عماد الحطبة *

استعرت عنوان المقال من كتاب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه “إنسان مُفرط في إنسانيته”، إذ إن هذا الفيلسوف المتهم بأنه الأب الروحي لأفكار التفوق البيضاء، بما فيها النازية، ذهب بمفهوم الإنسانية إلى آفاق جديدة لم تكن مطروقة من قبل. مفارقات يحفل بها تاريخ أوروبا الاستعمارية، ووريثتها الإمبريالية الأميركية.

خلال الأعوام المئة الماضية، لم يستخدم العالم مصطلحات أكثر نفاقاً من الحرية والديمقراطية، وكأن جورج أورويل في روايته 1984 كان يستشرف مستقبل العالم، فأنشأ وزارة للحقيقة مهمتها الأساسية ممارسة الكذب.

في وزارة حقيقة عصرنا، وقبل إصدار رواية جورج أورويل بعامين، قررت الدول الاستعمارية التكفير عمّا فعلته باليهود، وإراحة ضميرها من أعباء الهولوكوست، فنظرت بعين العطف والإنسانية إلى طموح اليهود بوطن قومي، فمنحتهم أرض فلسطين بعد ارتكاب مجازر وعمليات إبادة وتطهير عرقي بحق الفلسطينيين لا تقل في بشاعتها ووحشيتها عمّا ارتكبته النازية بحق جميع شعوب العالم، بما فيهم اليهود.

في الوقت نفسه تقريباً، كانت الدول الاستعمارية تتبادل الأدوار في فيتنام في محاولة لدفعها نحو الديمقراطية، فحضرت فرنسا وأميركا وأستراليا ونيوزيلندا بجيوشها وأساطيلها لترتكب أبشع المجازر بحق الشعب الفيتنامي من خلال حرب استمرت 30 عاماً قدم الشعب الفيتنامي فيها نحو 3 ملايين قتيل، ومثلهم من الجرحى.

الحرب في كوريا، والحصار على كوبا، والحصار والحرب على مصر جمال عبد الناصر، وإعدام رئيس وزراء الكونغو المنتخب باتريس لومومبا على يد العسكر البلجيكي والسويدي بالتعاون مع المخابرات الأميركية، واغتيال الثائر العالمي تشي غيفارا، والانقلاب في تشيلي، واغتيال الزعيم سلفادور الليندي، كلها معارك خاضتها الرأسمالية تحت شعار الديمقراطية، وهي في حقيقتها حروب نهب لمقدرات الشعوب.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، أعلن الاستعمار على لسان فوكوياما نهاية التاريخ وسيادة القيم الليبرالية، فلم يعد هناك داعٍ للحروب سوى تلك الحروب الصغيرة للقضاء على جيوب المقاومة، لكن الرأسمالية القائمة على فكرة نهب الشعوب وجدت أن نهاية الأزمات والحروب تعني نهايتها، فانقلبت على فوكوياما، وأعلنت العودة إلى فرض الديمقراطية والحرية بالمواصفات الغربية على العالم، هذه المرة على وقع صراع الحضارات الذي أملت الدوائر السياسية الرأسمالية بنوده على صموئيل هنتنغتون، ليصبح كتاب الرأسمالية المقدس ودليلها نحو الاستعمار الجديد.

بدأت الرأسمالية الألفية الجديدة بالحرب على أفغانستان، ثم غزو العراق، مع الديمقراطية جلبت الرأسمالية ملايين القتلى واللاجئين، وحولت تلك الدول إلى دول فاشلة مهددة بالانقسام في كل لحظة. جالت طائراتها سماء العالم تقصف في اليمن مرة وفي باكستان أخرى، وتحولت الحرب ضد الإرهاب إلى حرب مقدسة يخوضها فرسان الهيكل في البنتاغون.

ما إن انتهى العقد الأول من الألفية حتى أطلقت القوى الاستعمارية جنّي الإرهاب من قمقمه. تحول الإرهابيون إلى مقاتلي حرية أوغلوا في دماء المواطنين في سوريا واليمن وليبيا ومصر، بدعم من العالم الإنساني حامل لواء الحرية والديمقراطية.

إذا تابعنا المجهود الإنساني للدول الرأسمالية ومنظماتها، فإننا نجده منصباً في الدرجة الأولى على التغيير السياسي دون غيره من مناحي الحياة. يمكن للولايات المتحدة أن تشن حرباً في العراق تبذل فيها مليارات الدولارات من دون الالتفات إلى أن البلاد التي سميت تاريخياً ببلاد ما بين النهرين، أصبح معظم سكانها، بعد الحرب، يعانون عدم توفر المياه الصالحة للشرب، وأن سكان هذه الدولة النفطية يعانون نقص الكهرباء.

الرأسمالية معنية بذهب أفريقيا ومعادنها الثمينة. أما معاناة 600 مليون إنسان أفريقي من عدم توفر مصدر للمياه الصالحة للشرب، فلا يستدعي أكثر من إعلان زيادة أسعار عبوة الماء في سلسلة مقاهي “ستاربكس” العالمية بعشرة سنتات، يتم التبرع بها لمصلحة توفير المياه لأطفال أفريقيا. أما العدد والعدة والجنود، فهم يجلبون “الديمقراطية” إلى أماكن أخرى من العالم.

في اليمن، لم يكن لدى الرأسمالية ما تقدمه للأطفال الذين يموت 10 منهم يومياً بحسب بيانات الأمم المتحدة ولملايين اللاجئين، سوى المزيد من التسليح لطائرات تحالف العدوان التي تصب حمماً فوق رؤوسهم وتحاصرهم مانعة عنهم الغذاء والدواء. وعندما أنهك صمود اليمنيين قوى العدوان، أرسلت الدول الاستعمارية سفنها لتحاصر الموانئ اليمنية إمعاناً في العدوان والوحشية.

أحدث تقارير منظمة اليونيسف يتحدث عن حاجة 2 مليون طفل في النيجر إلى المساعدة الإنسانية. التقرير الذي صدر في 20 آب/أغسطس يقول إن العدد كان قبل “الانقلاب” 1.5 مليون طفل، أي بزيادة نصف مليون طفل خلال 26 يوماً.

ولا توجد في التقارير الدولية إلا إشارات مبهمة إلى دور الحصار الذي فرضته دول الجوار على النيجر بدعم معلن من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا، بل إن دولة مثل بنين تمنع مرور المساعدات الإنسانية الضئيلة عبر حدودها.

يكرر التاريخ نفسه في النيجر، كما حدث في سوريا من خلال قانون قيصر، وفي العراق من خلال برنامج النهب المسمى “النفط في مقابل الغذاء”، وفي ليبيا وإيران وكوبا، وسوف يستمر بالتكرار ما لم تبادر الدول ذات الاقتصادات الصغيرة والمتوسطة إلى تأسيس منظمة تحمي مصالحها السياسية والاقتصادية، وتخلق أسواقاً مشتركة بينها، بعيداً من سياسة المحاور؛ منظمة تشبه مجموعة دول عدم الانحياز، لكن بخيارات اقتصادية أكثر حسماً ووضوحاً لمصلحة الشعوب، وبرؤية جديدة مفادها أن للرأسمالية شكلاً واحداً، مهما تعددت أسماؤها، وهو الشكل الناهب لثروات الشعوب.

* المصدر: موقع الميادين
* المقال الصحفي يعبر عن وجه نظر الكاتب