أيمن الرفاتي*

هناك اتفاق، من حيث المبدأ، على أن عام 2023 هو عام الاستحقاقات الوطنية، والذي تحدثت عنها قيادة المقاومة الفلسطينية منذ بدايته. وتتجلّى هذه الاستحقاقات فيما يجري في الضفة المحتلة من تصاعد للعمل المقاوم، واستنزاف لقوات الاحتلال، وضرب للمخططات الاستيطانية والتهويدية، التي تقع في صلب مشروع اليمين الحاكم في “دولة” الاحتلال، وفيما يجري أيضاً في غزة من مراكمة للقوة كمّاً ونوعاً، وفي الخارج عبر تحالفات قوية مع محور المقاومة، والاستعداد لحرب متعددة الجبهات.

وفرضت التطورات، التي جرت خلال العام الحالي، على التفكير الإسرائيلي عدداً من المعضلات المعقدة التي تمسّ أسس الأمن والدولة. فلأول مرة تجد “دولة” الاحتلال نفسها عاجزة عن فعل ميداني أو سياسي يؤدي إلى تغيير استراتيجي، وباتت تدرك أن استخدام القوة، بل حتى القوة المفرطة، لن يؤدي إلى تغيير المعادلات أو تراجع عمل المقاومة في الضفة الغربية.

ترسّخ في تفكير المؤسسة الأمنية الصهيونية أنه لا يوجد حل فعلي يمكنه وقف العمليات في الضفة، فلا نشر قوات كبيرة من الجيش، ولا تنفيذ عمليات اغتيال واعتقال يومياً، ولا تقوية السلطة الفلسطينية للقيام بالدور الأمني، يمكن أن تؤدي إلى تهدئة الأوضاع. ولهذا، تدرك المؤسسة الأمنية أنه مع بزوع شمس جيل فلسطيني جديد، فإن العودة إلى عام 2012، الذي ذكر فيه تقرير للشاباك أنه لا يوجد أي مطلوب أو مطارّد من “إسرائيل” في الضفة الغربية، ولّى.

في الواقع، فإن نمط عمل استخبارات الاحتلال وجيشه لم يتغير خلال العقدين الأخيرين، فلقد استخدم الاحتلال ولا يزال سياسة “جز العشب” التي تقوم على التعامل مع الفلسطينيين بطريقة “تصفية الحسابات أولاً بأول”؛ أيْ أن أيّ شخص يقوم بعمل مقاوم، صغيراً كان أو كبيراً، فإن اعتقاله هو الحل لهذا النشاط، ومحاسبته تتم أولاً بأول، على خلاف ما كان متَّبَعاً في السابق، حينما كانَ يُفتَح للشخص ملف، وحين يكتمل الملف يتم اعتقاله.

أمّا اليوم، في ظل تطورات الضفة المحتلة، فلم تعد هذه السياسة ناجعة بعد أن تكيّف المقاومون مع الإجراءات والسياسات الأمنية الإسرائيلية ضد المقاومة، وبات منفذو العمليات غير معروفين لدى الأمن الإسرائيلي.

وخلال العام الحالي، 2023، عادت نِسَب المطلوبين لجيش الاحتلال في الضفة إلى الارتفاع، بصورة غير مسبوقة، سوى في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ليبلغ عدد المطلوبين أكثر من 200 مقاوم مسلح في مناطق متعدّدة من الضفة المحتلة، إلى جانب مئات آخرين غير معروفين.

في ضوء هذه المتغيرات، فإنَّ “دولة” الاحتلال اليوم أمام عدد من الثوابت في الضفة الغربية المحتلة، يمكن تلخيصها فيما يلي:

– لا يوجد حل فعلي يمكنه وقف العمليات في الضفة، فكل الأدوات تمّ تجريبها، عبر مستوياتها المتعددة، الهادئة والصاخبة، وباءت جميعها بالفشل، ولا تزال الحالة الأمنية المتصاعدة في الضفة هي العنوان اليوم على طاولة صانع القرار في “دولة” الاحتلال.

– العمل المقاوم في الضفة الغربية بات مُوجَّهاً، كما أنه قادر على تنفيذ الضربات في الوقت والزمان اللذين تريدهما القيادة السياسية للمقاومة، وهو كذلك مبادر على رغم قلة الإمكانات، ويخوض معركة استنزاف في مواجهة المشروع الاستيطاني الضخم. والفارق هذه المرة أنَّ لديه داعمين متعددين، سواءٌ في الضفة نفسها، أو من قطاع غزة ومن لبنان ومحور المقاومة. وهذا الأمر، في حد ذاته، يمثّل ضامناً لاستمرار هذه المقاومة.

– المواجهة باتت أخطر من أي وقت سابق، ومستويات ردود فعل المقاومة الفلسطينية باتت أكثر تأثيراً وتنسيقاً، على نحو يؤلم حكومة الاحتلال والمستوطنين. والتخوفات الإسرائيلية باتت منصبّة على أن خطر المواجهة يتصاعد مع تنامي البُعد الوطني والإيمان بأنَّ فكرة المقاومة هي الغالبة لدى الفلسطينيين، وأنَّ الشبان في الضفة الغربية لا يزالون متحفزين على مواجهة الاحتلال، منذ معركة “سيف القدس” عام 2021، حينما شعروا بأن ترابط الجبهات الفلسطينية أمر يعقّد على “دولة” الاحتلال السير في مخططاتها أو القضاء على تطلعاتهم.

– حصر الرد الإسرائيلي على ما يجري في الضفة داخل حدودها الجغرافية يُمثِّل معضلة وعجزاً في الخيارات أمام المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، فخيارات تصدير الأزمة الأمنية المتصاعدة في الضفة تتقلص، بصورة كبيرة، وبات الرأي مفاده أن محاولة تصدير الأزمة إلى منطقة أخرى تمثل مغامرة خطيرة جداً ستُدخل ملايين الإسرائيليين والجبهة الداخلية في خطر محدق.

– محاولات الرد في جبهات أخرى، أو تنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات قيادية من المقاومة في الخارج، سيقود، بطبيعة الحال، إلى سيناريوهات قاسية وخطيرة جداً قد تشمل الحرب المفتوحة، أو الحرب متعددة الجبهات.

– تكرار سيناريو التفرد بفصيل فلسطيني بعينه غير مضمون هذه المرة، كما أنه لن يؤدي إلى أي حلول بشأن الضفة، وخصوصاً بعد أن أعلنت حركة “حماس” عملها العسكري في الضفة، بصورة صريحة وعلى نحو واضح.

– واقع المقاومة الفلسطينية اليوم تغيّر بصورة كبيرة، وعقّد إمكان فرض معادلات جديدة. فمثلاً، إن محاولة العودة إلى سياسة الاغتيالات، كما حدث في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حينما رسّخ الاحتلال مفهوم مقابلة العمليات التفجيرية في المدن المحتلة باغتيال شخصيات قيادية كبيرة في المقاومة، لم تَعُد خياراً مُجدياً، وباتت الحسابات اليوم معقدة جداً، لأن تبعات هذا الأمر قد تكون أكبر من مجرد صنع معادلة جديدة.

* المصدر: الميادين نت