عمرو علان*

لا يزال الحراك الشعبي المقاوم الذي تعيشه الضفَّة والقدس المحتلة خلال السنوات الأخيرة ينتقل من طورٍ إلى آخر، فبرغم البيئة الأمنية شديدة التعقيد التي يعمل فيها المقاومون في الضفَّة، وبرغم العثرات التي يمر بها الحراك أحياناً، فإن المنحنى العام للحراك يبدو في تصاعدٍ مستمرٍ، وذلك بسبب تضافر أسبابٍ موضوعيةٍ مرتبطةٍ بتراجع الاحتلال وعوامل ذاتيةٍ فلسطينيةٍ ومستجداتٍ إقليميةٍ وأخرى دوليةٍ لا مجال للخوض فيها هنا.

يمكن عدُّ شهر يونيو 2023 فاتحة طورٍ جديدٍ للحراك الشعبي المقاوم في الضفَّة، إذ عند تمام الساعة الرابعة فجراً، من يوم الإثنين، 19يونيو، شنَّت قوات “جيش” الاحتلال عمليةً هجوميةً لاقتحام مخيم جنين، شارك فيها مئات الجنود من وحدات “غفعاتي” و”ماجلان” و”دفدوفان” و”المستعربين” و”المظليين”، تُصاحبهم نحو 120 مدرَّعة مصفَّحة.

لكن المفاجأة كانت بأنْ استدرجت “كتيبة جنين” القوات المهاجمة إلى كمينٍ محكمٍ لعبواتٍ ناسفةٍ شديدة الانفجار، تمَّ تفجيرها عن بُعد، ما أدى إلى إخراج مدرَّعةٍ واحدةٍ على الأقل من المدرعات الحديثة عالية التصفيح من الخدمة ومحاصرة طاقمها، وإعطاب آلياتٍ أخرى، ليتبع ذلك اشتباكاتٌ قويةٌ بالرصاص، وتنقلب عملية العدو الهجومية إلى محاولة انسحابٍ آمنٍ وإنقاذٍ لجنوده المحاصرين، ومجهودٍ عسكريٍ لسحب آلياته التي أُعطبت في ساحة المواجهة، وقد وصل الأمر إلى حدِّ الاستعانة بعدَّة مروحيات “أباتشي” ومقاتلة “F-16” لتأمين انسحاب جنوده، ولقد انتهت العملية التي استمرَّت قرابة 12 ساعةً بتسجيل فشلٍ ذريعٍ للهجوم وسقوط عدَّة إصاباتٍ بين صفوف القوات المهاجمة.

لم يكن فشل هجوم “جيش” الاحتلال بحد ذاته العلامة الفارقة لتلك العملية، التي اختارت لها الصحافة العبرية اسم “معركة جنين”، بل إن التطور النوعي كان في دخول سلاح العبوات شديدة الانفجار، والقابلة للتفجير عن بُعد إلى ميدان المعركة، فبرغم استخدام سلاح العبوات المتفجِّرة في الضفَّة من قَبْل ، فإن ظهور عبواتٍ أكثر تطوراً وقدرةً تفجيريةً، بالإضافة إلى اتِّباع المقاومة تكتيكاتٍ قتالية جديدة أكثر احترافيةً، استدرجت بواسطتها القوات المهاجمة إلى كمائن العبوات الناسفة، كان أمراً افتقدته الضفَّة لسنينٍ طويلةٍ، حتى إن الصحافة العبرية قد شبَّهت ما تعرض له “جيش” الاحتلال، وطبيعة العبوات الناسفة التي تم استخدامها في مخيَّم جنين، بما كان يتعرض له في جنوبيّ لبنان إبان الاحتلال.

أمَّا يوم الإثنين، 26 يونيو، أي بعد مرور أسبوعٍ واحدٍ فقط على “معركة جنين”، فقد ظهر

مقطعٌ لمحاولة إطلاق صاروخين محلِّيي الصنع من جنين اتجاه مغتصبة “رام أون” في منطقة جلبوع، وقد وصف الإعلام الإسرائيلي الحدث بأنَّه “تطورٌ خطيرٌ ومتقدمٌ”، علمًا بأنَّ جنين كانت قد شهدت محاولتين سابقتين مماثلتين على الأقل خلال الشهر المنصرم.

إن التقدُّم في طبيعة السلاح المستخدم من مجموعات المقاومة في الضفَّة، وتطور أساليبها القتالية، يفضي إلى القول بأنَّ الحراك الشعبي المقاوم في الضفَّة والقدس قد افتَتَح بالفعل طوراً جديداً في مساره النضالي.

لكن هذا التقدُّم في العمل المقاوم يفرض على المقاومة وداعميها استحقاقاتٍ ملحَّة لا بد من التوقف عندها، إذ يشير العديد من المعطيات بعد “معركة جنين” إلى احتمالية لجوء العدو إلى التصعيد العسكري في شمال الضفَّة، وضدَّ مخيَّم جنين على وجه الخصوص، ولا يعدّ هذا أمراً مفاجئاً، فالاحتلال ما انفك يُصرِّح عن قلقه الجدي من بلوغ الحراك المقاوم في الضفَّة مرحلة انتفاضةٍ ثالثةٍ شاملةٍ، ناهيك بكونه لا يحتمل أن تتطور الحالة المقاوِمة في الضفَّة إلى ما يشبه الحال في غزَّة، فكيف إذا ما وضعنا في الحسبان بعض المعلومات الاستخبارية الواردة من الأردن عن مساع جديةٍ لدى المقاومة من أجل إدخال سلاح المُسَيَّرات إلى الضفَّة؟

لذلك تعدّ المرحلة القادمة على الضفَّة في غاية الخطورة، فالحراك المقاوم فيها لا يزال فتياً، ولا يكفيه تكثيف الدعم بوسائل الصمود من مالٍ وعتادٍ فقط، بل إن المطلوب توفير شبكة حمايةٍ فاعلةٍ له داخلياً وإقليمياً، بحيث تؤمِّن له غطاءً في مواجهة تغوُّل “جيش” الاحتلال، وذلك من خلال رسم قواعد اشتباكٍ مبنيةٍ على قاعدة “توازن الردع” القائم حالياً بين العدو وبين قوى المقاومة.

بالنظر إلى موازين القوى في الحقبة الحالية بصورةٍ مجملةٍ، سواءً أكان ذلك فلسطينياً أم إقليمياً أم دولياً، يمكن القول بوجود فرصةٍ واقعيةٍ أمام الفلسطينيين وقوى المقاومة عموماً، وذلك من أجل تحقيق تقدُّمٍ جديدٍ في مواجهة العدو في ساحة الضفَّة، فتدعيم الحراك المقاوم الفتي في الضفَّة والقدس، وتأمين الحماية له ضد تغوُّل الاحتلال حتى يأخذ مداه كانتفاضةٍ ثالثةٍ شاملةٍ، بصرف النظر عن أسلوب تلك الانتفاضة وطبيعتها في هذه المرة، قادرٌ على تحقيق إنجازٍ ملموسٍ في الضفة على مستوى إنجازيّ 2000 في جنوب لبنان و2005 في غزَّة.

أمَّا في حال انكسار الحراك المقاوم الحالي في الضفَّة، فسيكون ذلك إخفاقاً استراتيجيا للمقاومة تتخطى آثاره السلبية الساحة الفلسطينية إلى باقي ساحات المقاومة في الإقليم.

لذلك، يبدو أننا على أعتاب مرحلةٍ حساسةٍ تهدد الضفَّة، تتطلب مواكبةً حثيثةً من القطاعات والساحات كافة، سواءً أكان على مستوى التحركات الشعبية الفلسطينية في الشتات، أم على مستوى تحفيز الرأي العام العربي والإسلامي، أم على مستوى فصائل المقاومة الفلسطينية وداعميها الإقليميين، لاغتنام هذه اللحظة التاريخية، ومنع العدو من تحويلها إلى إخفاقٍ استراتيجي يصيب مشروع التحرير برمَّته.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع