أيّ ساحات؟
بثينة شعبان*
في أعقاب عيد الأضحى عظمت تضحيات الشعب الفلسطيني في مواجهة عدوان لأسوأ احتلال عنصري على وجه الخليقة اليوم، فتصدّى الشباب والأطفال والأهل بما أتيح لهم من وسائل دفاع محلية، لمواجهة آخر ما أنتجه العقل الشرير من الأسلحة الفتّاكة التي تفتك بالبشر والحجر والشجر والثمر، فلا تُبقي ولا تذر إلّا حقدها المسطّر على كلّ لبنة ودار وحقل وبستان.
وتابعنا ارتقاء الشهداء بإصابات مباشرة في الرأس من عدوّ جبان غادر، يخشى من وجود الفلسطينيين على أرضه ولو كانوا بعمر الورود، حيث لم يبلغ بعضهم العشرين عاماً، ولكنهم اكتنزوا في أرواحهم ونفوسهم كرامة وكبرياء مئات السنين، ومن كفاح الأحرار العرب من أجل الحرية والاستقلال، وعضد أولي البأس الشديد الذين لا يخشون في الله لومة لائم.
وبقدر سعادتنا ببأسهم وصمودهم، بقدر يأسنا من مجتمع يسمّي نفسه دولياً وإنسانياً، وهو إلى شريعة الغاب أقرب، يعبّر عن تأييده لمن يقتل ويسفك الدماء، ويعبث بأمن العوائل والأطفال والنساء بحجّة بحثه عن الأمن الّذي لن يجده أبداً، لأنّ خوفه نابع من عميق إدراكه ببشاعة إجرامه، ويقينه أنّ شعباً يقدّم كلّ هذه التضحيات وبكلّ هذه البسالة لن يسمح له بالبقاء على هذه الأرض، وأنّ مصير المحتلّ الغريب محكوم عليه بالفشل والخزي والعار.
ومع أنّ شعار “وحدة الساحات” قد أثلج صدورنا منذ إطلاقه والعمل به من قبل المؤمنين بأهميته، إلا أننا نشعر أنّ “وحدة الساحات” يحتاج إلى عمل وتحضير داخلي وخارجي كي يأتي أكله. إذ لا شكّ أنّ العدوّ يعمل، ومنذ اغتصابه لهذه الأرض، على بثّ الفرقة والفتنة بين الأخوة وأصحاب المصلحة في إزالته، ولا شكّ أنّ توحيد الجهود هو البلسم الشافي الذي يضاعف فعالية الدواء، ويختصر فترة الاستشفاء واستعادة الصحة كاملة.
ولكن هذا المستوى مهما كَبُرَ فهو بحاجة إلى وحدة ساحات أخرى تشدّ من أزره، وتخفّف من معاناته، وتختصر بعضاً من حاجة التضحية بشباب عقائدي مؤمن من أجل إثبات أننا هنا، وأننا لن نسمح لهم أن يمرّوا أبداً إلّا على أجسادنا الطاهرة. لماذا على الأمّ الفلسطينية أن تُضحّي بفلذة أكبادها في الوقت الذي يمكن للآخرين أن يوفّروا عليها هذا، ويحفظوا خزّان المقاومة البشري من خلال اتّخاذ موقف سليم وجريء؟
لمدّة أسبوع ونحن نتابع الصمود الأسطوري لأبطال جنين، والذين حوّلهم الاحتلال البغيض إلى لاجئين على أرضهم، فاجترحوا من المأساة أدوات لرفض الذلّ والهوان، ولإثبات الوجود والاستمرار في الدفاع عن حقوقهم في هذه الأرض التي ورثوها عن الآباء والأجداد، وعشقوا ترابها وسماءها وشجرها، وقرّروا أن يفدوها بدمائهم الطاهرة.
ولمدة أسبوع ونحن نتابع صمتاً عالمياً بغيضاً ومخزياً لمن سقطت مصداقيتهم للمرة الألف حين يخترعون القضايا الشائنة للدفاع عنها، ويديرون ويولّون ظهورهم لأطهر وأشرف وأنبل قضية إنسانية لا يمكن احترام كلمة من لا يساندها ويقف معها.
لمدة أسبوع ونحن نتابع مخيم جنين وكأنّه على كوكب آخر في عصر الإعلام السريع ووسائل التواصل الاجتماعي، وهؤلاء المؤيدون للاحتلال والقتل والدمار يصمّون آذانهم لصرخة حقّ، ويلون رؤوسهم عن المشهد الأساسي الذي يمتحن إنسانيهم وصدقهم ومصداقيتهم.
لمدة أسبوع ونحن نتساءل لو تمّ ارتكاب مجزرة بهذا الحجم بحقّ أناس من جنسيات مدّعي الديمقراطية وحقوق الإنسان ما الذي كان سيحصل في العالم، وما هي السردية التي كنّا سنقرأها ونشاهدها في نشرات الأخبار العالمية؟ وما هو المعنى الحقيقي للاستهانة بحياة عشرات الفلسطينيين، وآلام مئات الجرحى، وعدم إطلاق حتى إدانة إعلامية بحقّ مرتكبي هذه المجزرة؟
أوَ ليست هذه هي العنصرية بعينها التي تؤمن أنّ حياة البعض أهمّ من حياة الآخرين، وأنّ هناك حياة ثمينة على هذه الأرض تقوم الدنيا ولا تقعد إذا أصابها سوء، بينما يمكن تجاهل حياة آخرين كثر لأنهم لا ينتمون إلى الفصيل ذاته الذي وضع نفسه في مكانة أعلى من الآخرين.
إضافة إلى ألم الفقد والشهادة، وآلام الجرحى، فإنّ الدرس الذي نستقيه هو وجوب وحدة الساحات، ليس في فلسطين فقط وإنما في المنطقة والعالم. وحدة المصير العربي، كما يعبّر عنه المطران المقاوم عطا الله حنّا، ووحدة البشر المؤمنين بإنسانية الإنسان، ووحدة هذه الإنسانية وقيمتها المتماثلة على أيّ بقعة من هذه الأرض ولأي مجموعة من البشر.
الأمر الذي كان يمكن أن يسند مخيم جنين وأبطال مخيم جنين الذين يدافعون بتضحياتهم السخية عن العرب وعن إنسانية الإنسان في كلّ مكان، هو أن تشتعل الساحات الشعبية بالتضامن معهم، وأن يتمّ اتخاذ إجراءات على مستوى الحكومات تلقّن مرتكبي هذه الجرائم درساً بأنهم سوف يدفعون ثمن جرائمهم، وأنه لا يمكن لهذه الجرائم أن تمرّ من دون ثمن.
مع كلّ عزيمة وعنفوان أبطال مخيم جنين وأهل جنين وأهل فلسطين يجب أن تتكامل الساحات الأخرى معهم، وأن يعرف العدوّ ومن يؤيّده أنّ الشعب الفلسطيني ليس وحده، وأنّه لا يمكن أن يشنّ عدواناً وينسحب من دون أن يدفع ثمناً باهظاً، إضافة إلى الأثمان التي كلّفه إياها المقاومون الأحرار في جنين و”تل أبيب” وقلقيلية، فلا بدّ أن يدفع أثماناً لدى كلّ الحريصين على إنسانية الإنسان، والرافضين رفضاً قاطعاً لارتكاب المجازر بحقّ من يدافعون عن أرضهم وتاريخهم وحقوقهم المشروعة، والمنصوص عليها في كلّ الشرائع السماوية والوضعية.
وحدة الساحات الحقيقية هي وحدة الساحات الإنسانية، والحرص الحقيقي على حياة الإنسان التي منحها الله لنا، والتي لا يحقّ لمعتدٍ أو غاصب أن يدمّرها بهمجية سلاحه وبؤس مخطّطاته وعنصرية معتقداته. لا شكّ أنّ وحدة الساحات في فلسطين هامة ومصيرية بحيث ترتقي الأعمال إلى مستوى الأقوال، وفي كلّ مناسبة ومن دون أيّ انتظار لأنّ مخطّطات العدوّ متكرّرة ومعروفة. ولكنّ وحدة الساحات العربية والإقليمية والدولية في غاية الأهمية، لإسناد هذا الشعب وإسناد أهلنا في الجولان وقرية الغجر وكفر شوبا، وفي كلّ شبر يقع تحت إثم هذا الاحتلال البغيض.
وحدة الساحات ضرورية في هذا العصر الذي تتكاتف به القوى الحرة في العالم، والقوى المتطلّعة إلى التحرّر لنفض الإرث الاستعماري “الكولونيالي” الغربيّ البغيض عن كاهلها، وبناء أسلوب حياة قائم فعلاً على احترام الاختلاف، والاعتراف بانتماء البشر لثقافات ومعتقدات مختلفة، يجمع بينها الاحترام لإنسانية الإنسان وحقّه في الحياة الحرّة الكريمة، والمساواة بين الدول أيضاً في الكرامة، صغيرها وكبيرها، غنيها وفقيرها، رغم اختلاف ألسنتها وألوانها.
لا شكّ أنّ صمود جنين سيزيد الفلسطينيين بأساً في الجولات المقبلة، ولكن لا بدّ وأن يزيد الآخرين وعياً وإيماناً بوحدة المصير، وأنّ المدافعين عن حقوقهم في الحياة في جنين، إنما يدافعون فعلاً عن حقّ كلّ إنسان في العالم بالعيش حرّاً كريماً على أرضه، وأن يرفض الاحتلال والعدوان والذلّ والهوان، وأن يقف معه في مسيرته كلّ المؤمنين بالعدالة والحرية والديمقراطية الحقّة والكرامة المتساوية بين أبناء الخليقة.
* المصدر: الميادين نت