علي ظافر*

خلال العقد الأخير، أخذت إرهاصات حروب الجيل الخامس بالتشكّل، حاملةً، إن جاز التعبير، استراتيجية “التفجير من الداخل”. ومع أنَّها غير مكلفة، إلا أنها لا تقتصر على الدول، بل تمتد إلى المجتمعات، على نحو يحقق نبوءة الجنرال الصيني والخبير العسكري صن تزو في كتابه “فن الحرب”، ومفادها “أن ذروة المهارة تكمن في إخضاع العدو من دون قتال”.

وهنا، يلفت الكاتب شادي عبد الوهاب منصور ضمن كتابه “حروب الجيل الخامس.. أساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية” إلى أن الاستثمار المباشر في تكنولوجيا المراقبة والرّصد وتوظيف تكنولوجيا المعلومات من أهم السبل والأساليب في عمليتي الدفاع والهجوم في حرب “بلا قيود وبلا محظورات”.

وقد باتا “خليطاً من توظيف جميع الأدوات المتاحة، التقليدية وغير التقليدية”، بمعنى أنها “حروب شبكية” لا يوجد فيها مركز ثقل يعكس الهيكل المؤسسي. من أجل ذلك، بات كثير من الدول، ومن بينها الولايات المتحدة وخلفاؤها، يفضلون استخدام كل الوسائل الإكراهية من دون إعلان الحرب، مثل الحروب الاقتصادية والسيبرانية والمعلوماتية والبيئية وحروب الفضاء.

من هذا المنطلق، نجد في الحالة اليمنية وغيرها من حالات التحرر حرباً شبكية بلا قيود خاضتها الولايات المتحدة و”إسرائيل” ودول الخليج، جمعت بين العسكري والاقتصادي والأمني ومحاولات التفجير من الداخل والحرب السيبرانية وكتم صوت الخصم أو إسكاته، من خلال حجب الفضائيات ومنصات اليوتيوب والمواقع الإلكترونية والحسابات في منصات التواصل الاجتماعي، رغم أنَّ الأطراف التي تقدم على هذه الخطوات التعسفية والإرهاب الرقمي تمتلك ملايين المواقع والمنصات والمحطات التقليدية والجديدة، لكنها تخشى الحقيقة وتعمد إلى تشويهها وحجبها.

مؤخراً، عمدت شركة “يوتيوب”، بإيعاز من دول العدوان على اليمن، إلى حجب 18 منصة يمنية، بذريعة “مخالفة الشروط” التي تتماشى مع أهداف الجهة المالكة والمهيمنة على هذه الشركة، فيما يشكل خلاصة “الهيمنة التقنية”، إذ تعمد الولايات المتحدة الأميركية بدرجة أساس إلى إسكات صوت الخصم من دون جدال، وتفرض قيوداً تقنية لم تستثنِ حتى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

منتصف هذا الشهر 17يوليو، أقدمت شركة “يوتيوب” على حجب 18 قناة من قنوات الإعلام الحربي اليمني و”أنصار الله” ووحدة الإنتاج الفني والوثائقي وروضة الشهداء المعبرة عن صوت المظلومية اليمنية.

وبقدر ما مثلت إرهاباً رقمياً وفكرياً وتقنياً، فإنها لم تكن الخطوة التعسفية الأولى، بل سبقتها خطوات منذ بداية الحرب العدوانية على اليمن وإلى اليوم، من حجب القنوات، إلى قرصنة المواقع الإلكترونية، إلى مصادرة الصفحات في منصات التواصل الاجتماعي، إلى مصادرة حسابات أشخاص يرتبطون بمؤسسات إعلامية معينة (كثير من العاملين في شبكة المسيرة صودرت حساباتهم)، بل حتى كلمة المسيرة، أينما وجدت حذفت.

ومثلما عوَّدتنا واشنطن على اجتياح البلدان واحتلالها من دون مساءلة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، فإنها تجتاح الفضاء المجازي، وتمارس أبشع أساليب القرصنة الرقمية. وهنا، وبلغة الأرقام، نستعرض ما قامت به تجاه الإعلام اليمني والمتعاطف مع اليمن.

في منتصف العام 2021، أقدمت السلطات الأميركية على الاستيلاء والسطو والقرصنة الإلكترونية غير المبررة لمواقع قنوات “المسيرة” و”العالم” و”اللؤلؤة” و”فلسطين اليوم” و”النبأ” و”الكوثر” و”هدهد” و”برس تي في” السياسية، مانعةً المستخدمين من الاستفادة من محتواها الرقمي.

في غضون ذلك وقبله وبعده، أقدمت شركة “يوتيوب” على حجب ما يقارب 45 قناة في موقعها وأبعدتها من الشبكة العنكبوتية تماماً، فيما عمدت منصّة فيسبوك إلى حظر عشرات الصفحات لقناة المسيرة اليمنية، وحظرت حسابات الأشخاص المرتبطين بها وكل من يكتب اسم “قناة المسيرة” أو يحمل صورة السيد عبد الملك الحوثي أو السيد حسن نصر الله. وفي أواخر العام 2022، أقدمت شركة “تويتر” على مصادرة حسابات “المسيرة عاجل” وحذفها، وصادرت أيضاً حسابات عدد من مذيعي شبكة المسيرة ومراسليها.

وبضغوط سياسية ومالية سعودية إماراتية، حجبت شركة الأقمار الاصطناعية المضيفة لقناة المسيرة الفضائية على مدار النايل سات 9 مرات، فضلاً عن عشرات محاولات التشويش وحجب المسيرة مباشر.

وقد حجبت، ولا تزال، منذ بداية الحرب العدوانية على اليمن وإلى اليوم قناة المنار عن مدار النايل سات والعرب سات، بسبب تفاعلها مع الشعب اليمني المظلوم وتعاطفها معه، في تصرف تعسفي غير مسؤول وغير أخلاقي وغير قانوني.

كما أن الميادين بدورها في تنوير الرأي العام وتوضيح الصورة والحقائق بموضوعية والانحياز إلى الإنسان في اليمن وغيره، تعرَّضت لكثير من الضغوط، لكنها لم تستسلم، ونحن نقدّر لها وقفتها من اليمن والإنسان اليمني والإعلام اليمني.

في الخلاصة، إنَّ ما مارسته الولايات المتحدة الأميركية والسعودية والإمارات بحقّ الإعلام اليمني (التقليدي والجديد) هو شكل من أشكال حرب شبكية على كل الصعد؛ عسكرياً واقتصادياً ومعلوماتياً وسيبرانياً وتقنياً.. وحرب الحجب والتكميم والقرصنة الرقمية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالهيمنة التقنية، وبالتالي فرض قيود تقنية ومصادرة حق الآخر (الخصم) في التعبير عن رأيه وفكره ومشروعه، وحتى في الدفاع عن نفسه.

كما أنها تهدف إلى فرض حالة من اليأس والتيئيس ضمن معركة كيّ الوعي، كما أشار إليها الأمين العام لحزب الله مؤخراً في خطابة عشية الليلة السابعة من محرم، إذ أصبح العدو يعتمد على استراتيجية قلب الحقائق والمفاهيم، وأحياناً إسكات صوت الخصم، من خلال والحجب والمنع وفرض القيود التقنية، موضحاً أن الأعداء يخشون اليوم قناتين فضائيتين هما المنار والمسيرة، رغم امتلاكهم آلاف الفضائيات.

إن ما يخشونه هو الحق والحقيقة، فضباط الوعي والبصيرة يقضون مضاجع الأعداء، ويدمغون باطل الأعداء وزيفهم وتضليلهم ودعاياتهم وإرهابهم الفكري، كما تدكّ المسيرات والصواريخ البالستية والدقيقة مواقعهم وشركاتهم المغذية للإرهاب العسكري، وصدق الله القائل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.

* المصدر: الميادين نت