مَقتَلُ الكيان: إطالة أمد الحرب ونقلها الى حيّزه
أحمد فؤاد*
يعود أول استخدام معاصر لوصف عملاء الداخل في حالات الحروب والمواجهات العسكرية، إلى الحرب الأهلية الإسبانية والجنرال إميليو مولا، الذي سئل عن التقدم السريع لقواته نحو العاصمة مدريد، فأشار إلى قواته التي كانت تنتظم على هيئة 4 طوابير، وقال: “كان هناك طابور خامس”، وهو تفسير ذكي، ودائم الإلحاح والحضور في لحظات المعارك الكبرى التي تخوضها الأوطان ضد غابة من الأعداء، في الخارج ومن الداخل.
الطابور الخامس العربي نشط بشكل سريع مع اشتعال معركة “طوفان الأقصى”، وبات كفرقة موسيقية تتلقى الألحان الصهيونية، وتعزف عليها ليل نهار، جماعة جعلوا من “الهزيمة” مصيرًا حتميًا لا يحتمل الرفض أو المقاومة، وقلوبهم تسرع إلى تبني الرواية الصهيونية عن ما يجري في الإقليم، وسواء كان ذلك بوعي، أو كان فعل عهر مجاني، فإنهم في كل الأحوال لا يعملون إلا لصالح العدو.
الحرب مثلها مثل أي فعل إنساني آخر في حياة الأمم والشعوب، لها ثمن فادح وترافقها تضحيات كبيرة، في كل الأوقات لكل خطوة تكلفة، وفي مسيرة التاريخ نصف الفعل لا يكتب بماء المجد، والحرب الحالية كما تحمل إلينا الآلام، فإنها أيضًا كشفت عن قدرات الإنسان العربي الخلاقة والفريدة، وروحه النبيلة، واستحضرت كل معاني البسالة والشرف والمبدأ في اللحظات المجيدة الحالية، وهي تؤشر لمستقبل جديد للمنطقة، ومخاض خريطة مختلفة توشك على الظهور.
وبعيدًا عن ما تحقق على الأرض للمقاومة الباسلة، في الأسبوع الثاني من معركة طوفان الأقصى، فإن من المطلوب وقفة ترصد الخسائر الصهيونية الهائلة من الحرب، ووضعها في سياقها المنطقي والعقلاني، وبشكل يخاصم سردية الإعلام الصهيوني، وهو يحاول أن يتذاكى في تمرير ما يريده إلى عقولنا، وتساعده السيطرة الإعلامية المطلقة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في حشد ودعم هذه الرؤية التي قد لا تمانع أن تقول إنها لم تنتصر، لكنها على الإطلاق لن تسمح أن تصف ما يحدث بالوصف الحقيقي: الهزيمة.
خطاب عملاء الداخل، ممن قرروا تبني هذه الرواية الزائفة، يبدؤون من حيث يبدأ الصهيوني، أن الخسارة محتملة، عدد القتلى تجاوز 1500، والإصابات زادت عن بضعة آلاف، وعلى الجانب الاقتصادي، نشر أكبر بنوك الكيان “هبوعليم” تقديره الاستراتيجي لآثار الحرب، مؤكدًا أنها بلغت 6.8 مليار دولار، بنسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 1.5%، وهي الأعلى منذ 50 عامًا، وبالتحديد منذ حرب أكتوبر، إضافة إلى موجة مؤكدة من التضخم قادمة لا محالة.
قد تصلح التقديرات الاقتصادية والأرقام والنسب في مناقشة حال “دولة” طبيعية ومجتمع إنساني عادي، لكن في الحالة الشاذة للكيان المؤقت فإن تبني هذا الخطاب يتجاوز أي منطق أو عقل، هذه الخسائر من الممكن أن تقرر الولايات المتحدة أو أوروبا تغطيتها في لحظة زمن، ودعمهم غير المحدود للكيان سياسيًا وعسكريًا لا يعرف التوقف أو الحدود، وقبل أن تشتعل الأزمة ستجد تل أبيب مئات من أنابيب الإطفاء جاهزة وتعمل فعلًا لحلها تمامًا.
التقدير الأصوب للحالة الصهيونية تنطلق من التعريف الصحيح لهذا الكيان المسخ، الدولة ليست دولة، ولا هي مجتمع عادي بل هي أقرب لشكل المجتمع الإسبرطي العسكري، في الكيان كل فرد هو مجند في الجيش، وحين أعلنت حالة الحرب يوم 7 أكتوبر الجاري، توقفت كل الأنشطة الاقتصادية في الكيان، وتوقفت مظاهر الحياة العادية التي يمارسها أي شعب على وجه الأرض، الكل تحت خدمة السلاح والدولة المزيفة تحولت إلى معسكر وجيش من المقاتلين.
هذه الحالة الغريبة توضح على الفور صورة واقعية للكيان في حال الهزيمة، أو على الأقل العجز عن تحقيق أهدافه العسكرية وهي “الردع”، النتيجة الأولى هي ارتداد يشبه الزلزال المدمر على أعصاب المجتمع، وعاصفة تقتلع كل أوهام الثقة وظنون الاستمرار، الكيان في حالة خسارة معركة يخصم من فرص بقائه على الأرض، بالقدر ذاته الذي يحطم نفسية قطعان مستوطنيه ويكسر إرادتهم وينزع الوساوس من نفوسهم، وهو ما بدأ يحدث بالفعل على الأرض، من تبادل الاتهامات بين الحكومة والسياسيين، والمظاهرات، والدموع الساخنة التي تغطي مدنه وساحاته وشوارعه.
السير وراء الأكاذيب الصهيونية والتجارة في دماء وآلام الشهداء والأطفال، لن يسمح لنا على الإطلاق بأن ننتصر، يريد العدو في هذه اللحظة بالذات أن تنتشر عدوى الوجع والبكاء الجماعي، لدفعنا للتوقف والتساؤل عن الثمن المروع المدفوع، لكن الموضوعية تقتضي القول إننا مقتولون في كل الأحوال، إن لم يكن بالسلاح الأميركي في اليد الصهيونية، فبالحصار والتجويع والعقوبات، وأن جيشًا مهما بلغ من عدة وعتاد لا يستطيع كسر إرادة شعب أراد أن يتحرر.
منذ سنوات طويلة جدًا، قال الجنرال العربي الذكي سعد الدين الشاذلي، مهندس حرب أكتوبر على الجبهة المصرية، أن مقتل الكيان الصهيوني في أمرين، يتوجب أن يجتمعا معًا لتحقيق النصر، الأول: هو نقل المعركة منذ اللحظة الأولى إلى جغرافيته، واستهداف مدنه وبنيته، بالقدر الذي يفعله هو بنا وبكل ما نملك من إمكانيات وقدرات، والثاني: هو إطالة مدة ومدى الحرب إلى أبعد حد ممكن، لأن الكيان في هذه الحالة يصبح مثل المريض المصاب بالشلل، وعودته إلى الحياة الطبيعية لا تحدث مثل أي مجتمع في ظرف ساعات أو أيام، بل تستغرق –حتى مع الدعم الغربي- سنوات طويلة.
المقاومة الفلسطينية، وفي خندقها وظهرها كل بندقية عربية أخرى، في سوريا ولبنان واليمن والعراق، ومن تبقى من مؤمنين أو أحرار في العالم العربي، قد وصلا بالكيان الصهيوني إلى حالة “كش مات”، ليس المطلوب في هذه اللحظة إلا الثقة والإيمان، الثقة بخيار المقاومة والإيمان بأن “ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم”، وتصديق أن المقاومة نجحت بشكل مؤكد، وإننا أمام أول مرة في تاريخنا نرى الرعب “يجتاح” العدو، بكل المعنى المباشر والثقيل لكلمة اجتياح.
* المصدر: موقع العهد الاخباري