الجبهة الإعلامية في حرب الإمبريالية
موفق محادين*
أقلام الاستخبارات الأطلسية، في المتروبولات الرأسمالية واليهودية العالمية وشركاتها ومنابرها ووكالاتها، لا تزال تسيطر على المفاتيح الإعلامية الدولية، وخصوصاً المفاتيح الإلكترونية.
إلى وقت قريب، كان الإعلام قناة لتغطية الأخبار، سواء من زاوية موضوعية أو تلفيقية، لكنه منذ وقت، بالتزامن مع الموجة الرابعة من الثورة المعلوماتية وأجيالها المتسارعة، صار جزءاً من صناعة الأخبار وفبركتها، وليس تغطيتها.
ووجه الخطورة في ذلك أن أقلام الاستخبارات الأطلسية، في المتروبولات الرأسمالية واليهودية العالمية وشركاتها ومنابرها ووكالاتها، لا تزال تسيطر على المفاتيح الإعلامية الدولية، وخصوصاً المفاتيح الإلكترونية.
فبالإضافة إلى التحكم في مادة الخبر وحيثياتها، يجري دمج المتلقي وتحويله، عبر صفحات التواصل والمواقع المتعددة، إلى شريك ضد مصالحه، في لعبة السوق هذه، وهو ما حذر منه مبكراً الكتاب المعروف “المتلاعبون بالعقول”، وكذلك كتب مثل “نظام التفاهة” و”الحرب على الجبهة الثقافية”.
إلى ذلك، أياً كانت التقنيات المتسارعة في هذا الصعيد، فلا تزال الفكرة الأساسية التي تحكمها هي فكرة السيطرة، لا على المواقف وحدها، بل أيضاً على طرائق التفكير نفسها، عبر الهيمنة.
وتمثل اقتراحات المفكر الأميركي، جوزيف ناي، بشأن “القوة الناعمة”، نموذجاً عن هذا الشكل من الاختراق والتضليل الإعلاميَّين. فبدلاً من كل هذا الشطط في استخدام القوة المباشرة، في إمكان الهيمنة الذكية (القوة الناعمة) أن توفر كثيراً من الطاقة وموجات “الكراهية” ضد الأميركيين.
وعلى خلاف هنتنغتون وصقور المجمع الصناعي الحربي، الذي يدعو إلى ما يشبه القطيعة الثقافية مع الثقافات الأخرى المغايرة، يَعُدّ ناي ذلك عملاً ليس مفيداً.
فالأسواق والمجالات الحيوية تحتاج إلى تحضيرات وبلدوزرات ثقافية بقدر حاجتها إلى طائرات الأباتشي ومشاة البحرية.
ويذكّر ناي الإدارة الأميركية بالدور المهم الذي أدّته الصحف والأوساط الثقافية والإعلامية، التي كانت تديرها الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، من نمط إذاعة أوروبا الحرة، ومئات المجلات والكتاب والشعراء، الذين شكّلوا جيشاً فعالاً من أجل حقوق الإنسان في المنظومة الاشتراكية السابقة.
وإلى جانب مرونة مطلوبة في الخارجية الأميركية، يركز ناي أيضاً على المنظمات غير الحكومية، (“أن جي أوز”) وينصح بتوسيع الهامش المتاح لها باختيار أجندتها.
السلطة وخطابات الهيمنة كتقنيات قوة: فوكو:
كيف يحكم وليس من يحكم:
يقول فوكو: إن ما كنت أود إظهاره في كتابي “المراقبة والعقاب” هو كيف كان هناك، ابتداءً من القرنين السابع عشر والثامن عشر، نوع من النمو التقني لإنتاجية السلطة. لا يكفي القول إن ملكيات العصر الكلاسيكي طورت الأجهزة الكبرى للدولة – الجيش، الشرطة، الإدارة المالية –، بل شاهدنا، على وجه الخصوص في هذه الفترة، قيام ما يمكن أن نسميه “آلية” جديدة للسلطة؛ أي طرائق تمكن من توزيع تأثيرات السلطة بصورة متصلة وغير متقطعة ومكيفة، و”متفردة” في الوقت نفسه، على الجسم الاجتماعي كله.
هذه التقنيات الجديدة هي، في الوقت نفسه، أكثر فعالية وأقل تكلفة كثيراً (أقل تكلفة من الناحية الاقتصادية، وأكثر إصابة لأهدافها، وأقل من حيث المنافذ الهروبية، أو من حيث المقاومات) من التقنيات التي ظلت مستخدمة إلى غاية ذلك الوقت، والتي كانت تقوم على مزيج مما يُطلب ويُستحسن القيام به، بهذا القدر أو ذاك من الإرغام (ابتداءً من الامتياز المعترف به إلى التجريم الدائم)، ومن التباهي المكلف كثيراً (عمليات التدخل المثيرة والمستمرة للسلطة)، والتي كان شكلها الأعنف هو العقاب “النموذجي” لأنه استثنائي.
السلطة والهيمنة: خطاب غرامشي:
اهتم غرامشي بدراسة طبيعة العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، وأكد جدلية تلك العلاقة والتأثير المتبادل بين البنيتين. وأطلق مفهوم الكتلة التاريخية للدلالة على الوحدة الديالكتيكية بين البنية التحتية والبنية الفوقية، كما توجد في لحظة تاريخية معينة تدعمها الهيمنة. وهذه الوحدة يمكن أن تتفكك في فترات الأزمة العضوية تفككاً يؤدي إلى خلق كتلة تاريخية جديدة، والبنى الفوقية تركيب معقد يميز فيه غرامشي بين مستويين أساسيين، هما المجتمع السياسي والمجتمع المدني.
وبلور غرامشي مفهومه الخاص للهيمنة، ويعود الاستخدام الأول لكلمة هيمنة إلى الفكر اليوناني، فالمعنى الإغريقي للكلمة يعني – أساساً – سيطرة دولة على أخرى. وشاع استخدام مصطلح الهيمنة في التاريخ السياسي والشؤون الخارجية للدلالة على أوضاع تمارس فيها دولة ما تأثيراً ونفوذاً على الآخرين، سياسياً وثقافياً واقتصادياً. وفي صفحات قليلة من مذكرات السجن، استخدم غرامشي الهيمنة في هذا المعنى التقليدي، إلّا أنه، على امتداد كتاباته الأخرى، طور مفهومه الخاص، ووسّع مفهوم الهيمنة، لينطبق على العلاقات بين الجماعات والطبقات الاجتماعية. ونقطة انطلاق مفهوم غرامشي للهيمنة هي أن الطبقة (أو ممثليها) تمارس سلطة على الطبقات التابعة بواسطة مزيج من الإكراه والإقناع.
وميز غرامشي بين السيطرة (الإكراه) والقيادة (الفكرية/الثقافية والمعنوية). فالجماعة الاجتماعية لا بد من أن تمارس القيادة قبل الفوز بالسلطة الحكومية، وعندما تمارس السلطة تصبح بالتالي مسيطرة، لكن لا بد من أن تستمر في القيادة. هكذا حوّل غرامشي الهيمنة من مجرد استراتيجية – كما عند لينين – إلى مفهوم – كما بالنسبة إلى المفاهيم الماركسية للقوى وعلاقات الإنتاج وطبقات الدولة – يُعَدّ أداة لفهم المجتمع من أجل تغييره. كما طوّر فكرة القيادة وممارستها كشرط للحصول على سلطة الدولة إلى مفهوم الهيمنة.
وفي حين أخذت الماركسية اللينينية برؤية السلطة على أنها متركزة في الدولة، وأن هدف أي استراتيجية ثورية هو الاستيلاء على السلطة، وأنه – فقط – بعد الاستيلاء على السلطة، من جانب الطبقة العاملة، يمكن أن يبدأ بناء الاشتراكية، نجد أن غرامشي طرح مفهوماً للسلطة كعلاقة، واستخدم مصطلح الدولة المتكاملة لوصف هذا المفهوم الجديد لطبيعة السلطة، والذي لخصه في “هيمنة محاطة بالإكراه”. ويترتب على هذا أن الصراع السياسي للطبقة العاملة من أجل الاشتراكية لا يمكن أن يقتصر على الحصول على الدولة، وإنما لا بد من أن يمتد إلى المجتمع المدني بأكمله. وعلى ذلك، من الضروري تحقيق قدر أساسي من الهيمنة في المجتمع المدني.
خطاب الهيمنة بصورة أخرى: العنف الرمزي (بورديو):
يقول إيغلتون إن مفهوم العنف الرمزي هو “إعادة صياغة مفهوم الهيمنة عند غرامشي داخل البنى الصغرى للأيديولوجيا في مستقرها داخل الحياة اليومية.
وهو ما يؤكده بورديو بصورة غير مباشرة. ففي معرض تعريفه للدولة، يعطي “العنف الرمزي” معنى الضغط أو القسر أو التأثير الذي تمارسه الدولة على الأفراد والجماعات بالتواطؤ معهم.
ويدور المدخل حول مسلمة وحيدة تتعلق بالعنوان المركزي عند بورديو (العنف الرمزي)، الذي يمثل آلية تشمل مجموعة من القواعد تكتسب لنفسها صفة الشرعية، حتى لا يلاحظها أحد بصفتها عنفاً، مغلّفةً نفسها بالرقة واللامرئية. فهذا النمط من العنف هو عنف الثقة وإضفاء القيمة والالتزام والولاء. لذا، فإن سلطة أو نفوذاً يلجأ إلى استخدام هذا النوع من العنف، من أجل دلالاته الخاصة وشرعنتها، إنما يمثل مجالاً ملغماً بفخاخ السيطرة والتدجين وترسيخ ثقافة الغالب على المغلوب، بحجب علاقات القوة التي تؤصل قوته الذاتية، بما يكشف ما لحجم الرمزية من حضور فعال وخطير في الوسط الاجتماعي. ويبرز هذا المعنى على نحو جلي في التعليم الذي يمارسه النظام المدرسي لتكريس الاعتقاد ببديهيات النظام السياسي، أو من زاوية إدخال علاقة السلطة في النفوس كعلاقة طبيعية من وجهة نظر المهيمنين.
وهو يَعُدّ رفض الاعتراف بممارسة “العنف الرمزي” محاولةً للاستمرار في ممارسته. وبتعبير آخر، يتجسد “العنف الرمزي” في البنى الموضوعية (من خلال القوانين التي تحفظ سلطة المهيمنين)، وفي البنى العقلية “الذاتية” (من خلال مقولات الإدراك والتقدير التي تعترف بالهيمنة أو القوانين المعروضة).
ويرى بورديو أن الدولة ليست مفهوماً مقدساً أو جوهراً قائماً بذاته، بل هي مفهوم ذو بعد اجتماعي. والاعتقاد بشرعية الهيمنة ليس فعلاً حراً وواعياً، كما يعتقد “ماكس فيبر”، وإنما يعود إلى توافق مباشر بين البنى المدخلة، التي أصبحت لاواعية وبين البنى الموضوعية.
إدوارد سعيد
خطاب الهيمنة كبناء مزيف لأفكار الآخر:
تتمثل صيرورة المؤسسة الاستعمارية الأوروبية بتلك الأساليب التي يبحث عبرها الغرب عن بنى السلطة التي يستطيع فهمها وتطويرها، فإن لم يستطع اكتشاف إحداها، فإنه يقوم بابتداعها. لقد اختلق الشرق كموضوع للبحث عبر الاكتشافات التي تناولت النصوص القديمة، والأدب، وعبر فقه اللغة والأنثروبولوجيا، التي أبرزت بقصدية ذلك الاختلاف.
هذا ما كتبه إدوارد سعيد، الذي يستخدم في “الاستشراق” عبارتين دالَّتين، الأولى من رواية “ديزرائيلي” لتانكريد، تقول إن “الشرق صنعة”. والعبارة الأخرى من وصف ماركس للمزارعين العاديين في “برومير الثامن عشر للويس بونابرت”، بأنهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم، ويجب أن يمثلوا.
وبتطوير سعيد أفكار فوكو في كتب كـ “المراقبة والمعاقبة” و”الجنون والحضارة” و”الكلمات والأشياء”، استطاع أن يفسر كيف يتوجب تشييد هذا “الآخر”، وتزييفه، لتوليد قناعة بـ “الذات”.
إن الاستخدام الخبيث للصور النمطية، والذي يعول بحدة على الطبيعتين العنيفة والحسية للسكان الأصليين، يهب مشروعية للمعاملة القاسية والمستغلة للكولونيالية، فالمستعمر يستطيع تسويغ استعباده وإبادته عبر منطق “المهمة الحضارية”، التي غدت، في كلمات كبلنغ البليغة، “العبء الذي يضطلع به الرجل الأبيض”.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب