د. محـــمد البحيصي*

ممّا تسلّل إلى وعي الناس، وصار وكأنَّه بديهةٌ قضيّةُ ربطِ أهميّة الأشخاص في التاريخ بنجاحهم في تأسيس كيانٍ ما أَو دولة أَو استحواذ على سلطة أَو هزيمة الخصوم في المعارك الحربية، ورسخ في أذهان الناس أسماء أشخاص لمُجَـرّد أنهم حكموا في زمن ما، بغضِّ النظر عن حقيقة هؤلاء الأشخاص وما إذَا كانوا عادلين أَو طُغاةً، صالحين أَو فاسدين، ولربّما احتلّ قادةٌ من سنخ الفراعنة والقياصرة والأكاسرة موقّعاً متقدّماً في سجل “العظماء” بالرغم من أنّ هؤلاء بنوا أمجادَهم على جماجم الشعوب وآلام الإنسان الذي استعبدوه وامتصوا دمَه واستعلوا عليه وقهروه.

وهذا المنهجُ في تقييم شخصيات التاريخ، مردُّه إلى الروحِ الشيطانية التي استحوذت على المجتمعات البشرية، التي لم تستضيء بنور الله ولم تهتدِ بهديه، وجعلت من مقياس إبليس الأول {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}الأعراف:12 معياراً للأفضلية؛ باعتبارهم النار رمزاً للقوّة والإحراق والعذاب والغلبة..

وحتى نحن المسلمين وقعنا في هذا الشرك الشيطاني، وعشنا قروناً ولا نزال تحت إمرة المتغلّبين الذين لا شرعية ولا مؤهّل لهم غير أنّهم امتلكوا القوّة الغاشمة التي قهروا بها البلاد والعباد، وخاضوا بحوراً من الدماء في سبيل الوصول إلى السلطة والجلوس على كرسيها المبني على آهات ضحاياهم والمؤسّس على الظلم والاستبداد، ولم يعدموا شيخاً أَو قاضياً أَو مفتياً يشرّع لهم جرائمهم وظلمهم ويدعو الناس إلى مبايعتهم وطاعتهم وموالاتهم ويحرّم نقض بيعتهم والخروج عليهم ومعاداتهم ومجاهدتهم..

وبهذا النهج المادي الأصم يكون أكثرُ الأنبياء والمرسلين -وعلى حسب معياره- مجموعةً من الفاشلين العاجزين المهزومين أمام أقوامهم.

أقول هذا وأنا أقرأ في سيرة الإمَـام زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)، ومدى مظلومية هذا الشهيد العظيم على صعيد كافة المدارس الإسلامية..

فمدرسة (أهل السُّنة) لا تكاد تذكره، ومتى ما ذُكر اسم “زيد” فَــإنَّ العامة منهم يتبادر إلى ذهنه “زيد بن حارثة” (رضي الله عنه)، وقليل هم أُولئك الذين يستشهدون بنهضته.. وهذا بالطبع مخالفٌ لما كانت عليه هذه المدرسة، سواءٌ أكانت في فترة زيد أَو بعده بقليل، قبل أن تقومَ يدُ التزييف للتاريخ بتسويدِ صفحاته وتحريفِها.

ومدرسة (أهل البيت من أصحاب المذهب الاثني عشر) كادوا أن ينسوه تماماً ويطمسوا سيرته، حَيثُ شُغلوا بمقتل جدّه الإمام الحسين سيد شباب أهل الجنة -عَلَيْهِ السَّلَامُ- تلك المقتلة المفردة في تاريخ البشرية التي طغت على ما سواها عند القوم، ناهيك عن أصل خروج الإمَـام زيد ودعوى أن الإمام جعفر الصادق -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كان له موقف مخالف لذلك الخروج..

وَ(مدرسة الخوارج) الذين ورثوا مناصَبةَ العداء لأهل البيت منذ خرجوا على أمير المؤمنين علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَو على الأقل عدم الترويج لمواقفهم تجاه دولة الظلم الأموي، وبعد ذلك العباسي؛ لأَنَّهم يدركون أنّ الناس مفطورين على حبّهم وموالاتهم كفطرتهم على الدين..

وحتى (المدرسة الزيدية) التي تنتسب إلى هذا الإمام العظيم كادت أن تطوي رايته تحت ضغط الواقع ورغبة ورهبة الزحف الوهَّـابي المعاصر، حتى قيّض الله الشهيد القائد السيد حسين بن بدر الدين الحوثي؛ ليعيد نشر هذه الراية، وينقش عليها شعار زيد وصرخته التي اقتلعت جذور الشجرة الخبيثة في اليمن..

 

برنامجُ نهضة الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ-:

“إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجهاد الظالمين، والدّفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسّواء، وردّ المظالم، ونصر أهل البيت…”.

وهذا البرنامج هو ذاته بنود البيعة التي أخذها الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- من أتباعه وأنصاره، وبهذه البصيرة لخّص الإمام مشروعه القرآني الرسالي، حَيثُ ضمّنه:

تحكيم كتاب الله تعالى وهذا يعني (المرجعية والمحورية القرآنية).
متابعة سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته في الناس.
وهذان هما الأصلان اللذان ارتكز عليهما الإمام في حركته بكل ما يتضمناه من كلّيات كبرى ومبادئ كالعدل والتوحيد والشورى والحرية والمساواة ومواجهة المستبدين والظالمين الذين قهروا وأكرهوا الناس على البيعة بغير وجه حق، حَيثُ لا شرعية لهم، وبعد ذلك توجّـه برنامج الإمام إلى مصالح الأُمَّــة المستضعفة المحرومة التي سلبها الطغاة حقوقها وأهدروا كرامتها وضيعوها، فكانت جلّ بنود النهضة أَو البيعة تتحدّث عن جهاد الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين… إلخ.

ومن ثم ختم الإمامُ برنامجَه بنصرة أهل البيت القائمين بالحق، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والناصحين للأُمَّـة والمجاهدين في سبيل الله بالكلمة والسيف.

وهذا ما أكّـده الإمام كقوله لمن سأله عن سبب مقاتلته لحكام بني أميّة:

“هؤلاء ظالمين لي ولكم، وإنّما ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى السّنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ، فإن أجبتونا سعدتم، وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل”.

وهذا البرنامج هو ذاته الذي دعا إليه القرآن العظيم في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}الحج:41 وهي الآية التي جاءت عقب قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم اللَّهِ كَثيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج:39-40

وهو برنامج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواجهة الظلم “لتأمرّن بالمعروف ولتنهوّن عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطرا أَو ليسلطنّ الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يُستجاب لهم”.

وهو ذات البرنامج الذي تبنّاه أمير المؤمنين علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- في فترة ولايته في مواجهة الناكثين والقاسطين والمارقين.

وأمّا نهضة الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فتكاد تكون عينَ نهضة الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دوافعاً وأهدافاً وهو القائل: ” وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّـة جدّي، أريد أن آمُرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر… ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين”.

وإذا كان الحسين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قد قام بثاني نهضة إصلاحية من داخل البيت المسلم، فَــإنَّ الإمَـامَ زيدًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هو صاحب النهضة الثالثة، غير أنّ حجم الفساد والانحراف الذي واجهه كان أكبر من ذلك الذي واجهه الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لجهة تغلغل فساد الحكم الأموي في حياة الأُمَّــة على المستويين الديني والدنيوي بعد ستة عقود على شهادة الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وبعد كُـلّ الفظائع التي جرت على الأُمَّــة من وراء فساد وظلم حكّام هذه الأسرة باستثناء الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز الذي دان اللهَ بالعدل والتوحيد، ولو تُرك له المجال فلربما كان وجه ومسار التاريخ الأُمَّــة قد تغيّر، وهو الذي كان يراسل الإمَـام زيد وقال عنه: “إنّ زيداً لمن الفاضلين في قيله ودينه”.

وقد يقول قائل: إنّ الثورة على حكم بني أميّة الفاسد لم يقتصر على نهضتَي الحسين وزيد وابنه يحيى، فهناك قبل نهضة زيد كان خروج عبد الله بن الزبير وخروج الفقهاء وعلى رأسهم عبد الرحمن ابن الأشعث.. ثم هناك ثورة التوّابين، والمختار الثقفي..

وأقول: هذا صحيح، ولكني وبمتابعة هذه الثورات لم أجد فيها برنامجاً صريحاً من حَيثُ البواعث والأهداف يمنحها درجة أن تنظم في سلك نهضتي الحسين وزيد (عليهما السلام)، وكانت السلطة غاية بحد ذاتها في هذه الثورات وليس إصلاح الأُمَّــة، ممّا يعني أنّ هذه الثورات كانت تمتلك مشروع لهدم السلطة القائمة، لكنّها افتقرت إلى مشروع بناء سلطة عادلة بديلة، وهذا يشبه إلى حَــدّ كبير ما سُمّي في زماننا بـ (ثورات الربيع العربي) باستثناء ما جرى في اليمن حَيثُ كان حضور أنصار الله بمثابة صمّام أمان وحامل لمشروع التغيير القرآني الذي يتضمن عمليتي الهدم والبناء وليس الهدم فقط، وهذا هو المصداق لقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفصام لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}البقرة:256 وهو قوسي دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللّذين يحصِّنان المجتمع عقيدةً وسلوكاً ومنعةً.

ذكر المقريزي في (المواعظ والاعتبار) أنّ زيداً خاطب يوماً أتباعَه الثائرين معه قائلاً:

“واللهِ ما خرجت ولا قمت مقامي هذا حتّى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض، وأحكمت السننَ والآداب، وعرفت التأويلَ كما عرفت التنزيل” ولهذا لُقِّبَ في زمانه بـ (حليف القرآن)، في زمنٍ كَثُرَ فيه الفقهاء والمحدّثون، وهذا إن دلّ فَــإنَّما يدلّ على الرابطة التي جمعت الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بالقرآن إلى الحدّ الذي اقترن اسمه به؛ وهو ما ظهر في كُـلّ شؤون حياته.

 

الإمَـامُ زيد ومشروعُه الوحدوي:

على مدى عقود استطاع الفريق الأموي الحاكم بث ثقافة مغلوطة عن رجالات “أهل البيت” ابتداءً من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ووُصُـولاً إلى الفترة التي عاشها الإمَـام زيد ومعه أخوه الإمام محمد الباقر وابنه الإمام جعفر (عليهم السلام).. وباتت الأُمَّــة في حالة تشظّي وانقسام، ممّا فرض على هؤلاء الأئمة واقعاً يحتاج إلى ضبط العلاقة بينهم وبين مثلث بنية المجتمع المكوّن من: النظام الحاكم، وجمهور علماء الأُمَّــة، وجماهير الرأي العام فيها..

وبقراءةٍ عميقة لنهضة الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- نجد تجربة متميزة في التعاطي مع هذا المثلث الحيوي، ونجد أنّ إمامة زيد ونهضتَه ظلّت تمثّلُ في وعي عامة المسلمين ومنهم (أهل السنة) التي تميّزت الزيدية عنهم –باعتبارها فِرقة- في وقت متأخر بعد الإمَـام زيد، محطةً جامعةً أحيت فيهم الروحَ الثورية التي خمدت إلى حَــدّ ما بعد نهضة الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ولا سيما في دائرة (أهل البيت)، وهو ما أهّله لأن تكسب نهضته دعم كبار الفقهاء والمحدّثين وعلماء الأُمَّــة أمثال: (الإمام أبي حنيفة ومنصور بن المعتمر والأعمش وابن أبي ليلى وسفيان الثوري وعشرات غيرهم) الذين اعتمدوا آراءه العلمية ورؤيته السياسية ونهجه التوفيقي الذي قدّمه في سبيل وحدة الأُمَّــة من خلال موقفه من الخلافة كموقع تنفيذي غير مرتبط بالأفضلية، وله علاقة بانتخاب الأُمَّــة بخلاف الإمامة التي هي مقام لا يخضع لآراء الناس وإنّما هي اختيار إلهي، وبهذا يكون الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قدّم حلّاً عمليًّا لأزمة النزاع التاريخي في هذه القضية الكبرى، وهي على كُـلّ حال لا تزال القضية الأخطر في واقع المسلمين المذهبي والطائفي، وليس لها من حَـلّ غير ذاك الذي ذهب إليه الإمَـام زيد في حينه، ولا حَـلّ غيره يمكنه حسم هذا العنوان الذي عانت منه الأُمَّــة من تركه جرحاً دامياً نازفاً في روحها وجسدها، وكان الباب الأوسع الذي دخل منه أعداؤها لتشظيتِها ونزاعها وفشلها وذهاب ريحها، وظل الأدَاة الأكثر فتكاً في يد الغلاة من هذا الفريق أَو ذاك، وفي يد هذا الطاغية الظالم يجيّش به المشاعر، ويثير به الغرائز، ويزج به الناس في صراعات ما أنزل الله بها من سلطان، وإنّما هي كلها تصُبُّ في خدمةِ حزب الشيطان ومصلحة أولياء الطاغوت.

وبهذه البصيرة في مشروع الإمَـام زيد القرآني، حَيثُ جمع علماء الأُمَّــة على كلمة سواء، من خلال العودة بهم إلى الإسلام في ينابيعه الأولى قبل أن تمتد إليه اليد الأموية الآثمة بالتأويل والتزييف والتحريف، وهو ما أدركه حكام الجور والظلم فابتدروه قبل أن تكتمل استعدادات خروجه عليهم ومناجزتهم، وليخرج الإمَـام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- موطناً نفسه على القتل والشهادة، مقدّماً المنية على الدنيا الدنيّة، وهو صاحب القول: “والله ما كره قومٌ قَطُّ حرَّ السيوف إلّا ذلّوا” وَ”من أحبّ الحياة عاش ذليلاً”.

فسلامٌ عليك سيّدي.. وانظُرْ فها هم أبناءُ مدرستك ينهضون حاملين رايتك، ومردّدين شعارَك وماضين على نهجك مجاهدين في سبيل الله والمستضعفين.

 

  • كاتب وباحث فلسطيني
  • المصدر: صحيفة المسيرة