حسام باشا

في زمن لا زالت فيه إفريقيا مزرعة خصبة لفرنسا، التي تحصد منها كُـلّ ما تشاء من ثمار وزهور، وتترك لأهلها الشوك والأفاعي، تقوم شعوب هذه القارة بمقاومة بطولية ضد المستعمر الجشع، الذي يحاول إخضاعهم لإرادته وسلطته، وإنكار حقوقهم في الحياة والحرية، فقد اندلعت في الآونة الأخيرة ثورات شعبيّة في عدة دول إفريقية، رفضت التبعية لفرنسا، وطالبت بالانفصال عنها، وحظيت بتأييد كبير من جانب الشارع الإفريقي، الذي يشعر بالظلم والإهانة من قبل فرنسا، التي تتصرف كأنها سيدة أفريقيا، وتستخدم كُـلّ وسائل الضغط والتهديد والابتزاز لإجبار الحكومات على التعامل معها، فباريس لا تزال تنظر للدول الأفريقية كمستعمرات لها، وقواعدها العسكرية تنتشر في كثير من هذه الدول، وتستخدمها للتدخل عسكريًّا؛ مِن أجلِ إبقاء القادة المنبوذين في الحكم، كما تستخدم باريس نظام “الفرانك CFA”، وهو عملة مشتركة لـ 14 دولة إفريقية، حَيثُ تكشف الشروط والأحكام الجائرة لفرنك CFA سبب تسمية العملة بـ”العبودية النقدية”، في إشارة إلى الاستعمار الفرنسي المتجدد في إفريقيا، أَو بعبارة صادقة “العملة الاستعمارية”، والتي تهدف من خلالها فرنسا إلى التحكم باقتصادات دول القارة السمراء ومنع تنميتها.

من بين كُـلّ الأمم الأفريقية التي تعاني من الجحيم الفرنسي، تبرز النيجر بالمعاناة والبؤس، التي لا تزول بل تتضاعف بفعل الفساد والتدخل الخارجي، ففي عام 2023، شهدت النيجر مهزلة انتخابية، حَيثُ انتزع محمد بازوم الكرسي بالغش والخداع، مستندًا إلى دعم فرنسا، التي لم تتوقف عن لعب دورها المشؤوم في تاريخ النيجر، وفي جميع الانقلابات على الحكومات التي طالبت بالحرية والكرامة، وخلف الأنظمة الدكتاتورية، وحرمان الشعب النيجري من حقوقه وثرواته، وأبرز مثال على ذلك هو سلب فرنسا واستيلائها على مناجم اليورانيوم شمال غرب البلاد، التي تستخدمها لإضاءة مدنها بالطاقة النووية دون أن تعطي لهذه المادة قيمتها، أَو أن تحافظ على البيئة والصحة في مناطق التعدين، فـباريس تشتري من النيجر الطن اليورانيوم بثمن بخس، لا يكفي لشراء كيلو من التمور، وتتجاهل المأساة التي تحدث؛ بسَببِ تعدين هذه المادة على كُـلّ ما حولها من ماء وهواء وتربة وحيوانات وإنسان، فالذين يقطنون قرب المناجم يصابون بالأورام والأمراض كأجرة لخدمة فرنسا، والأطفال يولدون بتشوهات خلقية كهدية من فرنسا، والحيوانات تموت بلا سبب كضحية لفرنسا، كُـلّ هذا يحدث دون أن تحاسب فرنسا على جرائمها، أَو تتحمل مسؤولية إصلاح ما أفسدت.

في ظل هذه المآسي، كتب الشعب النيجري ملحمة في تاريخه، عندما أرسل العملاق الفرنسي إلى مزبلة التاريخ، وأثبت أنه سيد الموقف في أرضه، فلم يرضخ لأن يكون رئيسه إمعة لفرنسا، بل قام بانتفاضة شعبيّة في كُـلّ ركن من أركان البلاد، مقاومًا التدخل الفرنسي في شؤونه الداخلية، ومحاسبًا حكم بازوم للبلاد، خَاصَّة مع انحطاطه وأتباعه في فضائح الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، فأعلن عن تشكيل المجلس العسكري المؤلف من ضباط عسكريين بزعامة قائد الحرس الرئاسي عبد الرحمان تشانى، وهو المجلس الذي رفض أي تدخل خارجي في شؤون البلاد، وأعلن هِمَّتَهُ على تحقيق مطالب شعب النيجر، وهذا ما لم تستطع فرنسا وأذنابها تحمله، فتوعدوا بالتدخل العسكري لإعادة الرئيس المخلوع، متجاهلين إرادَة الشعب، والحق أن هذا التوعد لا يستند إلى دافع إنساني أَو ديمقراطي، بل إلى مصالح استراتيجية واقتصادية، فالنيجر دولة مهمة في الساحل الإفريقي، وفرنسا تستغل مواردها الطبيعية وتستخدم قواتها لحماية نفوذها في المنطقة، كما أن فرنسا هي المؤسّس لمنظمة إيكواس التي تضم عدداً من دول إفريقيا، والتي تعمل كوكيل لباريس لإخماد أية محاولات للاستقلال أَو التغيير بفرض العقوبات على الحكومات المعارضة للغرب.

إضافة إلى ذلك، فَــإنَّ نجاح ثورة النيجر وانتصارها على الاستعمار الفرنسي، هو بمثابة شروق جديد يضيء سماء إفريقيا، وشعلة تحرق أطماع فرنسا في المنطقة، فهذه الثورة ليست حدثًا منفصلاً، بل هي جزء من حركة تحرير أفريقية تزداد قوة وشعبيّة، وتجد دعمًا من دول مجاورة تطمح للخلاص من نفوذ فرنسا، ففي الشمال، تطرد ليبيا بقايا حفتر الخائن، الذي كان يساند فرنسا في محاولاتها للسيطرة على الثروات الليبية، وتنهض السنغال بثورة شعبيّة، تطالب بإنهاء العلاقات غير المتكافئة مع فرنسا، وإعادة مليارات الدولارات التي تحجزها فرنسا من احتياطياتها، وفي الجنوب تستعيد مالي كرامتها، بعد أن تخلصت من حكومة فاسدة كانت تخضع لضغوط فرنسية، وتحارب مدغشقر للحفاظ على سيادتها، رغم التدخلات الفرنسية المُستمرّة، وبهذه الطريقة يتشكل تكتل إفريقي قوي يقف في وجه المستعمر الفرنسي، ويضع حدًا للهيمنة العسكرية والاقتصادية التي كانت تستنزف ثروات الشعوب.

ومن هنا، يبرز دورنا كشعب يمني في التضامن مع الحركة التحريرية والشعوب المضطهدة في القارة السمراء، والإدانة للتدخل في شؤونها الداخلية، فنحن نؤمن بأن الحرية والسيادة هي حقوق إنسانية لكل الشعوب، ولا يجوز أن تخضع لمصالح دول أُخرى.

  • المصدر: صحيفة المسيرة