في النيجر .. فرنسا تتقدم بخطوةٍ إلى الخلف
محمد سيف الدين*
ثوره النيجر غيّر كيمياء منطقة الساحل الأفريقي برمّتها. سبقته ثورات أخرى عديدة، تحديداً منذ عام 2020، لكن النيجر كانت اسم التوكيد لحقيقة أن ما يجري هو نمط يعبّر عن تغييرات عميقة في المنطقة، وليس مجرد أحداثٍ منفصلة.
المواقف الإقليمية والدولية، التفاعل الداخلي أيضاً، كل شيء يشير إلى أن المسألة ليست مجرد مغامرة عسكرية لجنرالات الحرس الرئاسي النيجري، إنها انفجارٌ لنظام علاقاتٍ معتلّ، وأفول لمرحلة، وافتتاحٌ لأخرى.
النبض الأول للحلقة الجديدة من التفاعلات كان يشير إلى أن مشكّل الأحداث مدفوعٌ برغبة عارمة في تغيير الاتجاه نحو حلفاء دوليين جدد. برزت أعلام روسيا والجزائر مع المتظاهرين، وبدت الصين من أفق أبعد قليلاً، ولوّح المسؤولون الجدد في نيامي بالذهاب نحو هؤلاء الشركاء المحتملين، فيما لو تعرض ثورتهم لعملية إجهاضٍ قيصرية. لكن، بعد ذلك، موسكو وبكين ظلتا بعيدتين عن التدخل في تفاعلاتٍ تخدمهما بحركتها الطبيعية. لم تظهر أي بصماتٍ لهما في ساحة الحدث. وهذا ما أفاد المجلس العسكري في أسابيعه الأولى في الحكم.
قادت فرنسا التي شعرت بأنها المستهدفة الأولى من الأحداث، جهوداً مستميتة لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى السلطة. تأخرت في عمليتها القيصرية، ففقدت أدواتها. باريس لديها مصالح كبيرة هناك، لكنها لا تستطيع التحرك عسكرياً الآن، ليس بهذه الحسابات الداخلية والأفريقية، والظروف الدولية، وليس بهذا السياق من الأحداث في الساحل، وأيضاً ليس في مواجهة إرادة شعبية بدت مساندة للانقلابيين. ثم ليس من دون الأميركيين.
لذلك، تمسكت باريس بالموقف الأميركي الأولي من الانقلاب، والذي دعا إلى الإفراج عن بازوم وإعادته إلى السلطة، وفي اليد الأخرى بدأت بدفع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إكواس” إلى التدخل. كانت منصة مناسبة وساتراً عالياً أمام بقاء فرنسا هناك.
تحركت “إكواس”، لكن في لحظة الذروة لحماستها نحو إسقاط الانقلاب بالقوة، جاء تلميح أميركي إلى التباين، حين قالت واشنطن إن إمكانية عودة بازوم إلى السلطة غير مؤكدة. تلتها معطيات أخرى عديدة أشارت في مجملها إلى ترتيب أولويات أميركي مختلف عن ذلك الترتيب الفرنسي. ثم تبعت “إكواس” المؤشر الأميركي، فتحدثت عن خيار التدخل العسكري، واتفقت عليه صورياً، لكنها عملياً كانت تهدئ النسق، وتحاول التفاوض مع المجلس العسكري. لم يتبقَ سوى طرفين متحمسين للخيار الحاسم باستخدام القوة، فرنسا وفريق بازوم.
والآن، بعد أن أدركت فرنسا الفوارق بين ما هو مأمول، وما هو واقعي وممكن، ها هي تبحث عن صيغة للتواصل مع السلطات الجديدة، من باب التنسيق الوظيفي لسحب مقاتلات ومروحيات ومسيرات، وأطقم عملها. وهم جزء من القوات الفرنسية الموجودة في ثلاث قواعد في النيجر.
المفاوضات الوظيفية تبدو كأنها مقدمة وجس نبض دبلوماسي أكثر منها تنسيق حول معدات حساسة كما قيل، فالمقاتلات والمروحيات والمسيرات ليست معدات عسكرية حساسة، إلا إذا كانت تحمل قذائف استثنائية ذات طبيعة حساسة، وهذه ليست الحال هناك.
ثم إنه لا يمكن لطرف على وشك الشروع في تدخلٍ عسكري ضد آخر، أن ينسق معه سحب قطعه العسكرية وجزء من جنوده من أرض محكومة بسيطرة الطرف الآخر. هذا يقود إلى التفكير في أن فرنسا تخلت، أو يئست، من إمكانية تنفيذ “إكواس” للتدخل العسكري المنشود، خصوصاً أن التصريحات الأخيرة لباريس تراجعت من مستوى تشديدها على إعادة بازوم إلى السلطة، إلى مستوى عدم الحوار مع الانقلابيين قبل معرفة مصيره. وهذا تبدّل جوهري في مقاربة العلاقة مع نيامي الجديدة.
ما البديل إذن؟ تريد فرنسا أن يبدأ التنسيق عسكرياً، ومن نقطة قوتها تحديداً، عديد قوة برخان لمكافحة التطرف في المنطقة، لتتمكن من استخدام نقطة أفضلية لها وليس نقطة ضعف، كوجود الشركات الفرنسية المتهمة من جانب الثوار وجماهيرهم باستغلال مقدرات النيجر. ثم، تنتقل بعد هذا التنسيق العسكري والأمني، ومن بيئة الشراكة في مكافحة الإرهاب، إلى بحث المصالح وإمكانية استمرارها.
هذه المقاربة قد تكون الأكثر واقعية الآن، إذ إنه وعلى الرغم من المواقف المتشددة للطرفين تجاه بعضهما البعض، فإنه لا يزال لكلٍ منهما حاجةٌ عند الآخر. حاجات فرنسا واضحة، أما حاجات القيادة النيجرية الجديدة، فهي نيل الاعتراف بها، تمهيداً لرفع العقوبات والتمكن من إدارة الحكم، والتفرغ لمهمتَي الاستقرار الأمني والتنمية الاقتصادية. قبل ذلك، هناك مسألة بالغة الضرورة، وهي سيطرة الشركات الفرنسية على جزء وازن من البنية التحتية الاقتصادية في البلاد، وهي بالضبط المقصد الأبعد للتواصل المبكر حول التنسيق الأمني.
تطرح فرنسا سحب جزء من قوة برخان الموجودة ضمن قواعدها الثلاث في النيجر إلى تشاد المجاورة، لكنها أيضاً في تشاد تواجه احتجاجات حالية في مدينة فايا بعد مقتل شاب تشادي على يد جندي فرنسي. الهتافات في التظاهرات هناك طالبت أيضاً بمغادرة القوات الفرنسية، لكن سيطرة السلطات على الوضع لا تزال واضحة.
يقود البلاد محمد إدريس ديبي المعروف بمحمد كاكا، والذي خلف والده بعد مقتله قبل عامين في المعارك مع المتمردين. كاكا أجرى تغييرات عميقة في الجيش تحسباً لانتقال عدوى الانقلابات إلى بلاده، وشدد الأمن في مختلف أنحاء البلاد، لا سيما في العاصمة نجامينا.
الأوضاع في تشاد قد تعقّد استقبالها المزيد من الجنود الفرنسيين، ثم إن من شأن حدوث ذلك أن يزيد الضغط على السلطات التشادية، في وقتٍ تشهد المنطقة مناخاً خطراً ودينامية معاكسة ومتنافرة مع كل ما هو فرنسي. هذا يقود إلى الاعتقاد بأن عودة الجنود إلى باريس فد تكون أكثر عقلانية. لكن التأثير المعنوي لذلك سيكون فادحاً، ثم انعكاساته على مستقبل المصالح الفرنسية هناك قد يكون مرّاً.
المنطقة متأهبة والقادة خائفون
المنطقة برمتها في حال تأهب، قبل أيام قليلة كتبت باسكال أيرو في دورية L’Opinion الفرنسية عن الخوف الذي يؤرق قادة الدول في منطقة الساحل وجنوبها بعد ثوره النيجر والغابون، وقالت إن الأخير ترك زعماء المنطقة من دون كلام، فهم يراقبون أدنى إشارة وأقل علامة على إمكانية وصول العدوى إليهم.
وأن الخطر الحقيقي هو أن هناك العديد من العائلات الحاكمة لديها عقود في قيادة هذه الدول، بينما يظهر الجيل الجديد من الأبناء في الصحافة بانتظام كورثةٍ محتملين. في هذه البلدان، لا يمكن لأي زعيم ادعاء ضمان الولاء الكامل لقواته المسلحة، وثورات القصر، كما في الغابون، ممكنة دائماً.
نقلت أيرو عن أحد المسؤولين في كينشاسا قوله إن “الانقلاب يشكل إنذاراً، خاصةً عندما يحدث عند عتبة بابنا”.
وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تستعد لتنظيم انتخاباتٍ رئاسية في نهاية العام، أجرى الرئيس فيليكس تشيسيكيدي تعيينات عسكرية جديدة لمواجهة ما يمكن أن يحمله هواء المنطقة.
في برازافيل، وعلى الرغم من كون علاقة الرئيس دينيس ساسو نغيسو بعلي بونغو صعبة ومتوترة، ما جعل البعض هناك يفرح سراً بانقلاب الغابون، فإن آخرين ينظرون بعيون خائفة إلى الأحداث الجديدة. التغييرات العسكرية أيضاً باتت موجة وموضة في المنطقة، لمواجهة موجة أخرى تمثلها الانقلابات، ففي ياوندي أجرى بول بيا تغييرات عاجلة.
جمهورية أفريقيا الوسطى يحكمها فوستان أرشانج تواديرا، وهو يحصن نفسه بجنودٍ روانديين، وبآخرين قالت الصحيفة الفرنسية نفسها إنهم من مجموعة “فاغنر”، الأمر الذي يبدو أكثر أمناً من جيرانه. وفي رواندا، فإن بول كاغامي يبدو مسيطراً على الجيش وأجهزة الأمن بصورةٍ كافية.
أميركا والصين معنيتان
تعاطت واشنطن منذ اللحظة الأولى للثوره في النيجر بهدوء، لم تصعد من لهجتها، واكتفت بموقف الواجب الدبلوماسي. تم إعطاء الكثير من التفسيرات لهذه الاستجابة. أبرزها التركيز الأميركي على ما هو مفيد، وليس على الانفعال. لذلك، اهتمت واشنطن بمراقبة الدورين الروسي والصيني، واستفادتهما من الموقف. لم يثبت أي تدخل مباشر روسي أو صيني بما جرى. لكن واشنطن كانت منفتحة على الموقف الجديد، في الوقت نفسه الذي تبحث فيه عن حلٍ له.
الآن، وبعد أن ساهم موقفها في تقويض الحل العسكري، تقوم واشنطن بإعادة انتشار لجنودها في النيجر، بينما تتحدث معلومات عن التقاط المخابرات الروسية إشارات عن تخطيط أميركي لاغتيال قادة الانقلاب.
محاولةٌ أخرى لتخريب النمط الجديد في منطقة الساحل، تلك التي ضبطت في بوركينا فاسو، والتي أعلن الجيش أنها كانت تستهدف الكابتن ابراهيما تراوري، أصغر قادة العالم، وأكثر القادة الأفارقة اتقاداً هذه الأيام.
الولايات المتحدة تقول إن أسباب إعادة الانتشار في النيجر وقائية، وأنها خطوة تأتي ضمن استراتيجية عسكرية بضمان حماية الموارد الأميرية أثناء التصدي للتهديدات المتزايدة في المنطقة، وأن العسكريين المعنيين سينسحبون من القاعدة الجوية 101 في نيامي إلى القاعدة 201 في أغاديز. ولا يغيب عنها التذكير بدور قواتها في محاربة التنظيمات الإرهابية في المنطقة. الجميع يذكّر بذلك، ولكل منهم أهدافه.
الصين من جانبها، ليس لديها دور عسكري هناك، لكنها حاضرة بقوة في أفريقيا. مصدر قوتها الأساس اقتصادي، وهي الآن تطور حضوراً دبلوماسياً بارزاً، ضمن استراتيجية جديدة لها في أفريقيا. تسعى هذه الاستراتيجية الجديدة إلى حشد الأصدقاء والحلفاء وتوظيفهم في خدمة التطلعات الصينية في القارة السمراء.
المقبولية الشعبية للصين موجودة، والناس تسمع بدور بكين وتنتظره في الكثير من الدول. يقولون في استطلاعاتٍ للرأي إنهم لم يروا من بكين ما يقلق، جل ما يسمعونه مشجع. ومن الجانب الصيني، إدراكٌ مبكر لمكانة أفريقيا العالمية في المرحلة المقبلة، وحقيقة أنها أرض الآمال الكبيرة للدول التي تسعى إلى قيادة العالم، لكنها تدرجت في حالتها، من أرض مستباحة، إلى أرض مثقلة بتجارب المستعمرين، وصولاً إلى تحولها الحالي إلى أرضٍ مقفلة على القوى القديمة، وسر مفتاحها الجديد يكمن في كلمة واحدة، العدالة.
تريد أفريقيا العدالة والمكانة المستحقة في العالم الجديد، وترفض تداولها بين القوى العظمى كغنيمة حربٍ أو كهدية، والانتقال من سيطرة قوة عالمية إلى أخرى. مفتاح جماهيرها ودولها اليوم هو صوتٌ صادق ومضامين ندّية.
كل ما قد يزعج فرنسا
يأخذ الأفارقة على القوى الغربية المأخذ نفسه الذي يسجّله النيجريون على فرنسا، ازدواجية المعايير. يقولون إن أسابيع قليلة كانت كافية لبروز تناقض صارخ بين رفض مطلق للثورة في النيجر، والتمسك بشرعية الرئيس المعزول، وصمت مطبق على انقلاب الغابون، لعلمهم أنها ثوره قصرٍ كانت أولى أعماله طمأنة الشركاء الدوليين إلى استمرار مصالحهم. إذن، هي المصلحة وليست الشرعية ما يهم. وبين الرفض المطلق والصمت المطبق، تعلّم النيجريون لغة المصلحة ووجدوا ميزانها.
وبميزان المصلحة هذا، قالت صحيفة spectacle الأفريقية إن قادة النيجر الجدد رفعوا سعر الكيلوغرام الواحد من اليورانيوم من 0.8 إلى200 يورو.
أما اتحاد (NIGER UNI) فقد صوّب على الوجه العلماني لفرنسا، ودعا النيجريين في العاصمة والمناطق القريبة منها إلى صلاة الجمعة أمام القاعدة الفرنسية هناك. القادة الجدد، ولأسبابٍ كثيرة، منها ما هو مربح جماهيرياً ومتناغم مع المزاج العام، يريدون فعل كل ما يستفز فرنسا. إنها طريقتهم في علاج الجروح الوطنية.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن رأي الكاتب