أنسنة الصهيوني وشيطنة الفلسطيني وصفة الحرب المسمومة!
محمد هلسة*
تُعرّفُ “الأنسنة” بأنها نزعة تركّز على قيمة الإنسان وكفاءته، وهي نقيض نزعة “الشيطنة” التي تعني رؤية الآخر على أنه شيطان أو كائن غير طبيعي وشرير بطبيعته. تتطور عملية الشيطنة عندما تسيطر على الوعي فكرة أنَّ الآخر “مختلف”، فينهار التعاطف ويحلّ محلّه الشك والعداوة.
وفي حالات الصراع، يُنظر إلى الخصم كطرف مختلف جوهرياً عن خصمه الآخر. وكلما اشتد الصراع زاد الميل إلى استقطاب العالم إلى “نحن” و”هم”، حتى يُخيل إلى كل طرف في النهاية أن خصمه مختلفٌ تماماً عنه ومصنوع من مادة مختلفة كلياً.
حرصت “إسرائيل”، منذ تأسيسها، ومن منطلق إدراكها عمق تأثير المنظور الإنساني في مخاطبة الغرب، على توظيف استعطاف العالم واستجداء دعمه لمشروعها الصهيوني الاستعماري، وحشدت الأموال الطائلة لدعم آلتها الدعائية الضخمة، كما جنّدت لوبيات المصالح الضاغطة في عواصم العالم، وسَعَت إلى استمالة النافذين في مراكز القرار الدولي لاستمرار زرع صورٍ ذهنية نمطية سلبية لتظل عالقة في مخيلة الغرب عن الفلسطينيين، وهو ما تبدّى منذ بداية حربها الحالية الطاحنة ضد غزة، في الحملة المحمومة التي بثتها لمحاولة “شيطنة” و”دعشنة” المقاومة الفلسطينية ونزع الصفة الإنسانية عنها.
لكن الفلسطينيين بدورهم لم يستسلموا لهذه السردية المعادية، بل أحسنوا استخدام الفضاء الإلكتروني خلال الحرب الصهيونية الحالية الطاحنة على القطاع، وبرعوا في نقل معاناتهم إلى العالم، ما أدى إلى إسقاط الفبركات الصهيونية ، وتغيير انطباعات الغرب حول الحرب ضد غزة، وهو ما تبدى في مواقف حكومات وشعوب غربية عديدة إزاء العدوان الصهيوني الأخير.
لم يعد خافياً سعي “إسرائيل” الحثيث لتجميل صورتها عالمياً بتقديمها كدولة ديمقراطية مسالمة ومتحضرة تصارع محيطاً عربياً همجياً ومتخلفاً، بيد أن المقاربة الإنسانية التي تبنتها المقاومة الفلسطينية في الفضاء الافتراضي خلال هذه الحرب زعزعت السرديات الصهيونية التي هيمنت على الرأي العام الدولي طيلة العقود الماضية، بعدما بدأت بتعرية المشروع الصهيوني من مساحيقه المصطنعة، فأبدت شعوب العالم أجمع تجاوبها اللافت مع المثيرات الإنسانية وقابليتها للتأثر بالأبعاد الأخلاقية التي عُرضت عليها أمام هول الفظائع التي ارتكتبتها آلة الحرب الصهيونية في غزة.
تُظهِر كل ثقافة رغبة معينة في تمييز نفسها عن الثقافات الأخرى وتأكيد هويتها وتعزيزها ورسم الحدود بينها وبين الآخرين. وعند نقطة معينة، تنتقل للميل إلى استبعاد الآخر أو الشكّ في جدارته بالثقة والإنسانية، وتتحول النزعة العرقية “الطبيعية” إلى الكراهية أو العداء العدواني أو الاضطهاد المتعمد أو حتى القتل.
وحين تصبح “المركزية العرقية أو الدينية” حزام أمان من كراهية الآخر أو جنون عظمة عنصرياً موجهاً ضد مخاطر “الخارج”، تتطور الخزعبلات العنصرية إلى ديناميكية كاملة تشرعن الحرب التدميرية والقتل، وتنسب صفات الشر الأساسية إلى “العدو الشيطان”، إلى درجة المطالبة بإزالته تماماً عن وجه الأرض، كما صدر عن بعض أركان اليمين العنصري الصهيوني خلال هذه الحرب وقبلها.
مما لا شك فيه أن الكراهية الصهيونية تجاه الآخر الفلسطيني، في قوتها المطلقة وجنونها القاتل، تجاوزت التحيز “العادي” أو التمييز العنصري المؤسسي أو الفصل العنصري أو الاعتداءات القاتلة التي ملأت صفحات الاحتلال الصهيوني بانتظام رتيب.
إن شيطنة الفلسطيني لا تؤدي إلى إزالة مشاعر الذنب المكبوتة فحسب وخلق فواصل بين “الإنساني الصهيوني ” و”الشيطاني الفلسطيني”، ولكنها تساعد أيضاً في بناء نظام صهيوني “أخلاقي دفاعي” يقف في وجه الخطر الذي يأتي من “الآخر”، الذي عليه، وفق هذا “النظام”، أن يتحمّل اللوم والمسؤولية الكاملة عن كل ما يحدث فيه من قتل وتدمير. وحده الآخر يتحمل المسؤولية. إنهم يتصرفون مثل “الحيوانات المفترسة” و”لا يفهمون سوى العنف ولغة القوة” وما إلى ذلك. وغالباً ما يُستحضر خيار “القتل” بمجرد حرمان العدو مجازياً من صورة الإنسان وإظهاره شخصاً خارج نطاق الحضارة الإنسانية.
وكلما كانت صور التشويه والفساد الفكري والأخلاقي والتخلف أكثر وحشية، كان من الأسهل تبرير القتل. ويبدو أن الإسرائيلي يدرك أنه من دون الشيطنة المطلقة للآخر لن تكون هناك ذات وطنية محددة بوضوح، فقد تبنت “إسرائيل” رواية مفادها أن “الفلسطيني يجسد قوى الظلام ويعتبر تهديداً خارقاً وغير إنساني”.
لذلك، تصبح حماس في هذه الحرب مجازياً “حاملة الموت لجميع أنحاء العالم”، ويصبح القضاء عليها شرطاً أساسياً “لخلاص البشرية”. يتم تقديم الفلسطينيين ومقاومتهم كقوة شريرة تستخدم أساليب “قذرة” في حربها ضد “الخير” الصهيوني ، ويجري الافتراء الممنهج على الفلسطينيين “الشيطانيين” من دون استثناء، باعتبارهم متطرفين ومخربين ودعاة للقتل. “إنهم منخرطون في الإرهاب بلا توقف. إنهم يكذبون بشكل منهجي، ويتلاعبون بشكل احتيالي بالحرب للتغطية على خطاياهم”، وهم يرفضون كل الحلول “الخيرة الكريمة” التي عرضتها “إسرائيل” عليهم.
من الواضح للجميع أنَّ الوقود الذي يغذي المجتمع الصهيوني هو التخويف من خلال “شيطنة العدو” “النازي”، “الحيواني”، “البربري”. والنتيجة الأكثر فظاعة وخطورة لشيطنة الخصم هي تجريده من شرعيته الإنسانية بشكل كامل، بما يمنع أي ضبط للنفس في الصراع ضده.
إن غسيل الأدمغة هذا الذي يوظف آلاف مفردات الشيطنة في كل وسائل الإعلام المتاحة تتجلى ثمرته اليوم في شوارع “إسرائيل” المشبعة بالأكاذيب التي تثير الجماهير وتُسكرها. وفي الصراع المدمر، يكون واجب شيطنة الخصم وهزيمته هو “محرك” العمل المشترك الذي تظهر قوته في التعبئة من أجل استمرار الحرب.
إن استمرار الحديث عن “الطرف السيئ” في هذه المواجهة يتيح متنفساً لمشاعر الكراهية الداخلية”، ويخلق للصهاينة للحظة شعوراً بالقوة في “التوحد ضد الشر”. ومن الواضح أنه في الصراع مع “الشيطان”، في المجتمعات الأسيرة للمفهوم الشيطاني، ليس هناك أقل من “النصر الكامل من دون تنازلات”!
يتحدى النظام الصهيوني في سرديته هذه القيمة الأساسية والكرامة الإنسانية المتأصلة في كل إنسان، والتي هي الأساس الأيديولوجي لجميع حقوق الإنسان ومنظومة القيم التي تكرس الحياة والحرية والمساواة بين جميع البشر، الذين يتمتعون جميعاً بالكرامة المتأصلة نفسها.
تحدى الإسرائليون هذا عندما “ألغوا” الكرامة الإنسانية الفلسطينية، ومهَّدوا الطريق لانتهاك كل حقوقه الأساسية، بما فيها حريتة وحياته. لقد جرّد خطاب الانتقام هذا شعباً بأكمله من إنسانيته، فعائلة صهيونية أجليت من مستوطنة شمال فلسطين المحتلة أو من جنوبها، وأُسكِنت فُندقاً في إيلات هي عائلة “منكوبة مسكينة”.
أما عائلةٌ فلسطينية في غزة دُمّر بيتها بالصواريخ الصهيونية على رؤوس ساكنيها، وارتقى أطفالها شهداء، وشُرّدت في العراء من دون طعام أو ماء أو كهرباء أو دواء، فهي “أضرار جانبية للحرب”، ولا وخز في الضمير الصهيوني تجاهها.
وكذا الحال مع عوائل القتلى أو الأسرى الصهاينة لدى المقاومة، فكلهم بشر مرهفو الأحساسيس، لديهم قصصهم التي “تُدمي القلب” عن حبّ الخير والشجاعة والبذل والتضحية والإيثار، ثم يأتي هذا “الشيطان الفلسطيني” المجرد من كل المشاعر والأحاسيس الإنسانية لينزعهم من هذه البيئة الإنسانية المُشبعة بالأحاسيس الفياضة!
إن الميل إلى ربط الصهيوني بقوى الحداثة العظيمة والقوية “الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية العالمية والعلمانية” وما إلى ذلك، وربط الفلسطيني بالقوى المُغرِقة في التخلف والرجعية والتعصب، هو وصفةٌ مسمومة تسمح في مثل هذا الجو من التجريد من الإنسانية للمواطنين الصهاينة بأن يستمروا في إشعال النار والرقص على وقع طبول الحرب من دون وخز ضمير أو رمشة جفن.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب