بثينة شعبان*

النفاذ إلى جوهر الأمور يكشف من دون أدنى شك أن الصراعات والحروب الدائرة اليوم والتي دارت خلال تاريخ البشرية، مقصدها واحد لا ثاني له، ألا وهو السيطرة على هذه الأرض ومواردها. “الأرض خلقناها للأنام”، وخَلَقَ الله على هذه الأرض ما يكفي للعيش بسلام وأمان، لولا طمع الطامعين الطغاة الذين يبغون وبقوة السلاح السيطرة على أراضي الآخرين ومواردهم، وتحويل الملايين من الشعوب إلى فقراء أو لاجئين أو مهجّرين أو ضحايا أسلحة الموت والدّمار.

هكذا أُبيدت ثقافات وحضارات وشعوب ونشأت إمبراطوريات على أنقاضها، وهكذا تعلّم الطامعون استقدام ثرواتهم من أقاصي الأرض وصاغوا لأفعالهم هذه عناوين برّاقة، مثل “نشر الحضارة” أو “الحرية” أو “الديمقراطية” أو “حقوق الإنسان”. في الوقت الذي كانوا يمارسون به سلب الإنسان حقّه في أرضه وثرواته التي خصّه الله بها.

واليوم ومع اشتداد النزيف الدائر في الأراضي العربية المحتلة سواء داخل فلسطين أو خارجها، ومع احتدام أو احتمال احتدام قوى دولية على الأرض الأوكرانية، مقترنة أيضاً بتفاقم أزمة الحبوب وما يعنيه ذلك من خطر نقص غذائي في العالم قد يقود إلى مجاعة كبرى. نرى أيضاً أن ألف وياء هذه الحروب والصدامات هو الأرض وطمع الآخرين والمستوطنين والغرباء بأرض من أُنبتوا على هذه الأرض إنباتاً لأجيال وأجيال.

فمنذ أشهر ونحن نقرأ تهديدات الكيان الصهيوني للشعب الفلسطيني بنكبة ثانية أخطر وأعمق من نكبة 48، وبمحو قرى وبلدات من وجه الأرض وتهجير أهلها. وكما كان هدف النكبة الأولى تهجير السكان العرب الأصليين عن أرضهم، فإن الهدف اليوم وغداً هو تهجير سكان هذه الأرض بالإرهاب والقتل والسيطرة عليها وعلى مواردها.

في تلال كفر شوبا والعرقوب اتّبع المحتلون أسلوباً آخر اتّبعوه أيضاً في خمسينيات القرن الماضي، ألا وهو عملية “القضم” وتحريك علامات ترسيم الحدود يوماً بعد يوم وبهدوء، وربما من دون إثارة ضجة مع أحد إلى أن يصبح أمراً واقعاً، ثم يتمّ التحريك مرة أخرى وقضم مساحة أخرى وتثبيتها.

ولكنّ ما شهدناه في الأيام الأخيرة من قبل حزب الله والقوى والفعاليات الوطنية اللبنانية يُري أن أساليب العدوّ باتت مكشوفة، وأن القوى المقاومة في لبنان قد فهمت وبشكل دقيق استراتيجية العدوّ، وبنت استراتيجيتها المقابلة والقائمة على نصب الخيم ووجود المدنيين ومن ثم العسكريين، وشقّ الطرقات وحضور البلديات وأعضاء البرلمان والثبات على هذه الأرض بكلّ الأساليب والوسائل الممكنة، متزامنة ومتلازمة مع صمود أهلنا في الضفة الغربية وغزة ونابلس، وبذل الدماء رخيصة في سبيل الحفاظ على الحق في الأرض، وفي وجدانهم وضمائرهم يصدح صوت محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”.

علاقة الشعوب القديمة والأصلية بالأرض علاقة خاصة ترتقي إلى مستوى العاطفة والروحانية؛ فهم ليسوا عابري طريق، بل هم متجذّرون على هذه الأرض لأجيال، يفهمون طبيعتها ويعيشون من خيراتها، وفي المقابل يحترمون قواعدها ويضعون الآليات والنُظُم التي تخدم الأرض والناس وتمكّنهم من الازدهار والارتقاء.

فالسكان الأصليون يعرفون طبيعة تربتهم ووديانهم وجبالهم وما يمكن لهذه الأرض أن تقدّمه، وما الذي عليهم أن يقدّموه لها، وكيف تتضاعف إنتاجياتها ويزداد بهاؤها. وهم يعاملونها كالأم الرؤوم ويحتفلون بها وتحتفي بهم، ويعيشون في انسجام واضح معها، ينعكس عليهم سعادة وعليها خصوبة وإنتاجاً.

فالمواطن الأصلي لا يقتلع نبتة من جذورها بل يقصّ القسم العلوي منها، ويترك الجذر قائماً وقادراً على التجدّد والعطاء مرة أخرى. والمواطن الأصلي يعقد أشهر سلام بينه وبين الطبيعة، فلا يصطاد في أشهر حمل الحيوانات كي يفسح لها الوقت لتحمل وتلد وتتكاثر. والمواطن الأصلي يحنو على مياهه وزرعه ويعاملهما برأفة وحنان ويتبادل معهما العطاء والخير والازدهار.

ومن هنا فإن ما يرتكبه المحتلّون ومشعلو الحروب بحق البشر والثمر ليس فقط سفكاً لدماء الأبرياء، على قدسيتها، وإنما إخلال مجرم بقوانين الطبيعة وعلاقتها بالناس المعتمدين عليها من أجل بقائهم واستمرارهم. وها نحن اليوم نلحظ جميعاً استهتار المجموعات البشرية الناشئة والطارئة بكلّ قوانين الطبيعة ونتائج هذا الاستهتار على المناخ والطبيعة وحياة البشر.

ولذلك فإن الصامدين والمدافعين عن تراب أرضهم، هم لا يصونون هذا التراب وهذه الأرض فقط، وإنما يصونون أسلوب عيش فطري ووجداني، وعلاقة سليمة ومنطقية بين الإنسان وأرضه، لا يسعد أي منهما إذا ما تسبّبت الحروب والاحتلالات بإحداث شرخ أو خلل فيها.

إنّ الصامتين عمّا يرونه ويشهدونه من افتراءات بحقّ الناس الأصليين، ومن جرائم ترتكب يومياً بحق أطفالهم وأرضهم ومواردهم مقصّرون جداً بحق العدالة والإنسانية والطبيعة ولا مبرّر لهم أبداً، لأنّ صمتهم يشكّل في الواقع  مساهمة حقيقية في استمرار العدوان والإثم والجريمة بحق البشر والطبيعة والحجر والثمر، ولا يمكن لأي منهم أن يدّعي الحرص على حق من حقوق الإنسان أو على الخضرة والطبيعة، في الوقت الذي سكت فيه عن سلسلة اعتداءات تسبّب خللاً جوهرياً بحياة الإنسان وعلاقته بالأرض ومنتجها وسلامتها واستمرارها والذي هو ضمانة أكيدة لاستمرار البشر عليها.

ومن هنا أيضاً فإن مقاومة العدوان ودحر الاحتلال وبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك، هو أيضاً تعبير عملي عن الالتزام بسلامة الأرض الأم، والاحترام لقوانينها ولوسائل وأساليب العيش عليها والتي أثبتت جدواها للجميع حين كان الإنسان يعاملها باحترام وتعاطف وعطاء متبادل.

إن المقاومة لاغتصاب الأرض والعبث بمقدّراتها يصبح واجباً أخلاقياً وضمانة حقيقية لبشرية أرقى وأنقى، ومستوى من التعامل يليق بالإنسان الذي كرّمه الله على هذه الأرض، ونفخ فيه من روحه. والحاجة اليوم ماسّة لدراسة وشرح الأبعاد الأخلاقية والإنسانية لمناهضة نزعات الحروب، واستخدام الأسلحة المستشري في عالم غربي مَرَدَ على نهب ثروات البلدان من خلال ممارسة القتل بحقّ الشعوب والجرائم بحقّ الأرض والطبيعة والتاريخ.

أنموذج المقاومة في فلسطين والجولان والجنوب اللبناني يثلج الصدور، ويَعِدُ بمقاربة تضع يد الحقّ فوق أيدي المعتدين الغزاة دائماً وأبداً، كما يعد باستعادة وصون العلاقة الفطرية الجميلة بين الإنسان والأرض وتعزيزها إلى ما فيه خير وسلامة وازدهار كليهما.

* المصدر: الميادين نت

* المقالة تعبر عن وجه نظر الكاتب