الطوفانُ الذي عرّى كائناتِ النفاق
هاشم أحمد شرف الدين
مرحباً بكم في هذه الرحلة الساخرة إلى عقولِ أولئك الذين أظهرتْهُم عمليةُ طوفانِ الأقصى ومجرياتُها ـ طوالَ شهرين حتى الآن ـ وكأنهم يمتلكون موهبةً خاصةً في تجاهلِ التوجيهاتِ الإلهيةِ والقيمِ العربيةِ والأخلاقِ الإنسانيةِ والحقائقِ التي أثبتها التاريخُ والواقعُ في وجوبِ وأهميةِ الدفاعِ عن الأمةِ التي ينتمون إليها أرضاً وشعباً.
أولئك المصابين بوهمِ المناعة، الذين كلما واجهتِ الأرضُ العربيةُ في فلسطينَ عدواناً إسرائيلياً وتوسعاً جديداً، اعتقدوا أن تلك الأرضَ ليست أكثرَ من قطعةٍ مِن الورقِ، لا تستحقُ جُهدَ الدفاعِ عنها. أولئك الذين يفشلون في فَهم قيمتِها الحقيقيةِ والحاجةِ إلى حمايتِها، لِعَيشِهم في عالمٍ يفتقدُ الشجاعةَ، وهم فيهِ بحاجةٍ ماسةٍ للتوجيه. أولئك الذين يحملون ألقابَ أصحابِ الجَلالةِ والفخامة، والمعالي والسعادة، والسموِ والريادة، وجميعِ مُهرِّجيهم من علماءِ البلاطِ وحَمَلةِ المَباخر، وأصحابِ الألقابِ العلميةِ والوجاهة، …الخ.
دعونا نستكشفُ أعماقَ جَهلِهم ونتحدّى رِضاهم عن أنفسِهم، مِن خلالِ عدسةٍ ساخرة، بهدفِ تسليطِ الضوءِ على السطحيةِ والسذاجةِ والجُبنِ التي تَسُودُ وُجودَهم وتُسوِّدُ وُجوهَهم.
فنحن إزاءَ كائناتٍ غريبةٍ لا تنفكُ تحاولُ إقناعَنا بأنه ـ وبدلاً من الانتفاضِ لتحريرِ الأرضِ العربيةِ المغتصبَةِ في فلسطين والدفاعِ عن أطفالنِا ونسائِنا وإخوانِنا في غزة في مواجهةِ الهجماتِ الوحشيةِ الإسرائيليةِ ـ علينا أن نكتفيَ بالمشاهدةِ والإدانة، وأن نتهرّبَ عمداً ـ كما يفعلون ـ مِن متابعةِ أخبارِ الجرائمِ الفظيعةِ التي تحدثُ هناك، وأن نجتمعَ بشغفٍ لمتابعةِ قنواتِهم التلفزيونيةِ فقط، للانغماسِ في مسلسلاتِهم التليفزيونيةِ التافهةِ وحفلاتِ ترفيهِهم الماجنةِ.
نحن إزاءَ كائناتٍ خبيرةٍ في إلقاءِ اللومِ على حركاتِ المقاومةِ الإسلاميةِ في فلسطين، وبارعةٍ في توجيهِ أصابعِ الاتهامِ نحو محورِ المقاومة، لكن عندما يحينُ وقتُ تحملِ المسؤوليةِ والدفاعِ عن شعبٍ أو أرضٍ في أمتِهم يُصابون فجأةً بفقدانِ الذاكرةِ العمدي.
لقد صوّرَ قادةُ تلك الكائناتِ أنفسَهم أبطالاً شجعاناً متخرجين في أعرقِ الكلياتِ والأكاديمياتِ العسكريةِ في العالم، وكانوا يحرصون بين حينٍ وآخر على ارتداءِ ملابسَ عسكريةٍ مزيّنَةٍ بإكسسواراتٍ عصريةٍ من نياشينَ وأوسمةٍ عديدةٍ يَـثـقـلُ عليِهم حَملُها، واشتروا وكدّسوا ـ طوالَ عقودٍ ـ آلياتٍ دفاعيةً فاخروا بها وأرهبوا بها شعوبَهم، لكنهم اعتبروها عندَ مواجهةِ العدوانِ الإسرائيلي على غزةَ دروعاً بلاستيكيةً فلم يُحرِّكوها، بل لم يفكّروا حتى في إجراءِ تمريرةٍ بسيطةٍ من بطاقاتِ الائتمانِ الخاصةِ بهم لتزويدِ أهلِ غزةَ المحاصرين باحتياجاتِهم المَاسةِ والضروريةِ من الغذاءِ والماءِ والدواءِ لِيَبقُـوا أحياءً صامدين، وأَخَذَ بعضُهم يُروَجُ لوجباتِ “ماكدونالدز” الداعمةِ للعدوِ.
لطالما كانت هذه الكائناتُ مُجهَّزَةً بمجموعةٍ متنوعةٍ من الشعاراتِ التحفيزيةِ حولَ الوحدةِ العربيةِ وأهميةِ الدفاع عن العروبةِ وحمايةِ الأمنِ القومي العربي، لكنها تنسى بسهولةٍ تلك الشعاراتِ وتعتبرُها فارغةً في اللحظةِ التي يُطلب منها فيها العملُ والتحركُ بجديةٍ ومسؤولية. فبدلاً من نُصرةِ إخوانِهم الفلسطينيين الذين يواجهون الشدائدَ ـ بالوقوفِ شامخين إلى جانبِهم والقتالِ معهم والدفاعِ عنهم ـ يختارون دفنَ رؤوسِهم في الرمالِ وعدمَ الوفاءِ بالتزاماتِهم ووعودِهم، تماماً كما يفعلُ السياسيون منهم أثناءَ حملاتِهم الانتخابية، يُطلِقون الوعودَ الجوفاءَ الخاليةَ من أيِّ مضمون، ولهذا يتعاملون مع العروبةِ باعتبارِها اتجاهاً عابرا. فأثناءَ تصعيدِ الوحشيةِ الإسرائيلية، وارتفاعِ الأصواتِ الشعبيةِ المطالبةِ بتحركٍ عربيٍ وإسلاميٍ، واحتدامِ المناقشاتِ حولَ الخطورةِ الكبرى التي يتعرضُ لها الأمنُ القوميُ العربي، يَـبدون بارِدين جداً، ويبدو ولاؤهم للعروبةِ سطحياً لا يتجاوزُ جلودَهم، فبالكادِ يكتفون بالتداعي إلى مؤتمراتِ قُمَامةٍ لا قِممَ قادة، ليرفعوا عن أنفسِهم الحرجَ، ويكونُ أقصى اهتمامِهم خلالَها هو التقاطُ صورةٍ جماعيةٍ والاختباءُ وراءَ الكلماتِ الجوفاءِ، فينصرفون دونَ الدفاعِ عن أمتِّهم، ثم يعودون مُنتشين إلى عروشِهم المحفوفةِ بترسانةٍ مِن كائناتٍ تشبهُهم، وظيفتُها هي الترويجُ لمجموعةٍ كبيرةٍ من الأعذارِ والمبرّراتِ التي قادت إلى تجنبِ اتخاذِ موقفٍ عمليٍ وتحركٍ جادٍ وصحيح، معتقدين أن الكلماتِ الحماسيةَ والمنشوراتِ العاطفيةَ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي والحملاتِ الدعائيةَ عبرَها والوسومَ أو ما تُعرفُ بالـ “هاشتاجات” يُمكن أن تحفظَ لهم ماءَ وجوهِهم أمامَ شعوبِ الأمة! كما لو أنَّ هذه الأوسمةَ الافتراضيةَ لها أيُّ وزنٍ في العالمِ الحقيقي.
إنها ليست سوى كوميديا مأساوية، حيث يُخفي حماسُهم الأجوفُ نقصاً عميقاً في الالتزامِ العملي.
إن فكرةَ بعضِهم عن الدفاعِ عن شعبِ فلسطين هي تغييرُ صورةِ ملفاتِهم الشخصيةِ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي إلى رمزٍ وطني !. ألا يدركون أن الصورَ والرموزَ التعبيريةَ لا يُمكنها أن تمنعَ الغزاة؟. مِن الواضحِ تماماً أنهم بحاجةٍ إلى مساعدةٍ في تعلّمِ كيفيةِ التحققِ من الواقعِ ودورةٍ مكثّـفةٍ في التفكير الاستراتيجي، فغالبيةُ الشعوبِ واعيةٌ ترى أعداءَها يُمعِنون في قَتـلِ مئاتِ الفلسطينيين كلَ يوم، وترى واقعَ تلك الكائناتِ يفضحُ ضَحالةَ وجُبنَ ونفاقَ مَن لا يملكُ الشجاعةَ للدفاعِ عن أيِّ أرضٍ أو شعبٍ في أمّتِه.
إنهم قادةُ اللامبالاة، يَصقلون مهارتَهم في تجاهلِ المَظالمِ مِن حولِهم وغضِّ الطرفِ عن معاناةِ أقربائِهم. قلوبُهم باردةٌ ومنفصلةٌ تنبضُ فقط من أجلِ راحتِهم الشخصية. يظنون أن بوسعِهم اجتيازَ الحياةِ بقدرةٍ رائعةٍ على عَزلِ أنفسِهم عن عواقبِ تقاعسِهم، ولا يعترفون أبداً بالفراغِ الذي يتركونه وراءَهم. ومع هذا يُصرُ أكاديميوهم على الحديثِ ـ كلَ لحظةٍ بلا خجل ـ عن إتقان فَـنِّ التجاهلِ وغَضِّ الطرْفِ، لدرجةٍ نظنُ معها أنهم قد حصلوا على درجةِ الماجستير في تجاهلِ الواقعِ ودرجةِ الدكتوراه في التضليلِ ودرجةِ الأُستاذيةِ في تجميلِ الخيانةِ والترويجِ لها. لكنَّ الحقيقةَ أنهم بحاجةٍ ماسةٍ للالتحاقِ بدوراتٍ وبرامجَ مكثفةٍ لتعلّمِ الشجاعةِ والبطولةِ ودروسٍ في المبادئِ الإنسانيةِ والتعاليمِ الدينيةِ والقيمِ الأخلاقيةِ قبلَ مواصلةِ تَسليتِهم على حسابِ الفلسطينيين المظلومين الذين باتوا للأسفِ يدافعون اليومَ عن وجودِهم وسطَ كلِ هذا الخذلان بينما يدافعون نيابةً عن أمتيّ العربِ والمسلمين.
نحن حقاً إزاءَ كائناتٍ مُلوّثِةٍ عاطفةً وعقلاً، ففي نُسختِها المُلتويةِ من الواقع، تعتقدُ تلك الكائناتُ أن الاستسلامَ أمامَ العدوِ الإسرائيليِ هو مثالُ البطولة. لذا نرى علماءَها وإعلامييها بلا حياءٍ، يبذلون جهوداً خارقةً لتصويرِ الجُبن على أنه قِمّةُ الشجاعة. ومع هذا فالأمرُ لا ينتهي عندَ هذا الحد، فمِن الواضحِ أن لديهم مَيلاً إلى خداعِ الذاتِ، مما قد يجعلُ أعظمَ كاتبٍ مسرحيٍ أو دراميٍ يشعرُ بالغَيّرَة منهم، فهم يَبنون أوهاماً كبيرةً بأنهم لا يُقهرون، ويُصوِّرون قادتَهم على أنهم قادةُ الأمةِ والحماةُ الأقوياءُ للدِينِ والأرض، بينما في الحقيقةِ هم يرتجفون مِن مجردِ فكرةِ المواجهة.
إنهم مُوْلَعُون للغايةِ بالـ “ميلودراما”، فحياتُهم عبارةٌ عن مسلسلٍ تلفزيونيٍ لا ينتهي أبداً، مليءٍ بالمشاعرِ المُبالَغِ فيها والصراعِ المُصطنَع. يزدهرون بالدراما، ويستمتعون بالاهتمامِ الذي تجلبُه، كما لو كانت حياتُهم الشخصيةُ عبارةً عن مسرحٍ يُمكن للجميعِ رؤيتُه.
يبدو الأمرُ كما لو أنهم يلعبون دورَ البطولةِ في دراما خياليةٍ خاصةٍ بهم، سعوديةً كانت أو تركيةً أو مصريةً لا فَرق، يُؤدون فيها أعمالاً بطوليةً في أمانِ مُخيّلاتِهم. لكنهم عندما تُدوّي صرخاتُ الفلسطينيين المُستنجِدةِ لا نجدُ هؤلاءَ الأبطالَ المُزيَّفين مُزيَّنين بالدروعِ، ولا نرى سيوفَهم مرفوعةً عالياً، ولا يَظهرون على استعدادٍ لمواجهةِ العدوِ الإسرائيلي، وبدلاً من ذلك، يَمتشِقُ أكثرُهم جُرأةً قناتَه التلفزيونيةَ لالتقاطِ الأحداثِ وتوثيق الشجاعةِ والآلامِ الفلسطينيةِ، فيما يَبقى هو على مسافةٍ آمنةٍ في مَخدعِه، متجنباً المشاركةَ الفعليةَ في المواجهةِ، فيا لَـهُ مِن بارعٍ في فَـنِّ المُراقبةِ الجَبانة، ويا لَبَراعةِ زملائِه في إطلاقِ وابلٍ من التبريراتِ والأعذارِ. إنهم يستحضرونَ حكاياتٍ عن كونِهم مشغولين للغاية، أو مُهمين للغاية، أو حسّاسين للغاية بحيثُ لا يُمكِنهم الانخراطُ في الفنِّ النبيلِ المتمثّـلِ في الدفاعِ عن شعبِ وأرضِ فلسطين. يبدون كأنهم يمتلكون كُتيباً بعنوان “ألفُ طريقةٍ وطريقةٌ للتهربِ من المسؤولية”، ففي عُـقولهم المُضطرِبةِ يَخلِطون بين الحيادِ والحكمة، معتقدين أنَ الجلوسَ على الهامشِ غيرَ مبالين وغيرَ متورطين يمنحُهم مركزاً أفضل، غافلين عن حقيقةِ أنَ ذلك ليس أكثرَ من ذريعةٍ لتجنبِ اتخاذِ موقفٍ صحيح. إنهم ـ مع الأسف ـ يَبدون مصابين بإمساكٍ فكريٍ يمنعُهم من الفَهم، فلا يدركون أنَ الشعوبَ تعرفُ أن التقاعسَ عن الدفاعِ عن الشعبِ الفلسطيني هو شكلٌ من أشكالِ التواطؤ.
قد تتساءلون ماذا عن تصورِهم للقوة؟ والإجابةُ هي أن هذه الكائناتِ الرخوةَ تعتقدُ أن القوةَ تكمنُ في المُرونةِ واللغةِ الدبلوماسيةِ لإنها يُقيمون في عالمِ الضعفِ، ويفتقرون إلى ترجمةِ خطاباتِهم إلى أفعال. لذا فهم يستخدمون الإعلامَ الواسعَ لبناءِ حُصونٍ من الأكاذيبِ حولَهم، معتقدين أن رواياتِه هي دُروعُهم التي تحميهم من الحقيقةِ الصارخةِ المتمثلةِ في أن لُغتَهم الدبلوماسيةَ لا قيمةَ لها دونَ اتخاذِ إجراءاتٍ عملية.
فيبقون مختبئين وراءَ واجهةِ الدبلوماسية، معتقدين أن التحركَ بخنوعٍ على رؤوسِ أصابعِهم حولَ القضايا المركزيةِ للأمةِ هو استعراضٌ للذكاءِ والحكمة.
إن إعلامَهم يَـلفُهم بعباءةِ الفكرِ الضالِ وخداعِ الذات، فيعتقدون أنهم قادةُ الرِضا عن النفس، وأبطالُ الطريقِ السهلِ للخروج. ويجعلُهم إعلامُهم يظنون أن جُبنَهم هو مظهرٌ مِن مظاهرِ حُبِ السلام، وأن تقاعسَهم السلبيَ هو نتاجُ وعيٍ يرفعُهم فوقَ الشعوب !.
إنهم أبطالُ الفَهمِ الانتقائي، وانتقائيو المعلوماتِ التي تتوافقُ مع رواياتِهم المغلوطة.
في نظرتِهم المشوَّهةِ للشعوبِ، يتمُ رفضُ الآراءِ المختلفةِ بسرعةٍ باعتبارِها جهلاً، مما يمنعُ أيَّ حوارٍ هادفٍ أو نموٍ حقيقي.
ويا لها من مفارَقة، فبينما يفخرون بكونِهم دعاةً للانفتاحِ والتسامحِ مع العدوِ الإسرائيلي، يرفضون الاستماعَ إلى وجهاتِ نظرِ أحرارِ شعوبِهم التي تخالِـفُهم أو تعارضُ مفاهيمَهم المُنحطّة، ويَنصِبون المشانقَ ويقطعونَ رقبةَ أيِّ مواطنٍ بسبب تغريدةٍ وحيدةٍ يُبدي فيها انتقاداً لهم!.
ولا يسعُ المرءُ إلا أن يتعجّبَ من موهبةِ بعضِ تلك الكائناتِ في لفتِ الأنظارِ لهم، ليس بالتحركِ العملي لمواجهةِ الكيانِ الإسرائيليِ وإنما بالإثارة. إنهم يمتلكون شهيةً لا تشبعُ لطلبِ الاهتمامِ والإعجابِ من الشعوب، ولو كان ذلك من خلالِ التظاهرِ بالدفاعِ عن قضيةٍ مُحقّةٍ لادّعاءِ النُبل. إن تعطشَهم للأهميةِ يدفعُهم إلى إنشاءِ مسرحياتٍ متقنة، والانغماسِ في الخُطبِ المُثيرةِ والإيماءاتِ الدرامية، معتقدين حقاً أن لديهم القدرةَ على تغييرِ العالمِ من خلالِ عروضِهم الحماسية. ويا لَعِظَمِ أوهامِهم، فتحتَ أُبَّهتِهم وعَظمتِهم يكمنُ خوفٌ عميقٌ من اتخاذِ موقفٍ ذي معنى. إنهم يزدهرون في عالمِ الإيماءاتِ الفارغة فقط، وينخرطون في أعمالٍ أدائيةٍ لا تُثمر. يتوشحون الشالَ أو الكُوفيّةَ الفلسطينيةَ، ويُمسكون بِـيَـدٍ عَلَمَ فلسطين بقوةٍ، ويصافحون باليدِ الأخرى العدوَ الإسرائيلي، ويقدّمون لجيشِه الدعمَ اللوجستي بكل وقاحة.
إن إحساسَهم المشوَّهَ بالتضامنِ العربي والإسلامي ليس له حدود، فهؤلاء الذين نَصَّبُوا أنفسَهم أبطالاً للعدالة ومناصرين للشرعيةِ المزعومةِ قصفوا شعبنَا اليمنيَ العزيزَ بمقاتلاتِهم الجويةِ طوالَ ثمانِ سنواتٍ، فقتلوا وجرحوا مئاتِ الآلاف. ورغم أن أفعالَهم الدنيئةَ ـ في الأمسِ واليوم ـ مَشوبةٌ بالنفاقِ والتناقضاتِ التي لا حدودَ لها إلا أنهم يعتقدون أنهم محاربون نُبلاءُ يحاربون الظلمَ في العالم. والحقيقةُ أنهم جُبناء، يحبّون البقاءَ بأمانٍ داخلَ حدودِ فُقاعاتِهم المريحةِ بدلاً من مواجهةِ التحدياتِ التي تطرحُها الحياةُ، أو خوضِ التجاربِ والمِحنِ التي تأتي مع الدفاعِ عن أمتِهم.
إنهم يُنشئون السلاسلَ الافتراضيةَ في وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، ويأمرونها بوضعِ الإعجاباتِ والمشاركاتِ وإعادةِ التغريدات المؤيدةِ لموقفِهم المتخاذِل، ثم يقدّمون ذلك على أنّه تحققٌ وتأكدٌ من صحةِ موقفِهم الجبانِ. ما هذه اللهفةُ على خداعِ الذات؟!
إنهم لا يكتفون بتصديقِ كذبتِهم، بل يزيدونَ بها من غُرورِهم المتضخّمِ الذي يتغذّى من بئرِ الإعجابِ عبرَ العالمِ الافتراضي، بينما تذوي ذَواتُهم الحقيقيةُ في غيابِ الاتصالِ الإنساني الحقيقي. إنه مشهدٌ مثيرٌ للشفقة، لأنهم يُخطئون التحققَ والتأكدَ عبرَ الأشخاصِ الوهميين أو ما يُعرف بـ “الذباب الالكتروني” ثم يعتبرونه إشباعاً حقيقياً، تاركين أرواحَهم جافةً وخاليةً من الأصالةِ والامتلاء.
إن مُثُلَـهم الواهيةَ ومحاولاتِهم الضعيفةَ ذاتَ الصلةِ توفرُ مادةً لا نهايةَ لها لرحلتِنا الساخرة، حيثُ بالإمكانِ مواصلةُ تقشيرِ طَبقاتِ سخافتِهم وتعريةِ حقيقتِهم، ولكن نكتفي بهذا القَدرِ على أملِ أن تصلَ الحّقائقُ التي تضمّنَتها هذه الرحلةُ إليهم، فقد حانَ الوقتُ بالنسبةِ لهم للتوقفِ عن الاختباءِ وراءَ الكلماتِ الفارغة والمسرحياتِ الهابطة. حانَ الوقتُ ليعلموا أن الواقعَ ليس لُعبةَ فيديو، وأن يعثروا على شجاعتِهم المفقودة، وأن يفهموا كيف تشكّلتِ الجغرافيةُ السياسيةُ لهذا العالمِ قبلَ أن يستمروا في السُخريةِ ممن يدافعُ عن شعبِ فلسطين والأرضِ العربيةِ المحتلة. آن لهم أن يعرفوا أن المالَ قد ينفد وأنهم سيكونون بحاجةٍ أكبرَ إلى وعيٍ كبيرٍ لتعلّمِ كيفيةِ التصدي للتحديات، وبحاجةٍ إلى شجاعةٍ تجعلُهم يقفون وجهاً لوجهٍ مع الخطر. آن لهم أن يتخلّصوا من نفاقِهم ومن عقولِ الأنعامِ التي يفكرون بها ليجربوا التفكيرَ بعقولِ البشر.
– المصدر: المسيرة نت
– المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع