عماد الحطبة*

“إننا لا نفهم كيف لقارتنا، التي يضم باطن أرضها ثروات هائلة وتمنحنا طبيعة سخية من الماء والشمس، أن تكون أفقر قارة في العالم، وأن يكون اسمها أفريقيا الجائعة، وكيف نحن رؤساء دولها نجوب العالم لنتسول”. بهذه الكلمات خاطب النقيب إبراهيم تراوري، الرئيس الانتقالي لجمهورية بوركينا فاسو، رؤساء أفريقيا في القمة الأفريقية – الروسية التي عقدت في سان بطرسبورغ.

قبل ذلك، في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أصدرت الحكومة الانتقالية في مالي قراراً يقضي بحظر أنشطة جميع المنظمات غير الحكومية، والتي تتلقى تمويلاً من فرنسا، بما في ذلك المنظمات العاملة في المجال الإنساني.

كان هذا الإجراء الأخير في سلسلة إجراءات ميدانية، اتخذتها الحكومة الانتقالية، التي وصلت إلى الحكم عام 2021 بعد انقلاب عسكري. أول الإجراءات كان طرد القوات الفرنسية الموجودة في البلاد، ولاحقاً إخراج قوات السلام التابعة للأمم المتحدة.

أمّا على الصعيد السياسي، فجاء إقرار الدستور الجديد، بما اشتمل عليه من تقوية منصب رئيس الجمهورية، في تمرد على النظام البرلماني الذي فرضته فرنسا، وتأكيد شعار السيادة الذي رفعه الانقلاب في وجه وجود القوات الفرنسية. وتم كذلك إلغاء الفرنسية كلغة رسمية للبلاد، وعدّ كل اللغات المحلية لغات رسمية، بما في ذلك اللغة العربية، ليُنهي إرثاً استعمارياً تاريخياً تركته فرنسا في مستعمراتها، ليرسخ هيمنتها الثقافية تحت شعار الفرنكوفونية، وفي أفريقيا بالذات يرسخ هيمنتها، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، من خلال مصطلح فرانس – أفريك.

عند الحدود الغربية لمالي تقع النيجر، التي أسقط انقلاب عسكري حكومتها المنتخبة، وبادرت الحكومة الانتقالية مباشرة إلى إعلان وقف تصدير اليورانيوم والذهب إلى فرنسا، علما بأن النيجر هي سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم.

واتهم الجنرال عبد الرحمن تشياني، الذي اختير رئيساً انتقالياً للبلاد، القوات الفرنسية بمحاولة الهجوم على قصر الرئاسة لإطلاق سراح الرئيس المخلوع محمد بازوم، علماً بأن فرنسا تحتفظ بقوة عسكرية قوامها 1500 جندي، في حين تحتفظ الولايات المتحدة بقوة من 1100 جندي تحت لافتة محاربة الإرهاب. ولاحقاً أعلنت الحكومة الفرنسية بدء إجلاء رعاياها، في الوقت الذي حذرت فيه مالي وبوركينا فاسو من أن أي اعتداء على النيجر، أو غزو عسكري لها، سيكون بمثابة إعلان حرب على البلدين.

في الشمال الأفريقي، تزداد العلاقات بين فرنسا والجزائر توتراً، وخصوصاً بعد تولي الرئيس عبد المجيد تبون الرئاسة. وكانت تلك العلاقات شهدت تحسناً ابتداءً من رئاسة الشاذلي بن جديد، ووصلت إلى ذروة تحسنها عام 2017، عندما أعلن الرئيس ماكرون أن الاحتلال الفرنسي للجزائر كان جريمة ضد الإنسانية.

توجهات الرئيس تبون للبحث عن شركاء غير فرنسا للتغلب على الأزمة الاقتصادية الطاحنة، قابلها اليمين الفرنسي الحاكم بتصريحات رفعت شدة التوتر بين البلدين. بعد تصريح الرئيس ماكرون بأنه لا يوجد شيء اسمه الشعب الجزائري، وأن النظام العسكري اخترع هذا الشعب بعد الاستقلال، لجأت الجزائر إلى إيقاف العلاقات القنصلية بين البلدين، وأصدر الرئيس تبون مرسوماً يقضي بغناء النشيد الوطني الجزائري كاملاً في المناسبات الرسمية، مُعيداً إلى دائرة النقاش الفقرة الثالثة من هذا النشيد، والتي يتم التغاضي عنها منذ أيام الرئيس الشاذلي بن جديد:

“يا فرنسا قد مضى وقت العتاب/ وطويناه كما يُطوى الكتاب

يا فرنسا إن ذا يوم الحساب/ فاستعدّي وخذي منّا الجواب

إنّ في ثورتنا فصل الخطاب/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا… فاشهدوا… فاشهدوا”.

عدّلت فرنسا خطابها بعد رد الفعل الجزائري الغاضب، وخصوصاً قيام وزير الخارجية الجزائري بجولة أوروبية، استثنى منها فرنسا، ثم قيام الرئيس تبون بتأجيل زيارته لباريس، وقيامه بزيارة روسيا، وتوقيع عدد كبير من الصفقات النوعية بين البلدين.

لم يَدُم الهدوء طويلاً، إذ لجأت وكالة “فرانس 24″، الممولة من الحكومة الفرنسية، إلى اتهام الجزائر بالتمييز بين المناطق الجزائرية في أثناء جهود إخماد الحرائق، التي تجتاح منطقة حوض البحر المتوسط منذ بداية الصيف. تناول الحديث المناطق القبلية بالتحديد، وهو ما عدّته وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية استمراراً في التدخل الفرنسي في شؤون الجزائر الداخلية، بما في ذلك دعم منظمة “ماك” الإرهابية الانفصالية.

هذه الدول المتاخمة لبعضها (مالي، الجزائر، بوركينا فاسو، النيجر) يجمعها، بالإضافة إلى كونها مستعمرات فرنسية سابقة، أنها تعاني آفة الإرهاب الذي تدّعي فرنسا والولايات المتحدة محاربته، وأنها جميعاً تعاني أزمات اقتصادية خانقة على رغم احتوائها على ثروات طبيعية هائلة. تلك الثروات، التي سخّرها النقيب توماس سانكارا (غيفارا أفريقيا) لتحقيق الاكتفاء الذاتي، صناعياً وزراعياً، خلال حكمه بوركينا فاسو في الفترة بين 1983 و1987، قبل أن تدبّر الاستخبارات الفرنسية انقلاباً ضده، أدى إلى اغتياله.

ما يجمع هذه الدول أيضاً أنها توجهت إلى روسيا بحثاً عن الحل لمشاكلها. هذا ما قاله الرئيس البوركيني في قمة بطرسبورغ، بشأن الفرصة التي يقدمها التحالف مع روسيا، التي تحاول مساعدة أفريقيا، وخصوصاً من خلال شحنات القمح المجانية التي ترسلها إلى أفريقيا، مع تأكيده ضرورة العودة إلى هذا المؤتمر بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي.

أمّا مالي فاتُّهمت بالتعاون مع مجموعة فاغنر، واتُّخذت عقوبات بحق عدد من مسؤوليها، بما فيهم وزير الدفاع. المواطنون في النيجر هاجموا السفارة الفرنسية وحاولوا اقتحامها، وكانوا يرددون هتافات مؤيدة لروسيا والرئيس بوتين.

هكذا هو عالم اليوم، يحاول التملص من الأحادية القطبية، ليس بالتنظير السياسي والتحليل الليبرالي، لكن بالنضال لطرد المستعمِر وكل ما يمثله، ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً. نحن كأمة رسخت تحت ظلم القطب الواحد، ودفعت ثمن هذه القطبية من دم أبنائها، في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا، معنيون بالانفتاح على هذه الدول الأفريقية، وتحقيق شراكات اقتصادية معها، لتكون دولنا قطباً لا يدور في فلك أي طرف، إلّا فلك مصالحه الوطنية. وعندها يكون النصر الحقيقي تحقّق، أو كما قال إبراهيم تراوري في نهاية كلمته: “الانتصار أو الموت”.

* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجه نظر الكاتب