“كن مقاوماً”… حتى لا يحوّل “إعلام التفاهة” الناس إلى أغبياء
بثينة عليق*
بعد اتهام حزب الله بالمسؤولية عن تفجير مرفأ بيروت عادت بعض الوسائل الإعلامية إلى عادتها القديمة الجديدة، فوجهت الاتهامات إلى الحزب أيضاً بمسؤوليته عن الأحداث التي شهدها مخيم عين الحلوة في الآونة الأخيرة.
ليست المرة الأولى، ولكنها من المرات القليلة التي يوجه فيها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله النقد المباشر إلى وسائل الإعلام. في خطابه الأخير، وفي سياق توقفه عند الذكرى الثالثة لانفجار مرفأ بيروت، وصف السيد نصر الله بعض وسائل الإعلام بـ”الخبيثة واللئيمة والقذرة” على خلفية حملة أطلقتها بعد انفجار المرفأ مباشرة، واتهمت فيها حزب الله بالمسؤولية عن الانفجار.
هذه الوسائل الإعلامية عادت إلى عادتها القديمة الجديدة التي لم تتوقف منذ سنوات طويلة، فوجهت الاتهامات إلى حزب الله أيضاً بمسؤوليته عن الأحداث التي شهدها مخيم عين الحلوة في الآونة الأخيرة.
وفي الحالتين، الحديث عن توجيه الاتهام يعني حملة بروبغندا كاملة الأوصاف تشنها الوسيلة الإعلامية، وتستخدم فيها كل الاستراتيجيات والتكتيكات الإعلامية التي تتحول إلى أسلحة غير مشروعة تطلق وابلاً من “التضليل والتزوير والتحريف واستخدام أشلاء الشهداء وجراح الجرحى ودموع الأيتام وآلام المتضررين”. هذه التوصيفات جمعها السيد نصر الله في إطار ما سمّاه “إعلام التفاهة في لبنان”.
في الحقيقة، إنَّ تاريخ اتهامات وسائل الإعلام هذه لحزب الله زاخرة بالتفاهات. لم توفر الشاشات المعادية قضية إلا واتهمته بها. بعد حرب تموز، تم العمل على اتهامه بالمسؤولية عن الخسائر المادية التي تسببت بها الحرب. وبعد أحداث 17 تشرين الأول/أكتوبر، حمل الحزب مسؤولية الأزمة الاقتصادية (وقد أشرنا إلى هذه المسألة في مقالة سابقة بعنوان حرب تموز والهجمات المرتدة)، ووصلت الأمور إلى حد اتهامه بالمسؤولية عن انتشار كورونا، لأن سيدة تنتمي إلى بيئته كانت من أوائل الذين أصيبوا بالفيروس بعد قدومها من رحلة إلى إيران.
مصطلح التفاهة الذي استخدمه السيد نصر الله يحيلنا تلقائياً إلى كتاب “نظام التفاهة” للفيلسوف الكندي آلان دينو. بالنسبة إلى الأخير، تتخطى التفاهة الحالة الفردية لتصبح نظاماً اجتماعياً “تكون الطبقة المسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين، وتتم فيه مكافأة التفاهة والرداءة عوضاً عن الجدية والجودة”.
يرى دينو أن العالم يتجه أكثر فأكثر إلى تأمين ظروف أكاديمية وسياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية تؤدي إلى “سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة”، بالتوازي مع “تغييب الأداء الرفيع وتهميش منظومة القيم وإبراز الأذواق المنحطة وإبعاد الأكفاء”.
يكشف دينو معلومات مهمة ومثيرة عما اعتبره أوجه تفاهة في مجالات عديدة، أبرزها الإعلام والسياسة. ويمكن لقراءة متأنية للكتاب أن تقودنا إلى استخلاص عدد من المواصفات التي يتمتع بها “الإعلام التافه”. واللافت أن هذه المواصفات تنطبق إلى درجة كبيرة على بعض وسائل الإعلام اللبنانية المعادية للمقاومة، ما يدفعنا إلى تكرار مقولة دينو: “ليس سهلاً أن يتبوأ التافهون السلطة والمواقع الإعلامية، ولكنها الحقيقة للأسف”.
الإعلام التافه يستخدم “لغة خشبية جوفاء محملة بالحقائق، تقوم على الحشو وتكرار سرديتها، وعلى الألفاظ واللغو والادعاء والتخمين والاستنتاج من مقدمات غير ثابتة”.
ينتج هذا الإعلام من يسميهم الشاعر الإسباني بيدرو ساليناس “الأميين الجدد” الذين تحولهم وسائل الإعلام “الشريرة” إلى “مخلوقات بسيطة تعيش مستمتعة بملذات الحياة الاستهلاكية التي يوفرها العصر الحديث، والتي تكون محكومة بحكم العيش في تخمة الجهل”.
أما معظم العاملين في هذه الوسائل الإعلامية، فهم من الذين يسميهم دينو “جميلة بلهاء أو وسيماً فارغاً”، يفرضون أنفسهم على المشاهدين، و”لا يخرجون بأي منتج قيمي صالح لتحدّي الزمن”.
الضيوف الذين يعتمدهم إعلام التفاهة، والذين يتم التسويق لهم، “انحدروا أكثر في مقياس الذوق والأدب والحس السليم”، والمنتج الإعلامي هو عبارة عن “أعمال فيها الكثير من الابتذال ومجردة من القيمة”، ويضيف دينو أنَّ صعود الابتذال في هذه الوسائل الإعلامية يترافق مع ما يسميه “الاستبعاد والعزل الممنهجين لكل ما يمت بصلة إلى الكفاءة والقدرة والجودة والذكاء وحرية الرأي”.
المفارقة التي لا يمكن إهمالها في وسائل إعلام التفاهة أنَّ عملها يحتاج إلى بذل الجهد واستخدام “جودة تقنية لازمة لإخفاء الكسل الفكري العميق”. هذه الوسائل الإعلامية، حالها كحال الباحثين التافهين، “يفوضون قواهم الفكرية إلى سلطات أعلى تملي عليهم استراتيجيتهم… بما يسمح بترسيخ أهدافهم”.
هذا بالفعل ما نشاهده ونسمعه عبر وسائل إعلام التفاهة في لبنان. هذه اللغة والأساليب والأهداف تجلت إلى أبعد الحدود بعد انفجار المرفأ مباشرة، وهو ما أكدته الباحثة ليلى زغيب في دراسة لها عن الفساد الإعلامي وعن التحريض والتضليل الذي تنتهجه بعض هذه الوسائل.
تتحدث الباحثة عن أداء إحدى القنوات التلفزيونية في لبنان التي قامت بدور “المحرّض على فئة محددة من السلطة السياسية المتمثّلة في حزب الله وحلفائه أو لجهة نشرها أخباراً تزيد حدّة الانقسامات بين الشعب اللبناني الواحد”.
تم ذلك من خلال اعتماد عدد من التكتيكات الإعلامية، أبرزها تكتيك طرح الفرضيات التي “حاولت المحطة ترسيخها بالأدلة من كل حدب وصوب لزجّ حزب الله في الكارثة وتأليب الرأي العام عليه”، ثم تكتيك آخر يقوم على “بث شائعات وأخبار كاذبة حول دخول عناصر من حزب الله عبر الهيئة الصحية إلى داخل المرفأ للقيام بشيء ما”.
وعرضت المحطة “المعطيات غير المثبتة التي شكلت مادة للسخرية تداولها الناشطون في مواقع التواصل لافتقارها إلى لغة المنطق والبرهان”.
وأشارت زغيب إلى عدد من التقنيات الإعلامية التي اعتمدت لتحقيق هدف تأطير حزب الله بالمسؤولية عن انفجار المرفأ، مثل “توجيه أصابع الاتهام إلى جهة محددة، وهذا بدوره يتطور إلى أسلوب شخصنة الصراع وحصره في شخصيات كالسيد حسن نصر الله وجبران باسيل والرئيس ميشال عون”، إضافةً إلى “التنقيب في الأرشيف الإعلامي والتقارير التابعة لجهات مناوئة لحزب الله، من بينها العدو الإسرائيلي، والربط بينها بطريقة تضليلية لتعزيز “الفرضيات”، مستبقة بذلك نتائج التحقيق.
لم تستخدم ليلى زغيب في دراستها مصطلح “التفاهة”، إلا أن معظم ما ذكرته في دراستها ينطبق إلى حد بعيد على ما قاله دينو عن الوسائل الإعلام التافهة التي تنقل “خطاب الجهل وتنتجه معاً”.
كيف نواجه “إعلام التفاهة في لبنان” وفق تسمية السيد نصر الله؟
السؤال نفسه طرحه دينو في آخر مقطع من كتابه: “ما الذي يمكن عمله؟”. رأى الفيلسوف الكندي أن السؤال “يرفع من وعينا الاجتماعي والسياسي”. أما إجابته، فاختصرها بكلمتين ختم بهما كتابه: “كن راديكالياً”.
أما الذين تسلط عليهم وسائل إعلام التفاهة صورها ولغتها ومفاهيمها، فلا بد من أن يبحثوا أيضاً عن وسائل للمواجهة حتى لا يتحقق هدف التافهين المتمثل بتحويل الناس إلى “أغبياء” وبتشجيعهم “على الإغفاء بدل التفكير والنظر إلى ما هو غير مقبول كأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت كأنه طبيعي. الإجابة عن النسخة اللبنانية والعربية من السؤال يمكن أيضاً اختصارها بكلمتين: “كن مقاوماً”.
* المصدر: موقع الميادين
* المقالة تعبر عن وجه نظر الكاتب