موفق محادين*

على مدار القرون الأخيرة اتضح البعد الفكري للصراعات السياسية بصفتها صراعات بين الهيمنة الغربية باسم التمدين والعقل، وبين سائر الشعوب والأمم في العالم، والتي تقوم كل مرة باستدعاء مخزونها، روحياً وقيمياً، في مواجهة التغريب الاستعماري.

“زمن الغضب”، كتاب راهن للغاية، وسياسي بامتياز، على رغم أنه يقارب موضوعه من زوايا وشهادات فكرية على مدار القرون الأخيرة، بحيث يستحضر البعد الفكري للصراعات السياسية بصفتها صراعات بين الهيمنة الغربية باسم التمدين والعقل، وبين سائر الشعوب والأمم في العالم، والتي تقوم كل مرة باستدعاء مخزونها، روحياً وقيمياً، في مواجهة التغريب الاستعماري.

وإذا كانت ألمانيا القرن التاسع عشر أخذت مكانة القوى العالمية المقاومة للطبعة الفرنسية البريطانية من التنوير برسم الهيمنة، فإن دائرة الملامح العامة لزمن الغضب أوسع من ذلك، وتمتد اليوم إلى كل الشرق في مقابل الغزو الرأسمالي.

الكتاب يغيّب أسماء كثيرة بقدر ما يتناول أسماء أكثر، ويدخل في تناقض مع نفسه أحياناً حين يضع المحتجين في دائرة الدوغما، مع اعتراف بدورهم كلاعبين كبار وحاسمين، مثل بوتين ومودي الهندي والقيادة الإيرانية والرئيس الصيني، لكنه على وجه العموم كتاب يستحق الاهتمام، ويُلقي الضوء على مساحات واسعة وضرورية في صراع العالم في جبهة مثل الجبهة الفكرية.

يناقش كتاب “زمن الغضب”، الصادر حديثاً عن عالم المعرفة، للمفكر الهندي بانكاج ميشرا، الذي يعمل في الجامعات الأميركية، التجاذبات النظرية والسياسية والاجتماعية لفكرة التقدم وبين من قدمها كدين خلاص جديد، من أركانه العقلانية التقنية والعلمانية الجافة، وبين من تعامل معها كوهم وصنم آخر من أصنام التنوير التي جرى تعميمها (كحقائق مطلقة) ومقياس حضاري.

فيما يخص التيار الثاني، الذي حول فكرة التقدم والتنوير إلى مقياس وحيد لدخول العصر، وبرّر الاستعمار باسم التمدين، استقوى منذ البداية (بالسلطة)، وخصوصاً الأباطرة والملوك، الذين حولوا بلاطهم إلى وجهة وقبلة لمثقفي التنوير (التقدم)، مثل الإمبراطورة الروسية، كاترين، والملك البروسي (الألماني) فردريك. وتحولت (المحاكاة) لهذا النموذج إلى تيار واسع شرقاً وغرباً، فأصبحت ألمانيا واليابان مهتمتين بتقليد فرنسا وبريطانيا، وأصبح الشرق مهتماً بتقليد الغرب.

وجرى ذلك وفق خلفيات متعددة، ليبرالية أو في إطار خطابات التحرر نفسها، على غرار أتاتورك ونهور وغيرهما.

ولا يذكر الكتاب تجربة أخرى قدمتها مجالات مدرسة فك التبعية، عندما حولت التصنيع إلى (صنم جديد) للنهضة، قبل أن تلاحظ أن التصنيع من دون سياسات اجتماعية وثقافية عمّق التبعية.

وبالعودة إلى الكتاب، فإن المحاكاة المذكورة وهوس القياس بسوق السيارات والأجهزة الكهربائية والمظاهر الأخرى كانت صورة جديدة لما كتبه الروائي الروسي، دوستويفسكي، عن قصر الزجاج في لندن.

من الأشكال الأخرى غير الاقتصادية لعالم (التمدين والتقدم) عبر المحاكاة، ما سمّاه الكاتب الفرنسي بيير بايل بجمهورية الأداب العالمية، وكان يقصد بها في حينه انتشار الثقافة أو الفهم الفرنسي للتقدم والتنوير، كما رافق حملة نابليون. وكان من عناوين هذه الجمهورية الثقافية:

– ديكارت (يغيب تقريباً عن مقاربة جادة في الكتاب)، علماً بأن ديكارت يربط بين الروح والعقل.

– فولتير (سنتطرق إليه لاحقاً).

– الفرنسي الآخر، توكفيل، وذلك قبل استقراره في الولايات المتحدة، والذي ركز على (الاستعمار من أجل التمدين)، والأدق الاستعمار بذريعة التمدين. وكان توكفيل، مثل ميل الإنكليزي، من أشد أنصار استعمار الجزائر وتنويع الهيمنة الغربية وتوسيعها، بدلاً من زاوية واحدة، كما حدث خلال (الحروب الصليبية).

وكما يلاحظ كتاب “زمن الغضب”، فاللعبة المذكورة لم تقتصر على القرن التاسع عشر، إذ أخذت أشكالاً أخرى في القرن العشرين حتى اليوم، على غرار كتابات سلمان رشدي ونايبول. ومن الولايات المتحدة فريد زكريا (من أصل هندي) وفوكوياما (من أصل ياباني). فالعالم المتمدن، بالنسبة إليهما، هو العالم المتأمرك.

مثقفون يكسرون الاتجاه: الروح في مقابل التنوير
ألمانيا: على الرغم من أن الفيلسوف الألماني (كانط) يُعَدّ الأب الروحي لمفهوم التنوير، فإن ألمانيا تحولت إلى أرض الرومانسية، ولم يفطن الكتاب (زمن الغضب) للملاحظتين المذكورتين.

فعلى خلفية سياسية، تتعلق بالمسافة الواسعة بين تداعيات تفسخ الإمبراطورية الجرمانية (سلف ألمانيا) مع صعود فرنسا وبريطانيا وتطور الثقافة الألمانية في الآداب والفلسفة، بسيطرة فرنسية نابليونية، تشكل فضاء فكري وثقافي ألماني ضد النموذج الفرنسي والبريطاني للتنوير والتقدم، واتسم هذا الفضاء بخليط من الفلسفة واستدعاء الروح الألمانية وإضفاء بُعد أسطوري عليها.

وإذا كان نيتشه ذهب أكثر نحو الروح البدائية البرية في مقابل الأبولونية، العقلانية الإغريقية (الأمر الذي لم يلاحظه الكتاب أيضاً)، فإن الفلاسفة الألمان الآخرين أنتجوا أو توقفوا عند عناوين أخرى، ووفق مستويات متعددة:

– كيركفارد، في تصويره (العقل) الغربي بمثابة كهف أفلاطوني جديد محصّن بأوهام التحرر هذه المرة.

– فيخته، في خطبه للأمة، حذر من الفراغ الثقافي الذي يعمل عليه مفكرو التنوير الفرنسي البريطاني حتى يتمكّنوا من استنساخ نسخة ثقافية على شاكلتهم، مؤكداً أن الروح الألمانية تتعدى الجغرافيا الألمانية لتكون روح العالم. وأكثر من ذلك، قطع فيخته دروس تلاميذه في جامعة برلين ودعاهم إلى القتال حتى الموت أو الحرية.

– هردر، كما عدد من الفلاسفة الألمان، انتقل من الإعجاب بالثقافة الفرنسية ونابليون وفولتير إلى الاشتباك معهم، بتأكيده أن تواريخ الأمم وتقدمها لا تقاس بمعيار التنوير السائد، فلكل أمة خصائصها، وكل أمة تتحدث بالطريقة التي تفكر فيها.

– شيلر، الذي ركز على البعد الاقتصادي – الاجتماعي لحالة التنوير الفرنسية، منتقداً المجتمع التجاري وما ينتجه من عقل (غير نقدي) أقرب إلى العقل الوظيفي ونزعة التخصص.

– فاغنر، (موسيقي وفيلسوف)، فبعد جولة في باريس أخذ موقفاً من صالونات الأرستقراطيين شبه المثقفين، ومن سيطرة (الموسيقى اليهودية) عليها، وربط هذه الموسيقى وفلسفة التنوير باليهودية (بما يذكّر بموقف ماركس في المسألة اليهودية، والذي ربط تحرر العالم من الرأسمالية بالتحرر من الربوية اليهودية). وبلغ الأمر بفاغنر أن انخرط مع الحركة الفوضوية بزعامة الروسي، باكونين، وشارك في انتفاضة مسلحة في مدينة دردسن الألمانية عام 1918.

من الأسماء الألمانية المهمة، التي لم يتناولها كتاب “زمن الغضب”، كما تستحق في هذا الحقل بالذات:

– الفيلسوف الكبير، هيغل، الذي قامت أطروحته بأكملها على فلسفة الروح وانبثاقها في عالم الطبيعة وسيرورتها نحو الحضارة، الروح الموضوعي، وصولاً إلى الروح المطلق.

– ظاهرة الرومانسية الألمانية، وخصوصاً الرومانسية الشعرية، في مقابل الكلاسيكية، وتمجيدها العقل إلى حد الصنمية.

– كما يشار إلى نقد هذه الحقبة من تاريخ الفلسفة الألمانية، والذي قدمه لوكاتش في رباعيته (تحطيم العقل).

فرنسا: على الرغم من أن الفلاسفة الألمان بالغوا في ربط النموذج التنويري، الذي اشتبكوا معه، بفرنسا، فإن فرنسا نفسها ما إن دخلت مناخات تشبه ألمانيا بعد هزائمها حتى أنتجت خطابات تشبه الخطابات الفلسفية الألمانية.

ففي مقابل الرومانسية الشعرية الألمانية، أنتج الفرنسيون رومانسية روائية تستعيد العوالم المثالية والروحية في مقابل سطوة المادية الوصفية باسم التنوير والعقل والتقدم، ومن ذلك أعمال بلزاك وستاندل وشاتوبريان (عبقرية المسيحية)، ولاحقاً بيرغسون فيلسوف الحدوس، وبروست (البحث عن الأمن المفقود).

بريطانيا والمجتمع الأنغلوسكسوني: أيضاً، إن بريطانيا والولايات المتحدة، التي أنتجت مدارس الوضعية المنطقية والبراغماتية، أنتجتا فضاءات رومانسية ضد سطوة هذه الوصفية، على غرار قصائد اللورد بايرون وإليوت، الذي كتب عام 1938: إن المجتمع الأوروبي، الذي شيدناه، ليس سوى مجموعة بنوك وبورصات وشركات تأمين. وكذلك جورج سانتايانا، الذي وصف الثقافة الأميركية بالفردانية العدوانية.

آخرون: يتناول الكتاب (“زمن الغضب”) عشرات الأسماء من الفلاسفة والأدباء، الذين تجاوزوا التأصيل الصنمي الجديد للتنوير والتقدم، أياً تكنت خلفياتهم، مثل الروائي المكسيكي أكتافيوباث، المناهض لليبرالية (حائز جائزة نوبل)، ومثل الروائي الياباني ميشيما، ومثل المفكر الإيطالي سوريل، الذي يُعَدّ مصدراً لأفكار موسوليني بشأن الحرب والشرف والمجد.

ويذكر من العرب الروائي المغربي إدريس شرايبي في عمله (ورثة الماضي)، ومن آسيا الروائي الإيراني جلال آل احمد، وعمله (تسمم الغرب)، قبل أن تورطه المعارضة في دعوة إلى زيارة الكيان الصهيوني، الأكثر تعبيراً عن همجية الغرب إزاء الشرق.

يُشار إلى أن الفيلسوف الفرنسي، فوكو، قدم مقاربة (بشأن إيران بعد الثورة)، يمكن أن تكون مقاربة أساسية في تحري بحث الشرق عن مكانة داخل العالم المعاصر، بعيداً عن التأويلات التغريبية للتنوير وفكرة التقدم في نسختها الأوروبية – الأميركية. فالمنوذج الإيراني للثورة، بحسب فوكو، نموذج يتخطى النموذج الغربي من حيث ما يقدمه بشأن السلطة والمجتمع والتحديث والهوية، إذ إن (ثقافة السلطة الجديدة) ليست منبثقة من سياق شعبي عمره آلاف الأعوام، وتستند إلى تراث فكري اجتاز امتحانات عسيرة داخلية، وفي محيطه، قبل أن يستقر تقريباً على مزيج من الأفكار الإمامية ومقاربات لمفكرين مثل ابن سينا.

حالة فولتير وروسو ودوستويفسكي:
كما مر معنا، إذا كانت ألمانيا ثم روسيا هما الأرض والموطن للنزعات الروحية والرومانسية، في مقابل حالة التنوير، التي صنّمت العقل، فإن فرنسا أنتجت حالة تجاذب بين تيارين، فولتير وروسو، بالإضافة إلى الحالة الروسية عبر دوستويفسكي.

لم يتوانَ فولتير عن كيل المديح للأباطرة والملوك المتحمسين للتنوير بالقوة، مثل فردريك البروسي (الألماني)، وكاترين الروسية، كما لم يتوانَ عن مديح بورصة لندن كتتويج للمجتمع الجديد.

في المقابل، أخذ روسو ودوستويفسكي مواقف مغايرة تماماً، إذ وصف روسو باريس بمدينة الأقنعة، حيث لا وجوه. وبدلاً من أن تساهم المعرفة في تطوير العقول أفسدتها عندما ربطت هذه المعرفة بهيمنة الثقافة التجارية، التي تعيد إنتاج العبودية في شكل مستحدث لمصلحة الأقلية المالية وحكوماتها وقوانينها.

وفي نقده مديح فولتير لبورصة لندن، أكد روسو أن كلمة مالية، في حد ذاتها، تحيلنا على عبودية جديدة، وأن الأنظمة المالية ليست سوى أدوات لصناعة الأرواح الفاسدة المرتشية واللصوصية.

انطلاقاً من ذلك، شنّ حملة على الليبرالية والنسخة التنويرية منها، والتي تعيد صياغة الإنسان بمنطق التشيّؤ والسوق، وانتهى من كل ذلك إلى الخلاصات التالية:

– لا معنى للحرية الحقيقية إلّا بتحررها من تأويلات نظريات العقد الاجتماعي عند لوك وهوبز، والتي تحصرها في تداول أو مشاركة سياسية تحت سيطرة النخب.

– ربط الحرية بالألم الاجتماعي الجمعي.

– نقد صالونات باريس ومثقفيها وعوالمهم الخاصة.

– نقد المفكرين أمثال فولتير، والذين يدافعون عن استبداد الأباطرة بذريعة التنوير.

– تحذيره من السخرية بالإيمان عند الفقراء.

– تبني مجتمع إسبارطة الصارم المكتفي بذاته ووطنيته المقاتلة الرافضة للروح التجارية.

أمّا الروائي الروسي، دوستويفسكي، فبدّدت رحلته إلى أوروبا عام 1862 ما بقي من أوهام عن أوروبا (مخلصة العالم)، وتصنيم العقل والتنوير والتقدم، وكتب عن قصر الزجاج في لندن، والذي يُخفي عالماً متوحشاً من استرقاق حديث للبروليتاريا، وحرية لأصحاب الملايين مقنّعة بكثير من الأكاذيب، ومواطنة ليست سوى أقنعة لنظام ضريبي، وأرواح تشبه قطع الشمع الصغيرة.

وكتب أيضاً عن الروس المغفلين إزاء بريطانيا وثقافتها (السائحون منهم يذكّرونني بالكلاب الصغيرة التي تبحث عن أسيادها).

ما يبعث على المفارقة أن ما كتبه دوستويفسكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وخصوصاً في روايته “الشياطين”، التي غابت عن كتاب “زمن الغضب”، على رغم أنها صوت ضد الليبرالية وتصنيم العقل الأوروبي، يتكرر صداه اليوم في أعمال المفكر الروسي ألكسندر دوغين وكتاباته، ومن ذلك كتابه “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة”، الذي يتحدث فيه عن صراع بين نظامين من القيم، وليس بين نظامين سياسيين فحسب: قيم الشرق، ذات الطابع الروحي، وقيم الغرب وليبراليته، التي تزداد جفافاً وتوحشاً.

* المصدر: الميادين نت
* المقال الصحفي يعبر عن وجه نظر الكاتب فقط