محمد فرج*

في رواية “النمر الأبيض” للكاتب الهندي أديغا، يقتل الخادم والسائق بالرام سيدَه، العائد إلى الهند من الولايات المتحدة، ليستحوذ على الحقيبة الممتلئة بالأموال، والتي يقدمها رجل الأعمال رشىً للسياسيين في الهند. يظهر بالرام، في نهاية الفيلم المنتَج من الرواية، كرجل أعمال يدير شركة كبيرة من سيارات الأجرة، افتتحها من المال المسروق من سيده، ويقول إن عصر الرجل الأبيض، المشغول باللهو والخمور، ولّى، وعصر اليوم سيكون لحساب آسيا!

خدمت الهند اقتصادات العالم وإمبراطورياتها الاستعمارية، في ظروف أشد قسوة من ظروف “بالرام”، فلم تصمد حضارة وادي السند بسلام في 2500 ق.م إلى أن وصلت الشعوب القادمة من أوروبا عبر آسيا الوسطى في عام 1500 ق.م، فيما عُرف بـ “الفتح الآري”، ليتشكل بعدها اتحاد قبلي لعدد من القبائل الهندية – الآرية.

لم تهدأ الهند عن مواجهة الغزو وخدمة اقتصاده، فمن غزو الأخمينيين بقيادة قورش الكبير عام 528 ق.م، ووصول داريوس الأول إلى كراتشي، وغزو الإسكندر المقدوني وهجمات المغول، إلى عملها كـ”درة التاج البريطاني” في القرن التاسع عشر، ودور شركة الهند الشرقية في خدمة الاستعمار البريطاني.

محطتان في تاريخ الهند تعبّران عن نزعات استقلالية هندية.

الأولى كانت من القرن الأول إلى القرن السادس في محطات متقطعة (إمبراطورية جوبتا)، بحيث تشكلت وصعدت الهوية الهندوسية، وازدهر الاقتصاد الهندي، وحقق طفرات اقتصادية جعلته اقتصاداً كبيراً على مستوى العالم. والمحطة الثانية هي النزعة الاستقلالية عن الاستعمار البريطاني، التي قادها غاندي وتشكيل المؤتمر الوطني. لم تخرج الهند في الجولتين – النزعتين من المحيط الآسيوي إلى المحيط الدولي والعالمي. وهذا ما تحاول فعله في موجة ثالثة يقودهانار ناريندرا مودي.

كيف تشكلت الموجة الثالثة؟
يحاول ناريندرا مودي خلق موجة ثالثة من الاستقلالية الهندية، تظهّرت مؤخراً في تغيير اسم البلاد إلى بهارات، ويردّ مودي ذلك إلى اعتبار “الهند” تسمية استعمارية. تحمل هذه الموجة معها أيضاً توجهات يمينية وعنصرية، والتي كانت أساساً وقود حركة حزب الشعب الهندي (BJP):

1. صعد مودي إلى السلطة في ظل غياب القيادات الكاريزمية في حزب المؤتمر الوطني، وهو الوحيد الذي تمكّن من فك احتكار حزب المؤتمر الوطني للسلطة منذ عام 2014م.

2. تزامن هذا الصعود مع مزاج هندي يائس، من تجربة طويلة لحزب المؤتمر الوطني، قدّمت وعوداً اشتراكية لم يتحقق منها شيء، فجاء مودي ليقطع وعداً بتقديم مزيد من الوظائف، وهو ما تمكّن من تحقيقه نسبياً.

لم يكن المزاج اليائس على المستوى الاقتصادي فقط، وإنما تزامن مع المستوى السياسي أيضاً، فالهنود يشعرون بأن تجربة الدولة التعددية العلمانية، والتي قامت على أساسها دولة الهند الحديثة، لم تسعفهم في شيء، وبدأوا ينظرون بعين الإعجاب إلى التجربة الصينية التي قامت على فكرة السلطة المركزية. قدّم حزب بهاراتيا جاناتا (الشعب الهندي) نسخة محببة إلى الهنود في هذا الاتجاه، ولا سيما أن عضوية هذا الحزب تصل إلى 180 مليون فرد، متجاوزاً عدد أعضاء الحزب الشيوعي الصيني (90 مليوناً) وعدد أعضاء الحزب الديمقراطي الأميركي (45 مليوناً) وعدد أعضاء الحزب الجمهوري الأميركي (33 مليوناً).

3. في ظل تراجع أيديولوجيا حزب المؤتمر الوطني، وعدم رواج تيار كامبردج الهندي (الذي يدعو إلى التمسك بالنظريات الغربية في الحكم)، وتشظّي التيارات اليسارية في الهند، كان خطاب إحياء التراث الهندوسي والهوية الهندوسية جذاباً لشرائح واسعة من الهنود، من أجل حل المشكلات الداخلية، ولا سيما عندما امتزجت بشحنات التحريض العنصرية ضد المسلمين في الهند.

4. في ظل ارتخاء منظومة العولمة، وارتخاء قبضة الولايات المتحدة على العالم، بدأت تتصاعد خطابات القومية، في نسختيها، اليمينية العنصرية والتحررية، في العالم كله. في الهند، عمل مودي على نقل خطاب القومية الهندوسية المستخدم داخلياً إلى المحيط الدولي، تحت عنوان الاستقلالية الهندية، ومن ذلك ما عبّر عنه مؤخراً أن الهند نقطة ارتكاز بين واشنطن وبكين، وليست مدينة لأي منهما.

كل ذلك يجعل وضعية مودي في السلطة في الهند متينة، وربما تحتاج عملية هزّها إلى إجماع معارضة واسع (كذلك الذي حدث في تركيا خلال الانتخابات)، وهو ما بدأ يتحضّر في الهند في كل الأحوال.

هل يمكن للهند أن تتجاوز بكين وواشنطن معاً؟

تشير تعبيرات مودي وتصريحاته إلى نية هندية في استغلال التناقض الصيني الأميركي إلى أقصى مدى ممكن، فالهند تلوح بالتنسيق الأمني مع الولايات المتحدة لتكسب عتبة تفاوضية مع الصين فيما يتعلق بالتوترات الحدودية، وتلوّح بمزيد من التعاون مع الصين اقتصادياً وتجارياً، من أجل لجم العقوبات الأميركية وطلباتها المتكررة في تبني سياسات اقتصادية ضارّة للهند (ما زال الهنود يتذكرون تجربة تدمير القطن بسبب البذور المعدَّلة جينياً، التي جاءتهم غازية من الغرب).

لكن هذه الوضعية من “الابتزاز” الهندي لا يمكن لها أن تدوم من دون روافع داخلية خاصة، أمنياً واقتصادياً.

على المستوى الاقتصادي، الهند التي حررت اقتصادها، بصورة كاملة، عام 1991م، وقبل ذلك اتبعت نهجاً اقتصادياً “اشتراكياً” لا يشبه اشتراكية الصين، ولا “اشتراكية” السوفيات، هي ثالث أكبر اقتصاد في العالم من ناحية الناتج الإجمالي، إلا أنها تحتل مراتب متدنية جداً في مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للفرد، وحصص الأفراد من الناتج الإجمالي، الأمر الذي يعني عجز السياسة الهندية إلى الآن في تحويل اقتصاد الدولة الضخم والقوي إلى اقتصاد أفراد مشبع.

ما زالت توزع عضوياتها في التكتلات الدولية، فهي عضو في مجموعة بريكس التي تترأس حربة المواجهة ضد الهيمنة الاقتصادية الأميركية، إلا أنها عضو أيضاً في الـ G4 Nations، التي تضم ألمانيا واليابان، وعضو في الكواد التي تضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا.

في الميزان التجاري، سوق الولايات المتحدة هي المستورد الأكبر للمنتوجات الهندية (%18 في مقابل 3.4% للسوق الصينية)، في حين أن الاقتصاد الهندي يعتمد على الواردات من المنتوجات الصينية بنسبة 14% في مقابل 7% واردات من الولايات المتحدة). على مستوى السياسة المالية، كما تحاول الصين الابتعاد عن نظام سويفت عبر النظام الصيني CIPs، تحاول الهند تفعيل نظامها PAPPS.

ليس في إمكان الهند، أقله في المدى المنظور، أن تشكل قطباً مستقلاً بالكامل عن بكين أو واشنطن (منذ عام 2008م، كل 4 أعوام تضيف الصين اقتصاد الهند كاملاً إلى اقتصادها)، كما أن ليس في إمكانها الاستمرار في توزيع البيضات على السلّتين، فإمّا أن تسوي التوترات الحدودية مع الصين ليلحق التعاون الأمني بالتبادل الاقتصادي، وإمّا أن تقبل الضغوط الاقتصادية الأميركية لتتمسك بوعودها الأمنية.

* المصدر: موقع الميادين
* المقال الصحفي يعبر عن وجه نظر الكاتب