المثقف والمقاومة
موفق محادين*
قبل استعراض أبرز النماذج الثقافية التي استشهدت أو اعتقلت أو لوحقت بسبب موقفها المقاوم، نشير إلى أكثر المقاربات تداولاً حول مفهوم المثقف نفسه.
المثقف والثقافة من المفاهيم الملتبسة في تعريفاتها وحدودها ومحدداتها. وفي تأصيلها في اللغة العربية، فإنها مشتقة من كلمة الثقاف، وهو ما تسوى به الرماح.
أما في أوروبا، فقد اكتسبت كلمة “Culture” التي تقابل كلمة “ثقافة” العربية معناها الفكري في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إذ استخدمت للدلالة على ما يجري لتنمية الأفكار وترقية الآداب. وقد ارتبط انتقال مفهوم الثقافة إلى فروع المعرفة الأخرى في مجال العلوم الاجتماعية بظهور كتاب المفكر الإنكليزي تيلور عن الثقافة البدائية عام 1871، والذي عكس تأثر تيلور بالفكر الألماني وبنتائج بحوث علم السلالات.
أما أبرز المدارس والتيارات التي ناقشت هذا المفهوم، فهي المدارس التالية:
1. مدرسة الدور الاجتماعي
يقول إيغلتون إن المثقف ليس مجرد شخص يمتهن مهنة الفكر. المثقف هو شخص يتعامل بالأفكار، ولكنه يعمل على تخطي الحدود الثقافية ويقوم بانتهاكها لأنه يرى ضرورة ذلك. إن المثقف أيضاً هو شخص يتعامل بالأفكار ملتفتاً إلى أثرها الحيوي في الثقافة السياسية بأوسع معانيها.
ويركز سارتر أيضاً على البعد الاجتماعي في تعريفه المثقف، إذ يشير إلى أن المثقف هو الإنسان الذي يدرك ويعي التعارض القائم فيه، وفي الجمع بين البحث عن الحقيقة العملية (مع كل ما يترتب على ذلك من ضوابط ومعايير) والأيديولوجيات السائدة (مع منظومتها من القيم التقليدية).
أما جرامشي، فقد ميز بين نوعين من المثقفين الاجتماعيين: المثقف التقليدي والمثقف العضوي.
2. المدرسة الأنثروبولوجية
وتتمثل في:
1.التعامل مع الثقافة باعتبارها مجموعة من المعطيات الفكرية والعاطفية والمادية التي تختلف مناهج الباحثين في طريقة تحديدها، ولكنها تحافظ على كلية تترابط فيها هذه المعطيات ترابطاً يكسبها دلالاته ولا تفسر خارجه.
2. اعتبار أن ما هو ثقافي لا يورث بيولوجياً، إنما يستقي عن طريق الاستيعاب الاجتماعي. ومن هذا المنطلق، تعد الثقافة ما يتعلمه الفرد للعيش في مجتمع خاص، وتدخل في مجال عملية التنشئة الاجتماعية.
3. المشاركة، وهي سمة نزعت بها الأنثروبولوجيا عن الثقافة تلك الاعتبارات الفردية، باعتبار أن المعيار الأساسي للظواهر الثقافية هو اشتراك مجموعة من الأفراد في تلك الظواهر بصرف النظر عن عددهم. وإلى جانب هذا الحد الأدنى من الاتفاق حول خصائص التعريف الأنثروبولوجي للثقافة، نجد داخل هذا التيار تعريفات عدة:
· الاتجاه الأول: يرى الثقافة من زاوية التاريخ، وهو اتجاه رسمه بواس الذي اهتم بخصوصية كل ثقافة، وحاول إيجاد صلات تاريخية جغرافية بين الثقافات المختلفة.
· أما الاتجاه الثاني، فينظر إلى الثقافة في علاقتها بالشخصية. وقد تبنى هذا الاتجاه سابير، وهو من المشتغلين بعلوم اللغة. وقد اهتم بإبراز العلاقة العضوية بين الظواهر الثقافية والظواهر اللغوية، والتي كان لها تأثيراتها في الأنثروبولوجيا البنيوية في فترة لاحقة. ينطلق سابير من افتراض وجود علاقة أساسية بين الثقافة والشخصية.
· أما الاتجاه الثالث، فينظر إلى الثقافة بالرجوع إلى نظريات الاتصال الحديثة منطلقاً أساساً ـ من النموذج اللغوي ويجد أفضل تعبير عنه في أعمال ليفي شتراوس الذي اعتبر أن كلاً من الظواهر الاجتماعية له لغته وأسلوبه، وسعى إلى تحليل المجتمعات كأساليب واضعاً في خلفيته أن هناك بنية متغيرة مع الزمان والمكان، وهو ما يطلق عليه البنيوية في الأنثروبولوجيا.
وإضافة إلى الاقترابات السابقة، ينبغي الإشارة إلى اقتراب التحليل النفسي الذي يتزعمه فرويد، والذي يبنى رؤية مفادها أن الأحاسيس والانفعالات تخضع لنوع من التسامي، بمعنى أنها تتحول من هدفها الجنسي وتتوجه نحو أهداف أكثر رقياً من الناحية الاجتماعية، من قبيل الثقافة مثلاً.
3. المدرسة المتخصصة التي تنطلق من الأساس الثقافي للمهنة
ويعرف القاموس الحديث لعلم الاجتماع المثقفين بأنهم أولئك الأفراد من أعضاء المجتمع الذين يكرسون أنفسهم لتطوير الأفكار الجديدة، والمشغولون بالممارسات الثقافية الخالقة. في الحقيقة، مثل هذا الوصف يوضح أن المثقفين هم جماعة من النخبة في المجتمع من دون طبيعة اجتماعية أو تاريخية.
ويرى إدوارد شيلز أن المثقفين يمثلون ذلك التجمع من الأفراد الذين يستخدمون في اتصالاتهم وتعبيراتهم رموزاً عامة ودلالات مجردة تتعلق بالإنسان والمجتمع والطبيعة والكون، وذلك بدرجة أكبر من معظم أعضاء المجتمع الآخرين.
ويميز فوكو بين ما يسميه المثقف الشامل والمثقف الخصوصي. وفيما يربط الأول بالمثقف “اليساري”، يربط الثاني بـ”المثقف التقني”، وذلك على قاعدة محددة ومعيار محدد هو العلاقة بين النظرية والممارسة.
المثقف والمقاومة
انخرط المئات، بل آلاف المثقفين، على المستوى العربي والعالمي في أشكال ومستويات مختلفة من العمل السياسي، ولكن قلة منهم انخرطت في العمل الوطني، ودفعت ثمن ذلك اغتيالاً أو إعداماً أو سجناً.
من هذه القلة، نستعرض أبرز الأسماء والعناوين الثقافية ونحن اليوم في قلب اشتباك كبير مع الإمبريالية والصهيونية وظلالهما، يحتاج إلى المثقف المشتبك، كالشهيدين باسل الأعرج ونزار بنات في فلسطين، أو إلى المثقف العضوي الذي يؤشر على البوصلة وسط حرب مهمة على جبهة المفاهيم والمعرفة.
من الحقل الأدبي على المستوى العربي:
في حقل الشعر:
– من مصر، أمل دنقل صاحب قصيدة “لا تصالح”، وبيرم التونسي، الذي شكل مع سيد درويش ثنائياً معروفاً ضد الاستعمار البريطاني والإقطاع.
– من سوريا، الشاعر الدكتور كمال خير بك (مواليد القرداحة)، والحائز على الدكتوراه في الأدب من السوربون حول الحداثة في الشعر العربي. وقد استشهد في لبنان اغتيالاً بتاريخ 5/11/1980. وكان قد بدأ حياته مع الحزب السوري القومي قبل انخراطه مع المقاومة الفلسطينية. ومن أعمالة الشعرية “دفتر الغياب”.
– من لبنان، الشاعر خليل حاوي صاحب ديوان “الرماد”. وقد مضى انتحاراً احتجاجاً على الوضع العربي عام 1982.
– من الأردن، الشاعر تيسير السبول صاحب ديوان “أحزان صحراوية”. وقد مضى انتحاراً واحتجاجاً كما خليل حاوي.
– من فلسطين، الشاعر عبد الرحيم محمود الذي استشهد في معركة الشجرة 1948، وهو صاحب القصيدة الشهيرة التي تبدأ بـ”سأحمل روحي على راحتي.. وألقي بها في مهاوي الردى…”، ومن شعره أيضاً خلال زيارة الملك السعودي إلى القدس 1935: المسجد الأقصى أجئت تزوره أم جئت قبل الضياع تودعا.
ومن فلسطين، هناك عشرات الأدباء، مثل الشاعر كمال ناصر الذي استشهد 1973، والشاعر خالد أبو خالد، والشاعر أحمد حسين، والشاعر الشهيد علي فودة، وغيرهم، وكذلك الشعراء العرب الذين عاشوا مع المقاومة، مثل العراقي سعدي يوسف، والعراقي مظفر النواب، والمصري أحمد فؤاد نجم.
– شعراء شمال أفريقيا، ومنهم: أبو القاسم الشابي من تونس صاحب بيت الشعر الشهير الذي استعاده الشارع العربي في العقود الأخيرة: إذا الشعب يوماً أراد الحياة… فلا بد أن يستجيب القدر، ومنهم الشاعر الجزائري مفدي زكريا صاحب النشيد الوطني الجزائري.
في حقل الرواية والقصة
– من فلسطين، الروائي الشهيد غسان كنفاني الذي اغتاله العدو بتاريخ 8/7/1972. ومن أعماله: “رجال في الشمس”، و”عائد إلى حيفا”، و”ما تبقى لكم”، إضافة إلى دراسات في أدب المقاومة ومجموعات مسرحية وقصصية. ومن فلسطين أيضاً، القاص الشهيد ماجد أبو شرار.
– من الأردن، الروائي العربي غالب هلسا الذي توفي في دمشق بتاريخ 18/12/1989 بعد سجل حافل بالمنافي والمعتقلات والصمود خلال حصار بيروت 1982. كتب عشرات الروايات منها “الخماسين”، و”السؤال”، و”الروائيون”، و”سلطانة”، والدراسات والترجمات “جماليات المكان”، و”العالم مادة وحركة”…
– عربياً، الروائي عبد الرحمن منيف.
من الحقل الأدبي العالمي
– تحتل إسبانيا مكانة خاصة على هذا الصعيد، وخصوصاً الشعراء الذين عاصروا الحرب الأهلية الإسبانية وناصروا الجمهورية فيها ضد الملكية الأرستقراطية، ومنهم: لوركا (مواليد غرناطة) الذي اغتيل 1936، ومن أعماله الشعرية “حكايا غجرية” و”مرثية مصارع الثيران”، والمسرحية “عرس الدم” و”بيت برنارد ألبا”، وميغل هرناندز، وروفائيل البرتي صاحب “بحار على اليابسة”، وأنطوانيت ماتشادو صاحبة ديوان “قشتاله”.
– شعراء أميركا اللاتينية والكاريبي، مثل خوسيه مارتي الكوبي الذي استشهد 1895، وله القصيدة المغناة الشهيرة “كوانتاماميرا” ومسرحية “عبد الله”، والشاعر نيرودا (تشيلي) الذي توفي في ظروف غامضة بعد الانقلاب الذي دبرته السفارة الأميركية 1973. ومن أعماله “النشيد الشامل”، “ملحمة شعرية مهداة إلى سيمون بوليفار”، و”نشيد العودة”، و”20 قصيدة حب”.
– الشاعر اللورد بايرون من بريطانيا، الذي توفي خلال مشاركته في الحرب اليونانية ضد تركيا 1844.
– الشاعر التركي ناظم حكمت، الذي أمضى سنوات طويلة في السجون التركية، من أشهر أعماله الشعرية “الناظرون إلى النجوم”، و”أغنيات المنفى”.
– الشاعر الفرنسي أراغون، صاحب ديوان “مجنون ألزا”.
– وهناك من يضع شاعر التمرد والتحديث الشعري عزرا باوند ضمن شعراء التمرد، رغم أنه ناهض بلاده (الولايات المتحدة) من موقع التحالف مع موسوليني.
– الشعراء السياسيون الذين تولوا رئاسة بلادهم بعد تحريرها مثل سنغور في السنغال، وهوشي منه في فيتنام، وماوتسي تونغ في الصين.
من الحقل الأدبي العالمي في الرواية والقصة
من المعروف أن روسيا والولايات المتحدة وفرنسا قدمت العشرات من أهم الأدباء في العالم، ومن الذين عرف منهم بمناهضة القيصر في روسيا والإدارات الإمبريالية الأميركية والفرنسية:
– دوستويفسكي في روسيا، الذي اعتقل وحكم عليه بالإعدام قبل تخفيفه. عرف هذا الروائي بالموقف الحاد من الليبرالية والوسط اليهودي، وترك العديد من أهم الروايات العالمية مثل: “الإخوة كارامازوف”، و”الجريمة والعقاب”، و”الشياطين”، و”المقامر”.
– من الولايات المتحدة، هناك الروائيون الذين اتهموا بالاشتراكية، مثل جاك لندن صاحب روايتي “العقب الحديدية”، و”ذئب البحار”، وجون ريد الذين أرّخ للثورة الروسية في كتابه “عشرة أيام هزت العالم”، والكاتبة هاربيت ستو صاحبة رواية “كوخ العم توم”. يشار إلى أن الروائي همنغواي شارك في أكثر من حرب كمراسل حربي وكتب عنها، مثل “وداعاً للسلاح” بعد الحرب في إيطاليا، و”لمن تقرع الأجراس؟” بعد مشاركته مع الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية.
– من الأدب الياباني، الروائي ميشيما الذي اقتحم معسكراً للجيش مع مجموعة صغيرة، ودعا إلى انقلاب عسكري يعيد مجد اليابان ويحررها من النفوذ الأميركي. وقد انتحر على طريقة الساموراي بعد ذلك، ومن أعماله “هدير الأمواج”، و”البحار الذي لفظه البحر”.
فنانون شهداء ومقاومون
من الفنانين العرب الشهداء ناجي العلي؛ رسام الكاريكاتور الفلسطيني الذي استشهد في لندن بتاريخ 29/8/1987، والمسرحي الجزائري محمد بوضيا الذي اغتاله العدو الصهيوني في باريس في 28/6/19732، والفنان البحريني مجيد مرهون.
أما على الصعيد العالمي، فالأشهر هو الأكاديمي والملحن فكتور غارا، الذي قتله الانقلابيون في تشيلي والمدعومون من السفارة الأميركية 1973.
وعرف العالم العديد من الأسماء الفنية الكبيرة التي انخرطت في مقاومة المحتلين أو النازية والفاشية، مثل الموسيقار فاغنر، والمسرحي بريخت في ألمانيا، والفنان شارلي شابلن في الولايات المتحدة، ومن العرب زياد رحباني والشيخ إمام ونجيب سرور.
من الحقل الفكري
إضافة إلى أسماء كبيرة انطوت أعمالها الفكرية على ثقافة المقاومة، مثل فرانز فانون (معذبو الأرض) وسوريل (تأملات في العنف)، فقد اغتيل أو اعتقل مثقفون بسبب تصوراتهم وأفكارهم النظرية وانخراط العديد منهم في المعركة من أجلها، مثل: المفكر والإعلامي الفرنسي جورج بوليتزر الذي أعدم على يد النازية الألمانية، والمناضلة والمفكرة روزا لوكسمبورغ التي تم إعدامها في ألمانيا بتاريخ 15/1/1919، ومن أعمالها “الاشتراكية أو البربرية، إصلاح اجتماعي أم ثورة”، والمفكر الاشتراكي الإيطالي غرامشي الذي أودع السجن سنوات طويلة، وكتب خلالها أبرز أفكاره حول المثقف العضوي، والكتلة التاريخية، وحرب المواقع.
أما على الصعيد العربي، فكان الأبرز:
– اختطاف وإعدام المفكر والمناضل المغربي المهدي بن بركة في باريس 1965، بمشاركة جهات استخبارية عديدة، منها جهات أوروبية وصهيونية وأميركية وعربية.
– اختطاف وإعدام المفكر والمناضل أنطون سعادة، مؤسس الحزب والفكر السوري القومي، 1949.
– اختطاف وإعدام المفكر والمناضل العراقي اليساري يوسف سلمان (فهد) عام 1949 على يد حكومة نوري السعيد في العهد الملكي العراقي.
– الاغتيالات التي استهدفت مفكرين لبنانيين مثل مهدي عامل وحسين مروة.
من الحقل السياسي
– من المثقفين العرب الذين تم اغتيالهم على خلفية كتاباتهم السياسية المناضل (السعودي) ناصر السعيد.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب