كيف تنظر الصين إلى “تمرّد فاغنر” في روسيا؟
شاهر الشاهر
بكين تعاملت مع “تمرّد فاغنر” في روسيا بهدوءٍ شديد وحذرٍ مُنقطع النظير، في محاولةٍ منها للاستثمار في تطورات ذلك المشهد وتحويلها إلى مكاسب.
لم يكن التمرّد الذي قاده زعيم قوات فاغنر الروسية شأناً داخلياً يخص روسيا وحدها بكل تأكيد، بقدر ما سيكون له من تداعيات كبيرة على الدول الحليفة لموسكو والمعادية لها، بمعنى أنه حدثٌ له ارتدادات عالمية فيما لو نجح ولم يتم وضع نهاية سريعة له.
موسكو يبدو أنها كانت مستعدة لمثل هكذا حدث، وإن كانت قد دأبت على الحديث عن تماسك الجيش الروسي ووحدته خلف قيادة الرئيس بوتين. إلا أنها وفي الوقت نفسه كانت تخطّط لوضع صيغة للتعامل مع زعيم قوات فاغنر وتصريحاته التي بدأت تتجاوز الحد المسموح به.
“تضخم الأنا” لدى يفغيني بريغوجين أوصله إلى حد المطالبة بتنحي وزير الدفاع الروسي، وحين تمّ رفض ذلك وصل به الحد إلى الحديث عن تغيير الرئيس بوتين شخصياً. وهذا ليس بمستغرب عن شخصية “ميليشياوية” وزعيم لمجموعة عسكرية مدنية حظيت بدعم كبير من القيادة الروسية، ونفّذت مهام كبيرة في عدد من دول العالم، لحماية المصالح الروسية في تلك الدول، مثل تأمين حقول النفط ومناجم الذهب وغير ذلك.
وذاع صيت فاغنر بعد الانتصارات التي حقّقتها في الحرب الأوكرانية، وأصبحت تحظى بشعبية كبيرة لدى الشعب الروسي، حيث كان بريغوجين ينسب كل الانتصارات العسكرية التي حقّقها الجيش الروسي إلى مجموعته (فاغنر). هذه الحالة غذت من شعبوية بريغوجين ونمّتها وأوصلته حد التوهّم بمقارنة نفسه بالرئيس بوتين ذي الشخصية الكاريزمية، والفكر الاستخباراتي القادر على جعله رجل دولة بامتياز، وشخصية استثنائية في التاريخ الروسي الحديث على الأقل.
من هنا فقد استطاع بوتين تبديد مخاوف شعبه، والدول التي تعوّل على انتصاره على القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. لقد انتزع بوتين من زعيم فاغنر عنصر المفاجأة، عبر اتقانه لـ “الصبر الاستراتيجي” على تجاوزاته، والانتظار إلى حين تصبح المواجهة لا مناص منها. وهو ما جعله ينجح في إيجاد حل سريع للأزمة فاق توقّعات أصدقاء موسكو ومؤيّديها، قبل أعدائها وخصومها.
لكنّه وفي الوقت نفسه أثار لدى العالم كله تساؤلات كبيرة، حول تلك المجموعة وطبيعة مكوّناتها، وطريقة تمويلها والمهام التي قامت بها، والتي تتحمّل موسكو بكل تأكيد نتائج تلك التصرفات.
فعلى الرغم من السلبيات الكبيرة التي تعتري تلك المجموعة، إلا أنها وفي الوقت نفسه قدّمت خدمات كبيرة للحكومة الروسية وسمحت لها بأن تكون في دول أخرى من دون الحاجة إلى موافقات معقّدة كما يحدث عادة في حال إقامة قواعد عسكرية خارجية. كما سمحت لموسكو بتقليل خسائر جيشها، حيث لا يتم احتساب أعداد عناصر فاغنر ضمن خسائر الجيش الروسي.
الكثيرون ولهول الصدمة لم يعودوا قادرين على تفسير ما حصل، أهو انقلاب حقيقي على الرئيس بوتين؟ أم خديعة نفّذها سيّد الكرملين بالتعاون مع طبّاخه لكشف العملاء من القادة في صفوف الجيش الروسي. يبدو أن الجواب كان سريعاً، والأحداث أثبتت أن بوتين تعرّض لخيانة كبيرة من أقرب الأشخاص إليه.
الحدث كان كبيراً ويمكن أن يغيّر مجريات الحرب الدائرة في أوكرانيا، بين موسكو من جهة والغرب من جهة أخرى. فموسكو ما زالت صامدة وحدها في وجه أشرس تحالف غربي وأكبر دعم عسكري يقدّم لأوكرانيا، بل استطاعت أيضاً جعل دول حلف الناتو تصل إلى حد الحديث عن شح مستودعاتها الحربية من الذخائر التي أرسلتها إلى كييف. بينما حلفاء موسكو لم يتجاوز دعمهم لها حد الحديث عن حقها في الدفاع عن نفسها، ورفض العقوبات الغربية أحادية الجانب المفروضة عليها.
لكن هذا الموقف هو المعلن فقط، والمؤكد أن تلك الدول لن تقف مكتوفة الأيدي في حال وصل الأمر حد الحديث عن خسارة روسيا للمعركة. فبراغماتية تلك المواقف تنتهي عند الحديث عن هزيمة روسيا التي تعني انتقال الغرب إلى مواجهة العدو الأكبر والأخطر بالنسبة لهم ألا وهو الصين.
بكين التي تقرأ المشهد جيداً وتتعامل معه بهدوء شديد وحذر منقطع النظير، في محاولة منها للاستثمار في تطورات ذلك المشهد وتحويلها إلى مكاسب، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. لذا فقد كان الموقف الصيني مما حدث في روسيا منسجماً مع تلك الرؤية، فابتعدت بكين عن التصريحات الإعلامية السريعة، وتجنّبت ردود الأفعال، وانتقلت إلى مرحلة الفعل السياسي والدبلوماسي حيث استقبلت نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودينكو الذي أجرى مباحثات مع وزير الخارجية الصيني.
يبدو أن بكين أرادت معرفة ما يجري بدقة، لتبني مواقفها بناء على معطيات دقيقة، نظراً لخطورة ما يحدث في موسكو على الأمن القومي الصيني. وكان بيان وزارة الخارجية الصينية الصادر يوم الأحد قد جاء فيه: “أنّ بكين بصفتها جارة صديقة لروسيا وشريكاً استراتيجياً شاملاً للتنسيق في الحقبة الجديدة، تدعم روسيا في الحفاظ على الاستقرار الوطني وتحقيق التنمية والازدهار”.
ومن الواضح أن موسكو تعوّل على الموقف الصيني لذا أوفدت مساعد وزير خارجيتها ليضع المسؤولين الصينيين بحقيقة ما يجري هناك.
لقد جاء الموقف الصيني المعلن مما يحدث في موسكو منسجماً مع مبادئ السياسة الخارجية الصينية وتوجّهاتها. فقد اعتبرت بكين أن ما يحدث في روسيا شأن داخليّ، لكنها وفي الوقت نفسه تقف مع الحكومة الشرعية في موسكو ضد أي تمرّد يزعزع الأمن والاستقرار فيها.
كما ترفض بكين التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، بمعنى أنها تدين أي دولة تورّطت في تغذية الأزمات في الداخل الروسي ومحاولة تأجيج الصراعات الداخلية فيها، للتأثير على قدرتها على إدارة الحرب في أوكرانيا.
كما أن هناك علاقة خاصة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الروسي، وهي صداقة خاصة لطالما ذكرها الرئيس شي في اللقاءات التي جمعت بين الزعيمين. حيث التقى الرئيس الصيني شي منذ وصوله إلى الحكم في العام 2012 بالرئيس بوتين أكثر من أربعين مرة، وهو ما يعكس حجم الصداقة والتفاهم بينهما.
وفي شباط/فبراير 2022، أعلن الزعيمان صداقة “بلا حدود” بين بلديهما، أي قبل أيام من بدء الحرب في أوكرانيا. كما أن بكين ما زالت تعيش حالة الغضب نتيجة للتصريحات غير المسؤولة التي صدرت من الرئيس الأميركي جو بايدن بحق الرئيس الصيني. بمعنى أن الولايات المتحدة تضع الرئيسين الصيني والروسي في خانة واحدة، لكنها أكثر عداء لبوتين ربما، نظراً لشخصيته الصدامية ودخوله في حرب مباشرة معها.
ويمكن تحديد المخاوف الصينية مما حدث في موسكو بما يلي:
– إشغال موسكو في صراع داخلي يؤثر وبشكل كبير على مجريات الحرب في أوكرانيا، وينذر بتقسيم روسيا أو إشعال حرب أهلية فيها.
– تغيّر في القيادات الروسية، وخاصة الرئيس بوتين الذي يشكّل بشخصه ثقلاً كبيراً في روسيا وتوجهات سياستها الخارجية.
– تراجع موسكو عن سعيها لكسر هيمنة الدولار الأميركي بالتنسيق مع الصين وإيران وعدد من دول العالم.
– إن أي صراع داخل روسيا سيتسبّب بمشكلات أمنية للصين التي تربطها بروسيا حدود يبلغ طولها 4300 كيلومتر.
– كما أنه سيضعف موسكو ويجعلها أقل فائدة لبكين في مواجهة الولايات المتحدة، كما أنه قد يأتي بحكومة موالية لأميركا أو مهادنة لها، وهو السيناريو الذي لا تطيق بكين حتى تصوّره.
– خسارة حليف قوي بحجم موسكو التي باتت اليوم تشكّل حاجز الصد الأول عن بكين في وجه الولايات المتحدة والقوى الغربية المعادية للصين.
– الخوف من انتقال ما يحدث في روسيا إلى دول أخرى وفقاً لنظرية الدومينو، رغم أن بكين قد تبدو الأبعد عن ذلك، نظراً لصلابة جبهتها الداخلية وتماسك حزبها وجيشها وشعبها، ووقوفهم خلف قيادة الرئيس شي جين بينغ.
كل تلك المخاوف ربما تبدّدت بعد نجاح الرئيس بوتين بحسم الموقف لمصلحته، ومن دون إراقة الدماء أو الدخول في مواجهة مباشرة مع فاغنر، فاستطاع تفويت الفرصة على الأعداء المتربّصين بموسكو. وهو ما جعل الحديث عن الهجوم الأوكراني المضاد يبوء بالفشل، بل على العكس من ذلك بدأت كييف تتهم الدول الغربية بالتأخر في تزويدها بالأسلحة المطلوبة لتنفيذ هذا الهجوم.
والأهم من ذلك كله أن كييف باتت توجّه الاتهامات لـ “إسرائيل” بالتواطؤ مع موسكو، وامتناعها عن إرسال السلاح لها. وهو الأمر الذي لم تنفه “تل أبيب”، حيث أشار نتنياهو إلى عدم قدرة حكومته على إرسال دبابات الميركافا لأوكرانيا، خوفاً من إغضاب موسكو التي باتت جاراً لـ “إسرائيل” من خلال وجودها في سوريا.
وختاماً: يبدو أن “الحالة الانقلابية” في موسكو قد لا تقتصر على قوات فاغنر، لذا فإن القيادة الروسية ستكون أكثر حزماً وحذراً، وستسعى للاستثمار في هزيمتها لفاغنر عبر حشد المزيد من التأييد الشعبي لها.
وسيكون من المفيد جداً بالنسبة لها تحقيق انتصار نوعيّ في الحرب في أوكرانيا، يرفع من معنويات الشعب الروسي ويزيد من تماسكه والتفافه حول جيشه الذي يرسم معالم روسيا المستقبل والعالم كله.
- المصدر: الميادين نت
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع