باب المندب.. باب الفرص
أحمد فؤاد*
بطول التاريخ الإنساني الممتد وعمقه واتساعه، حاول البشر أن يضعوا تعريفًا محددًا للنصر في الصراعات والمعارك الكبرى، لعل أحدثها وأشملها هو ما وضعه أستاذ الاستراتيجية البريطاني الأشهر ليدل هارت في نظريته المعنونة بـ”الاقتراب غير المباشر”، والتي استقاها من خبراته كضابط في جيوش الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى، ودراساته التاريخية عن الحرب عبر القرون، بأنّ تحقيق النصر مرهون بالوصول إلى نقطة الانهيار النفسي للعدو، وليس بقياس أية عوامل مادية أخرى، وأن النصر ربما لا يتحقق بمعركة فاصلة أو مشهد واحد، لكنه بالأصل يعتمد على إرادة طرف وإصراره ومسيرته، خطوة بعد خطوة لتحقيق أهدافه وغاياته الأسمى.
لكن ما هو معنى النصر فعلًا؟ هل هو في كسر إرادة العدو أم هو القدرة على الصمود مهما بلغت الخسائر ومهما ثمنت التضحيات؟ هل هو الموت وقوفًا في وجه أعتى الأعاصير أم هو مجرد تحقيق النتيجة المخططة والمرجوة من المعركة ولو كنت فردًا واحدًا؟ بالنسبة إلى الإنسان الباحث عن حقيقة، وفي هذه اللحظات الفارقة –والفريدة كذلك- فإنّ الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، في خطابه يوم الثالث من نوفمبر، قد منحنا بوصلة عبقرية لفهم هذه الأيام، بوضوح وإيمان كاملين، بقوله: “إن المقاومة تخوض معركة حقيقية مختلفة عن كل المعارك التي خاضتها سابقًا، مختلفة بكل ظروفها ونوعيتها واجراءاتها واستهدافاتها”، وإن “المعركة هي معركة الصمود والصبر والتحمل، وتراكم الإنجازات، ومنع العدو من تحقيق أهدافه”.
في اليوم الخامس والستين للمواجهة مع إمبراطورية الشر الأمريكية وآلتها العسكرية، فإنّ المقاتل العربي في غزة وجنوب لبنان والعراق، عبر الفصائل الفلسطينية وحزب الله والمقاومة العراقية، بات يقدم لنا مشهد البطولة المتفردة والفداء والبذل كسلوك يومي اعتيادي، حزب الله يذيق جيش العدو بطول شمال فلسطين وفي عمقها من الذلة والهوان أصنافًا، صواريخ بركان ومسيّرات هجومية، ودمار ممنهج ومنظم وذكي لجدار الردع الذي بناه العدو منذ أكثر من 17 عامًا كاملين، ثم المقاومة العراقية التي حولت قواعد العدو الأمريكي في العراق وسوريا إلى مسلسل معاد في نشرات الأخبار، وفي كل عمل مقاوم موجّه إلى الطاغوت الأمريكي وقاعدته المتقدمة في الكيان، فإنّ صورته الذهنية التي كدّ وسعى لبنائها وترسيخها يجري هدمها وتبديدها بهذه السواعد المتوضئة، ومعها ينشأ جيل عربي جديد لديه اليقين بأنّ مفتاح العبور للمستقبل هو على جثة الأمريكي وبدمائه، لا أقل.
وفي اليمن رفعت “أنصار الله” من سقف الصراع العربي-الصهيوني، بإعلان المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة العميد يحيى سريع عن “استهداف كل السفن المتجهة إلى الكيان في رد على العدوان الهمجي ضد غزة”، بشكل قد يغير النظرة التقليدية إلى اليمن من طرف إسناد إلى فاعل رئيس في معادلة الحرب الحالية، ليس على مستوى المنطقة العربية، وإنما على مستوى العالم ككل.
يمسك اليمن بين مخالبه مضيق “باب المندب”، الشريان الرئيس للدورة الدموية البترولية في العالم، والنقطة الفاصلة بين قارات الأرض وهمزة الالتقاء بين البحرين الأحمر منفتحًا إلى مداه نحو المحيط الهادئ، والأبيض بعده متسعًا إلى الأطلنطي، وبين بحر العرب حيث الفاصل بين عالمين الجنوب والشمال، بكل ما يربطهما ويفصلهما ويلخص قصة التاريخ والحاضر معًا، وفي أضيق اتساع للمضيق – دقة المايون- فإنّ الجزء الصالح للملاحة أمام سفن الشحن البحرية الكبرى يبلغ 16 كيلومترًا، تستطيع القدرات اليمنية العادية تغطيته بكفاءة أكيدة واقتدار كامل.
عدد القطع البحرية التي تعبر هذا المضيق الأكثر حيوية ونشاطًا وكثافة يبلغ 25 ألف قطعة سنويًا، بنسبة 7% من الأسطول العالمي، ويمر فيه سنويًا 13% من إجمالي حجم التجارة العالمي، وهو فوق أهميته الشديدة في التجارة بين القارات خصوصًا آسيا وأوروبا عبر أفريقيا، للأغذية والسلع والحبوب، ومستقبله “مرتكزًا” للاقتصاد العالمي وما يحمله من فرص للدول المتشاطئة على البحر الأحمر، فإنّ 30% من تجارة النفط العالمية بين أهم حقول الإنتاج ومناطق الاستهلاك تجري عبره، أي نحو 3.8 براميل من الخام الأسود يوميًا.
بالنسبة إلى كيان العدو؛ يعدّ باب المندب نقطة عبوره إلى عالم الجنوب كله، آسيا وإفريقيا بكل ما يحملانه من حياة وهواء، المواد الخام والغذاء والطاقة تأتي إلى الكيان عبر هذا المضيق، ويوفر لها 80% من كل احتياجاتها من الطاقة، بالإضافة إلى دوره طريقًا طبيعيًا لصادراتها إلى العالم، ووارداتها من الحبوب والسلع الأولية والموارد. باب المندب هو نقطة مقتل اقتصاد الكيان ونهاية لأي مستقبل منظور له أو متخيل، وفرصة عربية سانحة قد أفرزتها الأيام الصعبة الحالية لسحق قلب فكرة تثبيته في أرض فلسطين وتمزيقه، من دون باب المندب سيظل الكيان معلقًا على أجهزة التنفس الاصطناعية الغربية في أوروبا والولايات المتحدة، عبئًا وثقلًا وحملًا تلفيقيًا خارج الرحم.
والخبرة المعمّدة بسنوات الثقة والدم والمحنة الطويلة، فيما يخص اليمن، تؤكد أن هذه القيادة تعني جيدًا ما تقول، وإن المعركة -منذ بيان السبت- قد أخذت منعطفًا جديدًا تمامًا، وإذا ما سارت الخطوة اليمنية الشجاعة والصلبة المباركة إلى نهايتها، فإنّ الكيان وداعميه مقبلون على “سنوات سوداء”، أول ما قد تترجم له هو موجة تضخّم عالمية هائلة بدفع من ارتفاع في أسعار النفط، الذي يتداول حاليًا أقل من 90 دولار/ للبرميل بقليل.
وفي حال تزامنت مع الدورة العالمية الحالية فائقة الاحتياج للطاقة، وشح موارد تلبية الطلب المرتفع، فإننا بانتظار الوصول إلى تأثير فادح سيطال كل إنسان على هذا الكوكب، من استمرار العدوان الأمريكي على غزة، سيشارك الجميع في دفع ثمن هذا الدم مجبرين.
..
تبعًا لمعنى المقاومة، وانعكاسه على الروح والضمير الإنساني، فإنّ الاختيار انتصار، والوقوف في وجه الباطل انتصار، والإرادة انتصار، والفعل انتصار، حتى الدم انتصار للمنهج والنموذج والروح، تبعًا لقاموس الشرف بمعناه المجرد والشخصي جدًا فإنّ المقاومة من الإيمان، وهي الفعل الذي يحبه الله، طريق النبيين والصديقين والشهداء.
الفلسطيني في مقاومته اليومية المستمرة، يقدم لكل عربي الحل الأوحد والشرط الأول للنصر، وفي بطولاتهم التي جرت وتجري بوجه أبشع احتلال عرفه التاريخ، يعيد شعب الجبارين تحقيق ما يبرع فيه، اجتراح المعجزات وخلق الأساطير الحية، لا الخيالية، وينفخ من روح مقاومته الحياة لكل إنسان، صور المقاومة وصمودها وثباتها وعزيمتها التي لا تقهر، ومشاهدها التي تزدان بالنور والجلال لا تترك للمرء مع دموعه سوى الذهول من قوة هذا الشعب الصابر وتعيد إليه إيمانه وآماله، وتقتل اليأس في النفس، مرة واحدة، وإلى الأبد.