عماد الحطبة*

 

في ظل التغطية المكثفة للجرائم غير المسبوقة التي يرتكبها العدو الصهيوني في عدوانه على غزّة، تجري محاولات لاستغلال صور الضحايا والدمار وتوظيفها في سياق الثمن الذي تدفعه الشعوب التي تتجرأ على مقاومة المشروع الاستعماري – الصهيوني.

يحاول العدو نفسه ترسيخ هذه الصورة من خلال التسريبات غير المسبوقة في التاريخ السياسي، حتى لأولئك الذين اشتهروا بالإجرام، مثل هتلر وموسوليني والجنرال فرانكو. بعضهم يعلن صراحة حرمان المدنيين من الماء والغذاء والدواء بشكل متعمد، وآخرون يطالبون بقتل الأطفال الفلسطينيين، بل إن أحدهم هدد باستعمال قنبلة نووية لإبادة سكان قطاع غزّة. مؤخراً، انضم إليهم رئيس وزراء العدو المجرم بنيامين نتنياهو عندما هدد لبنان بمصير غزّة إذا قامت المقاومة بتوسيع الحرب التي تشنها على الحدود الشمالية لفلسطين.

يلتقط الرسالة بعض الكتاب ووسائل الإعلام الموسومة بتبعيتها للغرب، ليرفعوا عقيرتهم بمقالات وتقارير تدّعي الحرص على الإنسان والإنسانية، وهي وإن كانت تحمّل العدو المسؤولية عن القتل والمجازر، إلا أن لسان حالها يقول: “إذا كان العدو مجرماً قاتلاً، فلنمتلك نحن حكمة القبول والاستسلام”، ويمكن أن ينزلق هؤلاء إلى المساواة بين المقاومة والعدو “إنسانياً” بالتعبير عن حرصهم على حياة المدنيين من كلا الجانبين.

أما بعض اليساريين السابقين ممن ركبوا قطار الليبرالية متأخرين، فاجتهدوا ليعوضوا ما فاتهم، فطرحوا مساواة أكثر “انحطاطاً” عندما اعتبروا أن المعركة تدور بين تيارات يمينية ترتكز على نزعات دينية بهدف الاستيلاء على السلطة أو الاستمرار في الحكم.

يتبقى أولئك الغارقون في عسل النوم على السرير الأميركي، من أمثال قادة سلطة رام الله الذين يعلنون على الملأ أنهم ينسقون مع الولايات المتحدة حول وسائل إدارة قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب، واهمين أنَّ أهل غزة سوف يستقبلونهم بالترحاب عندما يصلون على ظهر دبابات الميركافا، وأن مصيرهم لن يكون أسوأ من مصير جنود الصهاينة أنفسهم.

في جردة سريعة لنتائج “السلام” المزعوم، الذي انطلقت مسيرته على أشلاء الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين بعد الغزو الصهيوني للبنان عام 1982، ودشّنت مبادرة ولي العهد السعودي الأمير (الملك لاحقاً) فهد بن عبد العزيز، لتنهي الرفض والعزل العربي لاتفاقيات كامب ديفيد، مروراً بمبادرة السلام العربية التي أطلقها من بيروت ولي العهد السعودي الأمير (الملك لاحقاً) عبد الله بن العزيز عام 2002، وما تخلل هذه المسيرة من اتفاقيات في أوسلو ووادي عربة، وصولاً إلى صفقة القرن ومبادرة السلام الإبراهيمي التي لم يكد حبرها يجف بعد، سنجد هذه الجردة تشير إلى:

– فشل اتفاقيات أوسلو وتضاعف معدلات الاستيطان في فلسطين 3 مرات، فازداد عدد المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية من نحو 200 ألف مستوطن إلى ما يزيد على 700 ألف مستوطن.

– احتلال الولايات المتحدة العراق عام 2003 وتدميرها بنيته التحتية ونهبها ثرواته.

– الاعتداءات المتكررة على قطاع غزة والضفة الغربية: عملية “الرصاص المصبوب” 2008 التي ذهب ضحيتها 1430 شهيداً، وعملية “عمود السحاب” 2012 (180 شهيداً)، و”الجرف الصامد” 2014 (2322 شهيداً)، واجتياح مخيم جنين 2002 (500 شهيد).

– الاعتداءات المتكررة على لبنان: عملية “عناقيد الغضب” 1996 (150 شهيداً، منهم 106 شهداء في مجزرة قانا)، وحرب تموز 2006 (نحو 2500 شهيد).

– “الربيع العربي” الذي دمر أكثر من بلد عربي، واستنزف جميع الدول العربية اقتصادياً، وظهرت آثاره واضحة للعيان في الإتاوة التي فرضتها الولايات المتحدة علناً على دول الخليج، وخصوصاً السعودية والإمارات، والتي كانت بمليارات الدولارات.

بعبارة أخرى، كان ثمن “السلام” دماراً وقتلاً وأزمات اقتصادية وخسارة المزيد من أراضي الضفة الغربية، حتى أصبح حل الدولتين الهزيل غير ممكن عملياً، ولم ينفع السلام مقابل السلام في تجنيب المنطقة ويلات الجشع والنهب الرأسمالي.

أما ثمن المقاومة، فكان مقتصراً على تضحيات شعوب كان لا بد من أن تضحي في سبيل حريتها وكرامتها، ودمار جزئي للبنى التحتية، في مقابل إنجازات جبارة بدأت بتحرير الجنوب في مايو 2000، مروراً بالنصر الذي تحقق بعد اجتياح 2006، والذي أكد قوة الردع التي تمتلكها المقاومة، ما منح لبنان 17 عاماً من الهدوء.

أحبطت المقاومة المشروع الأميركي – الصهيوني المسمى “الربيع العربي” في سوريا واليمن، وحررت الموصل من الدواعش، وأفشلت المخطط الصهيوني في الشيخ جراح، وأسقطت مقاومة الضفة مشروع السلام الإبراهيمي، وصولاً إلى يوم السابع من أكتوبر.

في هذا اليوم المجيد، أعادت المقاومة عقارب الساعة 75 عاماً إلى الوراء، وسجلت للمرة الأولى منذ عام 1948 أول اختراق للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وألحقت بقوات النخبة الصهيونية هزيمة مذلة لن تمحو آثارها المجازر التي يرتكبها في غزّة، ولا الدمار الذي تلحقه بكل ما هو فوق أرض القطاع المقاوم.

لقد فرضت المقاومة على العالم العودة إلى الرواية الفلسطينية الأصلية للصراع مع العدو، وهي الرواية التي بدأت مع إنشاء الكيان الاستيطاني في فلسطين. استطاعت المقاومة من خلال عملية طوفان الأقصى إنهاء أسطورة الدولة المنيعة المتفوقة على كل جيرانها، وأظهرت أن هذا المشروع الاستعماري غير قابل للبقاء من دون دعم مباشر من الغرب الاستعماري المالك الحقيقي لهذا المشروع.

لم تكن مصادفة تحول سكرتير مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي إلى ناطق باسم جيش الاحتلال، يحدد ساعة بداية المعارك وشروط وقف إطلاق النار، في الوقت الذي تتحدى إدارته الإرادة الدولية باستعمال حق النقض الفيتو في مجلس الأمن الدولي ضد قرار وقف إطلاق النار لأغراض إنسانية.

سيسقط النظام الرسمي العربي عند مقارنته بعنفوان المقاومة وصمودها وتصميمها على شروطها التي أجبرت العدو على هدنة إنسانية، والتي سوف تجبره على القبول بوقف إطلاق النار.

وعلى المشككين العودة إلى البيان الصادر عن القوات المسلحة اليمنية بخصوص استهداف السفينة النرويجية “استريندا” التي كانت تحمل النفط إلى الكيان أو إلى بيانات المقاومة الإسلامية من لبنان، ناهيك بوقع كل بيان يصدر عن أبي عبيدة الناطق باسم حركة حماس أو أبي حمزة الناطق باسم سرايا القدس. أمام جبروت المقاومة، تسقط صور وتصريحات قادة النظام الرسمي العربي بما تحمله من تملق وتذلل للعدو.

هذا هو ثمن المقاومة: العزّة والكرامة والنصر. أما المتباكون على الضحايا، فنقول لهم: كان أهل غزة يموتون تحت الحصار عندما كانت عواصمكم تستقبل قادة العدو، وكانت أقلامكم تسيل بمدح السلاطين ومشاريعهم. ما يحدث في غزّة اليوم هو “الوعي حتى الخرافة”.

* المصدر: الميادين نت

* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب