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.

لذلك، يسعى نتنياهو إلى التالي
أولاً، تحصين علاقته بشركائه في المعسكر اليميني الديني المتطرف داخل الحكومة الحالية، من خلال ملامسة رؤيته العصب الحساس لدى الصهيونية الدينية، المتمثل في خطة تهجير الفلسطينيين، وخصوصاً من الضفة الغربية والقدس، وعدم السماح بإقامة دولة فلسطينية، تمهيداً لضم كامل الضفة الغربية إلى “إسرائيل”، كما يحلم سموتريتش وإيتمار بن غفير وقادة المستوطنين في مجلس يوشع في الضفة الغربية، وبالتالي هم يتمسكون بنتنياهو كرئيس للوزراء، وخصوصاً أنه سمح لهم بتمرير الأموال الائتلافية لمستوطناتهم وجمهورهم الاستيطاني من خلال موازنة 2023 في وقت الحرب.

ثانياً، استعادة وجمع أصوات اليمين الصهيوني حوله مجدداً كزعيم لا منازع له لليمين الصهيوني ، من خلال استرجاع قضية مركزية قديمة جديدة في آن واحد لدى اليمين الصهيوني هي اتفاق أوسلو وحل الدولتين، وجعلها عنواناً لرؤيته بواسطة هجومه الهائل على السلطة الفلسطينية واتهامها “بالإرهاب”، رغم تمسك السلطة الكامل بقرارات الشرعية الدولية والرباعية، ناهيك بالتزامه الكامل بالتنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الصهيونية .

ولكن نتنياهو “الساحر”، المدرك جيداً مزاجية اليمين الصهيوني ، يعرف أن كارثة السابع من أكتوبر ستجعل غالبية اليمين الصهيوني تبحث عن شماعة يعلق عليها فشل استراتيجيته خلال العقدين الماضيين، المتمثلة بالقفز عن القضية الفلسطينية ودفعها نحو الهامش من خلال سياسة اللاحل واستراتيجيات إدارة الصراع دون حله وجعل القضية الفلسطينية ثانوية على أجندته السياسية والاستراتيجية.

كما أن رؤية نتنياهو تخاطب العقل الديماغوجي الشعاراتي المسيطر على قطاعات واسعة من اليمين الصهيوني ، وخصوصاً لدى اليهود الشرقيين؛ النواة الصلبة والقديمة لحزب الليكود، من خلال تسويق بيني غانتس على أنه يدعم السلطة الفلسطينية، وأنه يمكن أن يقبل تحت الضغط الأميركي بحل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية ذات الاستراتيجية القديمة التي استخدمها نتنياهو في انتخابات عام 1996 مع منافسه آنذاك شمعون بيريز الذي اتهمه بأنه يقبل بتقسيم مدينة القدس، وهي الورقة التي ضمنت نجاح نتنياهو في تلك الانتخابات التاريخية، الأمر الذي يفسر إشارات التحول لدى جدعون ساعر؛ زعيم حزب الأمل الجديد، ضد رؤية شريكه في ائتلاف المعسكر الرسمي بيني غانتس.

ثالثاً، يريد نتنياهو أن يبدو أنه القائد الصهيوني القومي القوي الذي يستطيع أن يقول لا للإدارة الأميركية، الأمر الذي يلقى رغبة واسعة لدى جمهور واسع من الشارع الصهيوني .
لذلك، كان حريصاً على إنجاح خلافاته مع الإدارة الأميركية إلى العلن وعدم إبقائها حبيسة النقاشات الداخلية، ليسجل لنفسه انتصارات في معارك وهمية مع الإدارة الأميركية، ففي وقت الاختبار الحقيقي، لم تجد “إسرائيل” سوى بايدن لإنقاذها من الانهيار العسكري والنفسي، إضافة إلى أن نتنياهو يحاول أن يغازل قادة الجيش كأنه يمنح الجيش الصهيوني مزيداً من الوقت لإتمام عمليته العسكرية المتعثرة في غزة.

في الخلاصة، رؤية نتنياهو لترتيبات ما بعد الحرب في غزة وتوقيتها تحاول زيادة الاستقطاب مجدداً داخل المجتمع الصهيوني وزيادة الشرخ السياسي الصهيوني بطريقة أكثر شراسة مما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكن هذه المرة من خلال إظهار نتنياهو أنه حامي حمى اليمين الصهيوني ، وبالتالي إن رؤيته حقيقة ليست إلا خطة محكمة لنجاته السياسية وبقائه ما بعد الحرب على غزة.

* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب