الإرهاب الاستيطاني والمقاومة الفلسطينية.. بين التّعامي والمُلاحقة
محمد هلسة*
يقوم المستوطنون الصهاينة بتصعيد إرهابهم ضد الفلسطينيين تحت العين الساهرة لقوات الاحتلال الصهيوني، فيداهمون المدن والبلدات الفلسطينية، ويحرقون ويُغلقون الطرقات ويدنّسون المقدّسات، فيما تستمر كيان “إسرائيل” وقيادتها في توصيف ما يقومون به بأنه “عنفٌ” مبرّر.
هذه الهجمات التي نشهد تزايد وتيرتها يومياً هي استمرار ونتاج سياسة طويلة الأمد، لتفادي إنفاذ القانون على المستوطنين الذين يؤذون الفلسطينيين وممتلكاتهم، وهي سياسة مشتركة بين جميع المستويات بدءاً بجنود الاحتلال في الميدان، الذين لا يمنعون المستوطنين من الإضرار بالفلسطينيين، إلى الشرطة وجهاز المخابرات “الشاباك” اللذين يمتنعان عن التحقيق في الأحداث كما هو مطلوب، إلى الجهاز القضائي الذي يُصدر أحكاماً مُخفّفةً على الجُناة من المستوطنين، وبل ويلتمس الذرائع لتبرئتهم في الحالات النادرة التي يتم اعتقالهم فيها، إلى الجمهور الصهيوني اليميني الذي يرى فيها أعمالاً هامشية مُبرّرة.
هذه الهجمات هي كذلك استمرارٌ للإرهاب المُمنهج الذي استخدمته الحركة الصهيونية ضد الفلسطينيين لإنشاء الدولة اليهودية، فالقيادات الصهيونية آمنت بمقولة إنّ هذا “إرهاب ضروري لتحقيق الهدف”. وهو بالمناسبة لم يتوقّف عند الفلسطينيين والعرب والبريطانيين فحسب، بل تعدّى ذلك إلى اليهود أنفسهم في البلدان الأخرى لدفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين، عبر ما عُرف بدائرة الهجرة في الوكالة اليهودية، واستمرت هذه الأساليب حتى في فلسطين لفرض سطوة الكيان وإنهاء الهوية والوجود الفلسطينيين.
والجيش الإسرائيلي اليوم شريكٌ أساسي في الهجمات الإرهابية التي يشنّها المستوطنون اليهود ضد القرى والبلدات الفلسطينية المحتلة، ولم يعد “يقف مكتوفَ اليدين” عندما يعتدي المستوطنون على الفلسطينيين، بل انتقل للتواطؤ مع المستوطنين خلال تلك الهجمات، وهو إرثٌ يستلمه كل قائد وكل جندي صهيوني من سَلفه. وقوات جيش الاحتلال أصبحت بمثابة قوة أمنية مسلحة تحرس إرهاب المستوطنين اليهود حتى يتمكّنوا من العودة إلى ديارهم آمنين بعد الاعتداءات التي يرتكبونها.
فقد نُقِلَ عن رقيبٍ في قوات الاحتياط خَدَمَ في جيش الاحتلال الصهيوني العام الماضي قوله: “في الإحاطات التي نتلقّاها… قالوا لنا إنه إذا أحرَقَت بلدة قُصرة الفلسطينية بساتين مستوطنة عش كادوش، فإن عش كادوش سَتردّ بإحراقها. وفي هذه الحالة، كان من الواضح تماماً أنه إذا توجّه المستوطنون نحو قُصرة، فإن علينا أن نذهب معهم حتى لا يتعرّضوا للأذى أو القتل”.
إن سياسة الجيش والشرطة والقضاء وكل أجهزة “دولة” الاحتلال هي التي أدت إلى زيادة الجرائم بحق الفلسطينيين، فالمستوى السياسي الصهيوني يعمل على تفادي المواجهات مع المستوطنين، والسماح للمتطرفين منهم بالتصرّف كما يحلو لهم في جميع أنحاء الضفة الغربية، على قاعدة التعامي والتجاهل لما يجري. وهذا ما يدعم الرأي القائل بأن الرياح التي تهب من القيادة السياسية تؤثر على الرأي العام وموقفه، لذا يزداد تبنّي الجمهور اليهودي بنسبٍ مرتفعة تعريف إرهاب المستوطنين ضد الفلسطينيين على أنه عُنفٌ هامشي مُبرّر.
والواقع أنه تقع سنوياً مئات الهجمات الإرهابية اليهودية ضد الفلسطينيين وضد حقولهم وأملاكهم، وما رأيناه في حوارة وترمسعيا وغيرهما في الأشهر الأخيرة، هي هجماتٌ مُنظّمة لمئات المستوطنين، شملت إطلاقاً للنار وإشعال حرائق قلما يجري توجيه لوائح اتهامٍ بحق أيٍ من الجُناة. وحين هاجم رئيس أركان الاحتلال والمفوّض العام للشرطة ورئيس “الشاباك” العنف اليهودي علناً وعلى استحياء، لم يُكلّفوا أنفسهم عناء بذل القليل من أجل كَبحِه ومنعه ومعاقبة الجُناة. فلا الحكومة ولا الجمهور اليهودي يقبل حقيقة أن هناك “إرهاباً يهودياً” في كيان “إسرائيل” موجّهٌ تحديداً ضد الفلسطينيين، بل يعتقدون أن هؤلاء هم مجموعاتٌ هامشية فحسب.
وكما أصَرّ قادة الحركة الصهيونية على كونهم “عائدين” بدلاً من “مستوطنين”، كي يعيدوا كيان “إسرائيل” التوراتية إلى الحياة، وكأنهم عائدون إلى بيت طفولتهم، فإنه ومن وجهة نظر كثيرٍ من المسؤولين الصهاينة مثل الوزير المتطرف متان كاهانا، لا يوجد “متنحليم” مستوطنون، إنما “متيشفييم” مُستقرون، أي لا توجد مستوطنات ولا احتلال أصلاً، هناك “هتيشفوت” استقرار، والمستوطنون في نظر غالبية وزراء الحكومة الحالية هم “ملحُ الأرض”.
وحين تُسمَعُ بعض الأصوات الصهيونية الخافتة التي تَصف هذه الأفعال بـ “العنف” أو بـ “الإرهاب” يجنُّ جنون اليمين، وينبري رموزه للدفاع عن جرائم المستوطنين. فإيتمار بن غفير يرى أن الإشارة إلى جرائم المستوطنين بوصفها “عُنفاً” هو مصطلح “مسيء” وهي “مقاربة زائفة ودعاية كاذبة”. وسموترتش يرى أن “محاولة مساواة الإرهاب العربي المميت بأعمال يهودية ضد مدنيين فلسطينيين، مهما كانت خطورتها، هي محاولةٌ خاطئة من الناحية الأخلاقية وخطيرة عملياً، والاعتقالات الإدارية بحق المستوطنين هي عملٌ وحشي وغير ديمقراطي”.
ففشل النظام الأمني في حماية المستوطنين بشكلٍ صحيح، وفق تقدير سموترتش، “قد يدفع بعضهم لأخذ الأمور بأيديهم”، حيث دعا أجهزة الأمن الصهيونية “إلى إعطاء الأولوية للقضاء على الإرهاب الفلسطيني، وتوفير الأمن بدلاً من اضطهاد المواطنين اليهود”.
وحين تكون “الدولة” داعمة وراعية لن يشعر المستوطنون فعلاً بوجود صلة بينهم وبين الإرهاب الذي يزدهر بفضل سياسة الغمز وغض الطرف، وبفضل النظام القانوني المزدوج الذي تم إنشاؤه لاستمرار الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. والواقع أن العنف جزء لا يتجزأ من كل مستوطنة؛ ربما ليس كل مستوطن هو من عصابة “فتية التلال”، لكن “التلال” لا تقف بمفردها، إنها محاطة ومحمية من قِبل الممثلين البارزين للحركة الاستيطانية، ومن قبل الأشخاص الذين انتخبتهم في كنيست الاحتلال ومرافق الدول المختلفة لتمثيلها.
في المقابل، ورغم أن الكفاح ضد القوات العسكرية المُستعمِرة نضالٌ مشروع وفق “القانون الدولي”، ووفق ما نصت عليه المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، فإن جزءاً من الدول والمؤسسات والمحافل الدولية التي تغض الطرف عن تسليح وإرهاب المستوطنين ولا تأخذ بالاعتبار الانتهاكات والجرائم الصهيونية الجسيمة، بما في ذلك نظام الفصل العنصري الصهيوني، وتغض الطرف وتمنع مساءلة كيان “إسرائيل” عن جرائمها المستمرة ضد الشعب الفلسطيني”، ترى في المقاومة الفلسطينية “إرهاباً” وتدعو إلى نزع سلاحها، وتعترف بـ “مخاوف كيان إسرائيل الأمنية المشروعة والتحديات التي تواجهها”، وتؤكّد “حقها في الوجود والدفاع عن نفسها”، وهو ما يشجّع كيان “إسرائيل” ويمنح ضوءاً أخضر لها ولمستوطنيها لارتكاب مزيدٍ من الجرائم بحق الشعب الفلسطيني.
والأسوأ من ذلك أن هذا النظام الدولي المنافق هو ذاته الذي تتغنى به السلطة الفلسطينية، وتتوسل إليه أن يحميها وأن يمنحها حقوقاً، وتقوم، وتحت ضغط إملاءاته، بملاحقة المقاومين واعتقالهم من دون أن يكون لها على الأقل موقفٌ “مُقايض” من إرهاب المستوطنين، وفق قاعدة “المصالح والمنافع” التي تحكم علاقات الدول والأنظمة السياسية المختلفة، فما الفائدة المرجوّة فلسطينياً من استمرار ملاحقة المقاومين واعتقالهم فيما يد الإرهاب الصهيوني حرةٌ طليقة تقتل وتحرق!
إن إيمان السلطة الفلسطينية بأسلوب العمل السلمي أو بالمفاوضات كطريقٍ لتحقيـق مصالح الشـعب الفلسطيني، لا يعني بالضرورة أن يؤمن الآخـرون بهذا الأسلوب الذي أثبت فشله عبر سنوات طويلة. إن النقاش الدائر حول العمل المسلح، وتأثيره على مختلف الأطراف، لـيس لـه علاقة بشرعية هذا العمل الكفاحي أو عدم شرعيته، فهذه المسألة ستظل قضـية خِلافيـة علـى المستوى السياسي والأخلاقي.
كما أن هذا النقاش، لا يـرتبط بالأضـرار البشرية أو الاقتصادية الفادحة التي تُلحِقها كيان “إسرائيل” بالشعب الفلسطيني نتيجةً لعمليات المقاومة العسكرية، بل يتعلق بالجدوى السياسية لهذا الشكل النضالي أو ذاك، مع التنويه إلى أن العمليات العسكرية أحدثت الكثير من الاهتزازات في المجتمع الصهيوني علـى مختلـف الأصـعدة الاقتصـادية والسياسية والأمنية.
المهم هو النقاش الذي يتنـاول مدى خدمة الأساليب النضالية المختلفة للقضية الفلسطينية، فعلى الرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً من المفاوضات مع هذا الكيان الذي يرتكب المجازر بحق الشعب الفلسطيني، فإنها لم تُجدِ نفعاً، ولا يلمس المواطن الفلسـطيني لا في الداخل ولا في الخارج أي تقدّم إيجابي ملموس من هذه المفاوضـات، والرئيس أبو مازن أكثر الفلسطينيين إدراكاً لهذا الأمر.
أفلا ينبغي، والحال هذه، أن يكون هناك توجّه حقيقي للخروج بموقف موحّد حيال هذه المسألة، وأن يفهم الاحتلال أن جـرائمه التـي يرتكبهـا، واسترخاص الدم الفلسطيني لا يمكن أن يُعامل بالأدوات القديمة البالية نفسها التي جُرّبت ولم نَجنِ منها سوى مزيدٍ من وقاحة المستوطنين.
إن كل تَحَدٍ جديد تمارسه وتفرضه كيان “إسرائيل” يُقابل بالامتثال لمطالبها بمواقف مُستجيبة ضعيفة، تكون نتيجته مَنحَها ومستوطنيها مكافأةً مجانية للمضي في سحق ما تبقّى من لحمنا وعظمنا، فالإرهاب الأكبر هو الاحتلال نفسه وكل شيء مشتق منه، وإراقة دماء الفلسطينيين ستتوقّف عندما ينتهي الاحتلال وكل إفرازاته.
* المصدر: الميادين نت
* المقالة تعبر عن وجه نظر الكاتب