حسن نافعة*

المقدّمات كلّها توحي بأن الخطوة التي أقدمت عليها السعودية مؤخراً، بتعيين سفير لها لدى السلطة الفلسطينية في هذا التوقيت بالذات، تبدو أكثر ارتباطاً بالجهود التي تبذلها إدارة بايدن حالياً لدفع عجلة التطبيع بين السعودية و كيان “إسرائيل”.

منذ أيام قليلة، قرّرت المملكة العربية السعودية تعيين سفيرها في الأردن، نايف بن بندر السديري، سفيراً فوق العادة مفوّضاً غير مقيم لدى فلسطين، وقنصلاً عامّاً بمدينة القدس في الوقت نفسه، وقام السديري بالفعل بتسليم نسخة من أوراق اعتماده إلى مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس للشؤون الدبلوماسية.

أثارت تلك الخطوة المفاجئة سيلاً من التعليقات المتضاربة، فبينما رأى فيها البعض دليلاً إضافياً على أن الجهود التي تبذلها الإدارة الأميركية الحالية لدفع السعودية نحو تطبيع علاقاتها مع كيان “إسرائيل” توشك أن تؤتي ثمارها، خاصة وأن وجود سفير سعودي معتمد في الضفة وقنصل سعودي معتمد في القدس يساعد كثيراً على تسهيل الاتصالات الرسمية بين السعودية وكيان “إسرائيل”.

رأى البعض الآخر في هذه الخطوة دليلاً واضحاً على تمسّك المملكة بمبادرة التسوية التي أقرّتها قمّة بيروت لعام 2002، وعلى حرصها في الوقت نفسه على استغلال حاجة الإدارة الأميركية الملحة لتحقيق إنجاز ملموس في مجال تطبيع العلاقة مع كيان “إسرائيل”، لانتزاع تنازلات تسهم في إعادة فتح طريق التسوية السياسية المغلق منذ فترة طويلة، وبما يمهّد لإقامة دولة فلسطينية في المستقبل المنظور.

معنى ذلك أننا أمام قراءتين متناقضتين لدلالة الخطوة التي أقدمت عليها السعودية مؤخراً. فالقراءة الأولى تبدو لي أكثر اتساقاً مع المعلومات المتاحة والموثّقة حول الجهود التي تبذل لتطبيع العلاقات بين السعودية وكيان “إسرائيل”، وهي معلومات تؤكد أنّ قنوات الاتصال غير الرسمية القائمة منذ سنوات طويلة بينهما لا تزال مفتوحة، بل وتوحي بأن السعودية بدأت تهيّئ نفسها تدريجياً للانضمام إلى قافلة الدول العربية المنخرطة في “اتفاقيات أبراهام”، خاصة وأنه لم يكن من المتصوّر عقلاً أن تقدم دولة خليجية مثل البحرين على تطبيع علاقاتها مع كيان “إسرائيل” من دون الحصول على موافقة سعودية صريحة أو ضمنية على خطوة بمثل هذه الدرجة من الأهمية.

معنى ذلك أن المقدّمات كلّها توحي بأن الخطوة التي أقدمت عليها السعودية مؤخراً، بتعيين سفير لها لدى السلطة الفلسطينية في هذا التوقيت بالذات، تبدو أكثر ارتباطاً بالجهود التي تبذلها إدارة بايدن حالياً لدفع عجلة التطبيع بين السعودية و”إسرائيل”، منها بالجهود المبذولة لإقناع كيان “إسرائيل” بإعادة فتح الطريق نحو قبول تسوية تقوم على أساس “حل الدولتين”.

أما القراءة الثانية فتدخل، في تقديري على الأقل، في عداد التقديرات المستندة إلى البحث عن النوايا، وليس في عداد التحليلات المستندة إلى معلومات موثّقة. صحيح أن السعودية تعتبر نفسها الدولة العربية الأقوى والأهم في المرحلة الراهنة، ومن ثم ترى أنها ينبغي أن تعامل باعتبارها الجائزة الكبرى التي تستحق أن يدفع في مقابل الحصول عليها أغلى الأثمان، غير أنه لا يوجد ما يبعث على الاعتقاد بأن الأثمان المطلوبة لها علاقة بالبحث الجدي عن تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، والأرجح أن تكون لها علاقة بمصالح سعودية أولاً وقبل كل شيء.

فالسعودية تشترط على الولايات المتحدة أن تبادر باتخاذ سلسلة من الإجراءات التي تراها ضرورية كثمن يمكن أن يغريها بالإقدام على خطوة التطبيع الرسمي مع “إسرائيل”، أهمها:

1-الموافقة على إبرام معاهدة أمن جماعي تلتزم الولايات المتحدة بموجبها بالدفاع عن السعودية في حال تعرّض الأخيرة للعدوان من أي جهة أو طرف خارجي، وذلك على غرار المعاهدة التي تربط بين الدول الأعضاء في حلف الناتو.

2-الموافقة على رفع القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة الأميركية المتطورة للسعودية، خاصة ما يتعلق منها بطائرات F35، وبمنظومات الدفاع الجوي اللازمة لتغطية وحماية الأجواء السعودية ضد أي هجمات صاروخية أو جوية قد تتعرّض لها.

3-مساعدة السعودية على بناء برنامج نووي سلمي يمكن للولايات المتحدة أن تشرف عليه وتراقبه، شريطة أن يتم تخصيب اليورانيوم داخل المملكة وليس خارجها.

وتجمع معظم وسائل الإعلام الأميركية على أن إدارة بايدن أصبحت أكثر ميلاً في هذه الأيام للاستجابة لمعظم الشروط السعودية، وذلك لسببين رئيسيّين:

الأول: حاجة الولايات المتحدة الماسة لإعادة إدخال المملكة السعودية من جديد إلى حظيرة النفوذ الأميركي، وقطع الطريق أمام محاولاتها الرامية للانفتاح على كل من روسيا والصين.

الثاني: حاجة بايدن الشخصية لتحقيق إنجاز دبلوماسي كبير يساعده على الفوز في انتخابات الرئاسة المقرّر إجراؤها في نهاية العام المقبل.

ولأنّ السعودية تبدو حريصة على ألّا تظهر بمظهر الدولة العربية التي لا تبالي بتوجيه طعنة لنضال الشعب الفلسطيني وخيانة قضيته العادلة، فمن الطبيعي أن تبحث لنفسها عن غطاء سياسي يتيح لها الادعاء أنها لم تقدم على تطبيع العلاقة رسمياً مع كيان “إسرائيل” إلا بعد تمكّنها من الحصول على تنازل واضح من الكيان لصالح القضية الفلسطينية. لكن ما طبيعة التنازل الذي يمكن للولايات المتحدة أن تنتزعه من الحكومة الإسرائيلية الحالية؟

تشير تقارير عديدة نشرت مؤخّراً في معظم وسائل الإعلام الأميركية إلى أن إدارة بايدن دخلت منذ أسابيع، وربما شهور عديدة، في مفاوضات شاقة ومعقّدة لإقناع كيان “إسرائيل” باتخاذ سلسلة من الإجراءات المتعلقة بالأراضي الفلسطينية والمستوطنات الصهيونية، أهمها:

1-الإعلان رسمياً عن عدم وجود نية لديها لضم الضفة الغربية أو أجزاء منها، سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل.

2-الالتزام بعدم إقامة أيّ مستوطنات جديدة، أو الإقدام على توسيع المستوطنات القائمة حالياً.

3-الالتزام بعدم إضفاء صفة قانونية على المستوطنات “غير الرسمية”.

4-الالتزام بتنفيذ ما ورد في اتفاقية أوسلو حول نقل بعض أراضي الضفة الغربية المدرجة في نطاق المنطقة جـيم، الخاضعة كلياً لسلطة الاحتلال في الوقت الحالي، إلى نطاق المنطقتين ألف وبـاء، الخاضعتين كلياً أو جزئياً للسلطة الفلسطينية.

ويتضح من هذه الإجراءات أن الأفكار المطروحة أميركياً تقتصر على عدد من الخطوات ذات الطابع الرمزي، لكن يعتقد أنها تكفي للإيحاء بإمكانية إعادة المسار التفاوضي من جديد، وترسيخ الاعتقاد بأن الطريق المفضي إلى تسوية على أساس حل الدولتين بات مفتوحاً، بعد أن كان يبدو مغلقاً تماماً، لكن هذه الأفكار لا تتضمّن في حقيقة الأمر أي إجراء قابل لإلزام كيان “إسرائيل” بالانسحاب كلياً من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وبإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، كثمن يتعيّن على السعودية أن تحصل عليه مقابل التطبيع الكامل لعلاقاتها بـ كيان “إسرائيل”، وهنا مكمن الخطورة.

فالسعودية هي صاحبة المبادرة العربية التي تبنّتها قمة بيروت، وهي مبادرة تربط عضوياً بين تطبيع العلاقة مع كيان “إسرائيل” وبين إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أي أنها تشترط إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة أولاً قبل الشروع في تطبيع العلاقة مع كيان “إسرائيل”.

لذا يمكن القول من دون أيّ مبالغة إن إدارة بايدن ليست معنية بتمهيد الطريق أما إقامة دولة فلسطينية حقيقية ومستقلة، بقدر ما هي معنية بالبحث عن غطاء سياسي يسمح للسعودية بالمضي قدماً على طريق التطبيع الرسمي لعلاقتها بـ كيان “إسرائيل”، من دون أن تشترط على الأخيرة في المقابل اتخاذ أي خطوة جادة تلزمها بالانسحاب الفعلي من كل الأراضي المحتلة في عام 1967، أو إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، لا الآن ولا في المستقبل المنظور.

وإذا صحّ هذا الاستنتاج، ينبغي علينا أن نطرح السؤال التالي: ما الذي يدور فعلاً داخل العقل السعودي حول تلك القضية الشائكة التي ستلقي حتماً بتداعياتها الخطيرة على حاضر ومستقبل المملكة؟

قد يقول قائل إن البحث في النوايا والضمائر لا يمت لحقل العلوم السياسية بصلة، وطالما أن السعودية لم تقدم على تطبيع علاقاتها رسمياً بـ كيان “إسرائيل”، يفترض أنها لا تزال ملتزمة بالمبادرة العربية، من الناحية الرسمية على الأقل، ومن ثم لا يجوز التوصّل إلى استنتاجات متعجلة مبنية على الغوص في النوايا السعودية.

وهذا صحيح، ومع ذلك يمكن القول من دون تردّد إن المخاوف الناجمة عن احتمال إقدام السعودية على تطبيع علاقتها رسمياً مع كيان “إسرائيل”، في مقابل خطوات رمزية لا تقدّم ولا تؤخّر في مجال البحث عن تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، لها ما يبرّرها وتستمدّ معقوليّتها من مسألتين على جانب كبير من الأهمية:

الأولى: تتعلّق بسلوك معظم الأنظمة العربية الحالية تجاه القضية الفلسطينية.

الثانية: تتعلّق بسلوك الحكومة الصهيونية الحالية، واحتمالات قبولها للعودة إلى مسار التسوية السياسية على أساس “حل الدولتين”.

فقد سبق لجميع الدول العربية التي أقدمت على تطبيع علاقاتها رسمياً بـ كيان “إسرائيل” أن وافقت على مبادرة بيروت العربية للسلام، والتي تلزمها بعدم التطبيع مع كيان “إسرائيل” إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، لكن أقدمت رغم ذلك على ارتكاب خرق واضح وصريح لنص وروح هذه المبادرة، ما يدعونا للاعتقاد بعدم استبعاد إمكانية القيام بتصرّف مماثل من جانب السعودية في أي وقت.

على صعيد آخر، يصعب جداً تصوّر أن تقبل الحكومة الصهيونية الحالية، وهي أشدّ الحكومات تطرّفاً في “تاريخ كيان إسرائيل”، العودة إلى مسار للتسوية يقوم على حل الدولتين، لأنه سيؤدي حتماً إلى انهيارها. لذا آمل أن تتوخّى السعودية منتهى الحذر، لأن إقدامها على تطبيع علاقاتها رسمياً بـ بكيان “إسرائيل”، من دون مقابل حقيقي وملموس، سيدخل العالم العربي كله في دوامة جديدة من الفوضى، قد لا يستطيع الخروج منها معافى هذه المرة.

* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب