ما بعد الطوفان…كيف نستنقذ غزة والمقاومة، كيف نستنقذ فلسطين وقضيتها؟
عريب الرنتاوي*
لم تصمت المدافع بعد، ولم يتوقف طوفان القذائف والصواريخ المصبوب فوق رؤوس الأطفال والنساء في غزة، لم “تسترح” آلة الإبادة الإسرائيلية، أميركية الصنع، ولو برهة واحدة…
لكن البحث في مرحلة ما بعد الطوفان، بدأ مبكّراً، وتصاعد اليوم أكثر من أي وقت مضى، على وقع الضغوط الدولية الرامية إلى وقف المجازر والمذابح، وتحت ضغط التحولات التي تطرأ على مواقف حكومات وجماعات، واتساع الفجوة بين أولويات واشنطن و”تل أبيب”… المعركة السياسية بدأت، ومن المنتظر أن تتكثف، وهي أكثر خطورة وصعوبة، من معارك الميدان في القطاع المحاصر، والتي يتردد صداها في الضفة الأسيرة، مقطّعة الأوصال، والمحكومة بقبضة احتلالية من حديد ونار، وبـ “ظلم ذوي القربى”.
تتعدد وتتنوع “سيناريوهات اليوم التالي”، بتعدد وتباين الجهات التي تطلقها، لكنها في معظمها تلتقي عند هدف واحد: لا عودة لغزة إلى سابق عهدها، ولا مطرح فيها لحكم حماس وكتائبها ومقاومتها… بينما البحث جارٍ عن بدائل من أجل ملء فراغ الحركة والمقاومة، وضمان عدم تكرار الكارثة التي ألحقتاها بـ”إسرائيل”، كياناً ومجتمعاً، جيشاً واستخبارات، وصورة ردع ثبت بالملموس أنها هشّة، وعرضة للتهشيم، وقد فعلتها القسّام، في ساعات ثلاث.
“إسرائيل” تطمح إلى ما هو أكثر منذ ذلك، ولو تُرك الأمر لمنظومتها الأمنية – السياسية الفاشية، لألقت القطاع وأهله، عن بكرة أبيهم، في صحراء التيه، في سيناء، وعلى مبعدة من الحدود مع فلسطين المحتلة، ولأطلقت النار من مسافة صفر، على رؤوس قادة الكتائب والسرايا، ولَعَمِلت على تحويل هذه البقعة من الأرض الفلسطينية، والتي لطالما حلمت بأن يبتلعها البحر، إلى “مرأب سيارات” ملحق بمستوطنة غوش دان، ولربما كانت لتذهب إلى أبعد من ذلك، مستفيدة من “شهر العسل” الذي ميّز علاقاتها بالغرب الاستعماري، وتحديداً الولايات المتحدة، من أجل استدراجه إلى خوض حربها ضد حزب الله وإيران، فتتخلص دفعة واحدة، من القضية الفلسطينية، في مختلف فصولها وملفاتها، وترتاح إلى الأبد، من مصادر التهديد كافة، ليخلو لها الطريق لتوسيع مسارات التطبيع الإبراهيمية المجانية والمُذلّة وتعميقها.
لكن، ليس كل ما تتمناه “إسرائيل” تدركه، حتى عندما تكون في أكثر لحظات احتضانها من رعاتها ومُنشِئيها، فالعالم لا يضبط ساعاته على توقيت كيان الفصل العنصري الاستعماري، والفلسطينيون شبّوا عن الطوق، والمنطقة لم تعد رهن إشارات “إسرائيل” ورغباتها الشاذّة، ولقد رأينا كيف أخذ السحر ينقلب على الساحر، بعد مرور أقل من أسبوعين على حروب التطويق والإبادة.
الولايات المتحدة، وهي الشريكة في إدارة الحرب الإسرائيلية في أبعادها السياسية والميدانية، لا تمانع في تمهيد الطريق للأجندة الإسرائيلية، ما دام ذلك ممكناً، ومن دون أن يفضي الأمر إلى غرق أميركي في متاهة الأولويات الإسرائيلية الضيقة، على حساب الأجندة الإقليمية والكونية للدولة الأعظم، وتجلّى ذلك في جملة من الشواهد التي برزت في سياق المعركة السياسية المصاحبة للحرب الضروس في قطاع غزة.
واشنطن منحت “إسرائيل” “شيكاً على بياض”، تفعل ما تشاء، وكيفما تشاء، وأينما تشاء، ما دام الهدف تدمير حماس وذراعها العسكرية، حتى إن تطلّب الأمر اقتراف كل هذا القدر من الجرائم والاستباحة. وكيف لا تفعل، وهي التي أسست “مدرسة بأكملها” في حروب التدمير والإبادة، من فيتنام إلى العراق مروراً بأفغانستان وغزة … “إسرائيل” أطلقت العنان لآلة القتل والتدمير، بيد أنها لم تنجح حتى الآن في تحقيق منجز عسكري ذي مغزى، يمكنها أن تتقدم به إلى واشنطن، من أجل طلب المزيد، أو يكفي لتهدئه روع مواطنيها، واسترداد ثقتهم بأسطورة “الجيش الذي لا يُقهر والاستخبارات التي لا تفشل”.
حتى إن رسل واشنطن إلى المنطقة، وفي مقدمتهم أنتوني بلينكن، الوزير الذي قدّم أوراق اعتماده إلى نتنياهو بصفته يهودياً صهيونياً، مزايداً على رئيسه صاحب المقولة المعروفة: “ليس ضرورياً أن تكون يهودياً حتى تكون صهيونياً”… رُسُل واشنطن هؤلاء، استجابوا منذ اللحظة الأولى لسيناريو تهجير الغزيين إلى سيناء، وسعوا لتسويقه وتسويغه للدول المستهدفة به، تارة بحجة إنقاذ المدنيين، وأخرى بذريعة أنه ترتيب موقت. واستخدموا، لهذا الغرض، تكتيك العصا والجزرة، وحاولوا الضغط على اليد المصرية المجروحة بالديون والأزمات المالية والنقدية والاقتصادية، لكن من دون جدوى حتى الآن.
لكن هؤلاء، مع ذلك، يريدون بلورة إجماع إقليمي جديد، تكون “إسرائيل” ومصالحها ومخاوفها، وحتى هواجسها، محوراً رئيساً فيه، مفاده أن غزة بعد الحرب، لا ينبغي لها أن تشبه، في أي حال، غزة ما قبلها… وهنا بدأنا نقرأ ونسمع بشأن إعادة إنتاج “سيناريو بيروت 82″، و”منظومة إقليمية أمنية – دولية” تحل محل منظومة حماس والمقاومة، و”سيناريو عودة السلطة فوراً أو بعد حين، حتى لا تبدو كمن عاد إلى القطاع على ظهر دبابة إسرائيلية.
وفجأة، تخرج علينا رموزٌ وشخصيات فلسطينية، ظننا أنها غارقة في أوحال التآمر على السودان، بعد أن أدّت دوراً فاعلاً في ممارسة الفعل التآمري في غير ساحة، لتتقدم بخطط “إنقاذية”، محورها البناء على جثة المقاومة، والعودة إلى الانخراط في مستنقع “عملية السلام”، التي لم تجلب سلاماً، ولم تكن “عملية” في الأصل، بقدر ما كانت أكبر عملية خداع يتعرض لها شعب فلسطين، منذ نكبته الأولى.
فجأة – وليست مفاجأة – يشتد الطلب على السلطة الفلسطينية، التي جلست طوال أسابيع الحرب الأربعة الأولى، في مقاعد المتفرجين، في انتظار أن يهدأ غبار الحرب وتتبدد أدخنتها، فهي مرشحة، أميركياً وعربياً، للقيام بدور أكبر في المرحلة المقبلة، ودائماً في سياق “وراثة حماس وتركتها” في القطاع، كما في الضفة الغربية، فبدأت الاتصالات بالسلطة مبكراً، وانبرى في واشنطن وعواصم عربية وأوروبية من يرفض أفكار الصهيونية الدينية قصيرة النظر، في استهداف السلطة، والجدل الأخير داخل “الكابينت” بشأن المقاصة، يقدم ملخصاً موجزاً لخريطة المواقف والنيّات والمشاريع التي تعدها “إسرائيل” وحلفاؤها للأيام المقبلة.
وليس بعيداً عمّا يجري في مطابخ صنع القرار الأميركي – الإسرائيلي، ثمة مواقف عربية متسقة ومتساوقة مع المنحى العام للمقاربة الأميركية على وجه الخصوص … كثرة من العواصم العربية تشاطر واشنطن، وحتى “تل أبيب”، نظرتها إلى حماس والمقاومة، بصفتهما تهديداً محلياً وإقليمياً، وليس كفرصة لاسترداد بعض من الكرامة والشرف، والمصالح والحقوق.
وهي تنتظر، بفارغ الصبر، هدوء رياح الحرب والمواجهة، علّها تنتهي باقتلاع حماس والمقاومة من الجذور، مع رغبة تُمْليها المصلحة حيناً، والمحافظة على ما تبقّى من ماء الوجه أحياناً، في مدّ ولاية السلطة إلى غزة، وشق مسار سياسي “ذي مغزى”، ينتهي بـ”حل الدولتين”، بصرف النظر عن حدود الدولة الفلسطينية العتيدة وولايتها وسيادتها، وبصرف النظر عن “خط نهاية” هذا المسار، وما إن كان سيلبي الحد الأدنى من تطلعات الفلسطينيين وطموحاتهم الوطنية، أو لا… المهم العودة إلى سياسة “بث الوهم” بوجود مسار سياسي، وعلى أمل الحصول على فترة استراحة ممتدة لعشرة أعوام أو أكثر، سيصعب فيها على المقاومة إعادة إنتاج زلزال السابع من أكتوبر.
في المعركة الميدانية الدائرة بضراوة في غزة وعليها، تبدو واشنطن أقرب إلى “تل أبيب” من حلفائها العرب، فهي لا تني تنافح عن “واجب” “إسرائيل” في “الدفاع عن نفسها”، وليس عن “حقها” في ذلك…
لكن في المعركة السياسية، التي تدور توازياً وتزامناً مع معارك الميدان، تبدو واشنطن أقرب إلى حلفائها من “عرب الاعتدال والتطبيع والسلام كخيار استراتيجي وحيد”، ودائماً في خدمة “إسرائيل” وإنقاذها من نفسها ومن أحلام يمينها الفاشي السوداء، والذي تعتقد أوساط أميركية متزايدة أنه يُلحق أفدح الضرر، لا بمصالح واشنطن وصورتها ودورها القيادي فحسب، بل أيضاً بالمصالح الأعمق والأبعد لـ”دولة” الاحتلال والعنصرية.
وإن كان ثمة عائق يقف في طريق ترجمة ما يُطبَخ ويُعَدّ في القنوات الدبلوماسية والسياسية، لمرحلة ما بعد الطوفان، فإنه يتجلى، في واحدٍ من جوانبه، في موقف “إسرائيل” النابع من الغلو وعمى البصر والبصيرة، واللذين أصابا نخبها السياسية والأمنية والعسكرية المتحكمة… لذلك، يبدو الطريق إلى بلورة الإجماع الإقليمي، الذي تطمح إليه واشنطن، محفوفاً بالعقبات والمصاعب الإسرائيلية أساساً، وتلكم “ثغرة” يمكن التسلل منها، لتوسيعها والانقضاض على مرامي أطرافها، إن توافرت الإرادة والدراية والنيات الحسنة، لدى الطرف الفلسطيني وداعميه في الساحتين العربية والإقليمية – الدولية.
لكن نقطة البدء، ونحن نتحدث عن فصول المعركة السياسية ومرامي الأطراف المنخرطة فيها، إنما تتمثّل بتطورات الميدان نفسه. فهؤلاء، الذين يتسابقون إلى تقاسم جلد الدب الفلسطيني المقاوم قبل اصطياده، عليهم أن يتمكنوا أولاً من اصطياده، أو اقتياده إلى حتفه… هذا لم يحدث طوال الشهر الأول في عمر “طوفان الأقصى”، والمعركة في الميدان سترسم سقوف الأهداف والتوقعات، وستقرر من الذي سيضحك أخيراً، ومن الذي يتعين عليه أن يهبط، بسقف توقعاته ومراميه. وكل المؤشرات حتى الآن تُظهر، بما لا يدع مجالاً للشك، أن غزة صامدة، وأن مقاومتها ضارية وتشتد بسالة.
كيف نستنقذ غزة والمقاومة وفلسطين؟
على أنه لا يتعين على الفلسطينيين، في طرفي المعادلة الداخلية، الانتظار حتى تضع الحرب أوزارها لصياغة بدائلهم والمساهمة النشطة في صنع مستقبلهم وصون قضيتهم وحقوقهم… النافذة النادرة المفتوحة اليوم، توفّر للشعب الفلسطيني ونخبه فرصة استحداث الاستدارة في مجرى التاريخ، واستعادة زمام المبادرة، وقطف ثمار “شهر العسل الممتد” مع الرأي العام العالمي، وفرض الأجندة الفلسطينية على صدارة جدول أعمال المجتمع الدولي.
بمَ نبدأ، ومن يعلق الجرس؟ أسئلة كانت حاضرة بقوة في جداول أعمال النقاشات والحوارات الفلسطينية الداخلية. وهنا يتعين فرز المواقف قبل توضيحها والبحث عن مشتركاتها، وتبيان ما يحفُّ بها من تحديات وعوائق.
في المقلب الأول، المقاومة التي أدت قسطها للعلى مرتين في شهر واحد… الأولى، حين أطلقت زلزال السابع من أكتوبر. والثانية، حين انبرت مدافعة عن نفسها وعن شعبها، ببسالة واقتدار قلّ نظيراهما… ومن موقع الإدراك العميق لما يحيط بمعارك الميدان من معارك سياسية، تقدمت حماس، على لسان رئيس مكتبها السياسي، بمبادرة سياسية شاملة، في ظني أنها موجهة إلى فتح والسلطة والمنظمة، على أنها لا تقتصر على الداخل الفلسطيني، بل تتخطاه إلى كل من يهمه الأمر في المجتمعين العربي والدولي.
مبادرة النقاط الأربع لإسماعيل هنيّة: وقف النار، وتبادل الأسرى، ورفع الحصار الجائر، والدخول في مسار سياسي ينتهي بدولة فلسطينية عاصمتها القدس. سبق للناطق العسكري لحماس، الأكثر شعبية في أوساط الجماهير العربية، أن مهّد لها بحديث عن الشرعية الدولية والقرارات الأممية. حماس أرادت القول إنها جزء من الحل وليست جزءاً من المشكلة، وإنها لا تريد الحرب من أجل الحرب، وإن الحرب دائماً تنتهي بالسياسة وعلى موائد الحوار والتفاوض، بصرف النظر عن أشكالهما والأطراف المنخرطة فيهما، ذلكم هو درس جميع الحروب في جميع دول العالم.
لم تلتقط السلطة الفلسطينية، حتى الآن على الأقل، مبادرة حماس، وقابلتها بالصمت، حتى لا نقول “قتلتها بالصمت”، مع أن كل ذي عقل يقظ وضمير حيّ، أدرك، منذ اللحظة الأولى أن حماس رفعت بمبادرتها “الحرج” عن السلطة والمنظمة، وأنها فتحت أفقاً واسعاً لتحريك الراكد في ملف المصالحة واستعادة الوحدة، وأن اللحظة، التي وفرتها، تاريخية بامتياز، حتى إن ازدحمت الشكوك والظنون في عقول البعض، بمن فيهم أولئك الذين ظلوا حتى الأمس القريب، ينظرون إلى حماس، كتهديد، يعادل أو يفوق تهديد الاحتلال نفسه.
“مؤامرة الصمت” على مبادرة حماس لا يمكن تبريرها بانشغال العواصم العربية بتدبيج بيانات الاستنكار ومناشدات وقف النار والتهدئة، وتسيير قوافل الإغاثة… هم يعرفون أنها مبادرة إنقاذية للمقاومة والقضية سواء بسواء… هم يخشون طوفان الهستيريا الذي اجتاح “إسرائيل” والغرب ضد حماس… هم يتحسسون رؤوسهم، ولا أحد منهم يريد توفير “خشبة خلاص”، قد يترتب على تقديمها فواتير يعجزون أو لا يرغبون في تسديدها.
على أن نافذة الفرص ما زالت مفتوحة، أقله أمام الفلسطينيين، لبناء الطوق الذي ينجّيهم من طوفان المؤامرة. ولست أبالغ إن قلت إن حماس، من حيث تقصد أو لا تقصد، مدّت طوق نجاة لحركة فتح، عمود السلطة والمنظمة الفقري، لتدارك ما يمكن تداركه، واستنقاذ نفسها من مهاوي التردي والتأكّل والتهميش، التي عاشتها في الهزيع الأخير، إذ تماهت مع السلطة، وبدأت تفقد هويتها كطليعة من طلائع حركة التحرر الوطني الفلسطينية…
حماس قدمت فرصة في إعادة البناء والتفعيل لـ”الممثل الشرعي الوحيد” المختطف من حفنة من الموظفين والمسؤولين، الذين لا تتخطى طموحاتهم واحلامهم مساحة مكاتبهم الفارهة في رام الله… حماس وفّرت للسلطة فرصة استعادة ولايتها في شطري الوطن، المحتل والمحاصّر، في مواجهة “إسرائيل”، وليس برضاها، بعيداً عن جدل “المقاصة” وانتظاراتها… حماس وفرت الفرصة لقطع الطريق على ما يحاك لغزة، وما وراءها، وأبعد منها: القضية الفلسطينية برمتها.
حتى الآن، يبدو المشهد في المقلب الآخر من المعادلة الفلسطينية الداخلية، ساكناً كامناً، ممتثلاً، على ما يبدو، لصرخة فيروز “لا تندهي ما في حدا”… ولا يبدو الأفق محمّلاً بأداء مغاير. ولطالما استمعت إلى ملاحظات ناقدة ومتشككة فيما أقول، إذ يُخرج كثيرون ألسنتهم مرددين عبارة مؤلمة: “لو بدها تشتي غيمت”… لكن الأمل ما زال معقوداً على فتح، التنظيم الضاربة جذوره في عمق التربة الفلسطينية، بإرث فتح الكفاحي المجيد، وبتوق كادرها الوسيط وقواعدها ونفر من قادتها إلى استنقاذها من براثن “الركود البريجنيفي”.
الأمل ما زال معقوداً على “خميرة” فتح، المتفاعلة تحت جلد الركود والسكون. وإن قَدّر الله لحماس أن تنجح في إتمام صفقة التبادل الشاملة للأسرى، وأمكن بنتيجتها الإفراج عن مئات الكوادر الفتحاوية، يتقدمهم القائد المناضل مروان البرغوثي، فإن رهاننا سيكتسب زخماً إضافياً، لا على استرداد فتح فحسب، بل تسهيل الطريق المسدود نحو المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية… فإن حدث ذلك، فسيسجل التاريخ واحدة من مفارقاته: حماس قدمت إلى خصمها ومنافسها، في الساحة الوطنية، أكبر خدمة يتحصل عليها، منذ رحيل مؤسس فتح والحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، الشهيد ياسر عرفات.
لكننا، ونحن في خضم الرهانات البعيدة على استنهاض الحالة الفلسطينية الداخلية، والخلاص من آفة الانقسام، صنو حالة الشيخوخة التي يعيشها “النظام السياسي الفلسطيني”، لا نمتلك ترف الانتظار لإنجاز هذه المهمّات الجليلة… فالوقت داهم، وهو من دمٍ وحقوقٍ ومكتسبات، لا يتعين تبديدها، في حال من الأحوال.
وهنا أجد مضاضة في أن اقترح على الفلسطينيين الاستفادة من تجربة أعدائهم، فـ”إسرائيل”، مع بواكير هذه الحرب، أنشأت حكومة طوارئ موقتة، ضمت السلطة والمعارضة، وهي نجحت نسبياً – وأشدد على نسبياً – في طي صفحة خلافاتها الداخلية، إلى ما بعد انقشاع غبار الحرب والمعارك. فلماذا لا يفعل الطرف الأضعف ذلك؟ لماذا لا تفعل الضحية والمعتدى عليها أمراً مماثلاً؟
هنا تشتدّ الحاجة إلى المبادرة إلى تشكيل حكومة طوارئ وطنية فلسطينية، مثلما تشتد الحاجة إلى العودة إلى الإطار القيادي الموقت لمنظمة التحرير، من أجل تفعليه وتطويره، وجعله مطبخاً للقرار السياسي الفلسطيني، وليس جسماً “ديكورياً” مجرداً من الأنياب والمخالب، وبمشاركة الجميع، بمن فيهم حماس والجهاد، على أن يتولى هذا الإطار أمر التفاوض مع كل الأطراف، لا بشأن مستقبل غزة بعد الحرب، بل بشأن كل ما يتصل بالقضية الفلسطينية.
أجسام موقتة، نعم، لكنها فاعلة في لملمة الصف وتجميع الجهود، وهي كفيلة بإغلاق أي ثغرة يمكن أن يتسلل منها الأعداء والمرتجفون، من أجل فرض أجنداتهم بالسياسة بعد أن عجزوا عن تحقيقها في الميدان… وسيصبح ممكناً، والحالة كهذه، حشد موقف عربي، عن رضا وطيب خاطر، أو بالضغط والإحراج، لتوفير شبكة أمان لهذه المبادرات والأجسام. كما سيصبح ممكناً تفعيل أدوار الحلفاء على المستويين الإقليمي والدولي، اللذين لطالما اصطدمت جهودهم ومبادراتهم بجدران الانقسام و”اللعبة الصفرية” التي حكمت العلاقة بين طرفيه.
اللحظة الفلسطينية تاريخية بامتياز، وهي تتطلب قيادات تاريخية ترقى إلى مستواها، قيادات متجردة من الحسابات والمصالح الفردانية والفصائلية، وتضع نصب أعينها حقيقة، مفادها أن شعب فلسطين يخوض معركة وجودية؛ معركة أن يكون أو لا يكون، وقد آن أوان خوضها بالجرأة والبسالة نفسيهما، اللتين طرق بهما المقاومون جدران الخزان، فجر السابع من أكتوبر.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع