العودة إلى الزمن الفدائي
رشاد أبو شاور*
أتابع تغوّل الاحتلال، الذي يسارع إلى التهام ما تبقّى من الأرض التي بقيت تحت أقدام الفلسطينيين، والتي يتّم يوميّاً تمزيقها. والنهم والجشع الصهيونيان لم يُبقيا ما يكفي لمحافظة فلسطينية واحدة متواصلة مع قراها، مع تصاعد وحشية الاحتلال في ممارسة القتل اليومي، بالترافق مع مصادرة الأرض. وتتجلّى مخططات الصهاينة، التي تستهدف الفلسطينيين، في مصادرة أكبر مساحة، وقتل أكبر عدد من الفلسطينيين، من أجل بثّ اليأس في النفوس والعقول لعرب فلسطين وإحباطهم.
أسأل نفسي، في كل وقت، مع تواصل مصادرة الأرض، وسقوط الشهداء، وتفرّج أنظمة التبعية وأكاذيب بياناتها الشاجبة لعدوان الاحتلال على الأقصى والمصلين، وهدم البيوت: ما العمل؟ ماذا ينتظر “بعض” الفلسطينيين من المتلمظين بالمناصب، والذين ما زالوا يراهنون على إمكان قيام دولة فلسطينية مستقلة؟! وماذا ينتظر الذين يتوهّمون أنهم سيرثون السلطة ليوسعوا سلطتهم؟!
وأتساءل حتى لا يتفشى اليأس، وينقطع الأمل، ويضيع الرجاء: ما العمل – بالإذن من الرفيق لينين -؟ وأنا غير يائس، لكنني غاضب ومقهور، وأعرف أنه يوجد بيننا وحولنا من يتربصون، وكل همهم أن تدوم لهم نِعَم الوضع الراهن، غير معنيين بضياع الأرض ونزف الدم، فهم مهجوسون بطموحاتهم، أو بضيق أفقهم. وفي جوهر الأمر لا يريدون أن يعرفوا جوهر القضيّة الفلسطينية، وأنها لن تُحَلّ بالمفاوضات، والرهانات، والصفقات، واسترضاء هذا النظام وذاك بالمجاملات، كأن شعبنا وجماهير أمتنا تجهل تلك الأنظمة وتاريخها وارتباطاتها.
في هذا الوضع البائس، والأجواء التي تبدو مُحبطة، تلتمع في سماء فلسطين بروق ورعود، فإذا ما يطمئن ويبث التفاؤل، ويصعق العدو، يجدد العهد بالزمن الفدائي، فنثق بأن شعبنا العظيم لديه من هم أوفياء لروح الفدائي، ووعيه، ومضي عزيمته، ويقينه من أن فلسطين ستتحرر مهما امتدّ ليل الاحتلال، وبطشه، وظلمه، ومهما تزايدت التضحيات.
هذا ما حدث من جديد يوم الإثنين، 19 يونيو 2023، واحفظوا التاريخ جيداً، وثبّتوه، ففيه حدثت مأثرة فدائية عظيمة في مخيم جنين: مفاجأة العدو الصهيوني بتدمير آليات مدرّعة، هي من فخر صناعته العسكريّة، ومفاجأة مستعربيه وجنوده، ومحاصرتهم عبر كمين محكم، وتدفيعهم خسائر عسكرية، واضطراره إلى أن يستعين بالأباتشي، واعترافه بأنها أُصيبت، واحتياجه إلى تسع ساعات لسحب آلياته المعطوبة وجرحاه.. كم القتلى بينهم؟!
من يخوضون معارك جنين هم فدائيون يجددون الزمن الفدائي، ويدفعون الدم في طريق التحرير، ولا همّ لهم سوى مواصلة الجهاد، فلا تشغلهم سلطة، ولا صراع على مناصب، ولا استئثار بوهم الحكم، فهم اختاروا أن يسيروا في طريق فلسطين، هم ومن يترافق معهم. فهم لا يحتكرون الطريق، ولا يدّعون أنهم وحدهم سيحررون فلسطين، لكنهم يواصلون ويطورون ما بين أيديهم، ورهانهم أن الأمة ستستيقظ من غفلتها، ولن تراهن على نزاهة ضمير أميركية أو غربية، فلقد كفانا رهانات ساذجة اتكالية، فجوهر صراعنا مع عدونا أن فلسطين لنا، وأننا لن نتنازل عن حبة تراب من ترابها، وعدونا لن يكتفي باحتلال فلسطين، لكنه يريد أن يحتل قدراتنا وثرواتنا وموقعنا كأمة، وأن يستتبع كيانات هزيلة يجعلها تنفذ أطماعه على حساب خراب أمتنا، بحيث لا تتمكن من النهوض والفعل.
خيار جنين ومخيم جنين، وخيار الفدائيين الفلسطينيين المؤمنين بأن الاحتلال لا يؤمن بالسلام، وأن مسيرة أوسلو أكبر برهان، من 13 سبتمبر 1993 حتى اليوم، يكفيان لكل صاحب عقل وضمير، معنيّ بشعبه ووطنه وأمته ونهوضها وقوتها وعزتها.
وبعد ساعات من معركة جنين البطولية، صُعق العدو الصهيوني في مستوطنة عيلي، عندما اقتحمها فدائيان وقتلا الحارس، وأطلقا الرصاص على عدد من المستوطنين عن قرب، فقتلا ثلاثة آخرين، وجرحا عدداً منهم، بعضهم حالته خطيرة. وهكذا، صُدم الكيان الصهيوني وقياداته العسكرية والسياسية بهذا الهجوم في وضح النهار. وعلى رغم استنفار كل أجهزته بعد عملية يوم الإثنين التي استخدم فيها المقاتلون عبوة تزن قرابة 20 كيلوغراماً من المتفجرات نسفت مصفحة النمر، وأعطبت غيرها.
معركة مخيم جنين، واقتحام مستوطنة “عيلي”، في يومين متتالين، يبرهنان على درجة عالية من الحرفية والشجاعة والتعلّم من أخطاء سابقة استفادت منها أجهزة العدو، وراكمت خبرات ستستخدمها في معركة مقبلة على رغم كل ما يملكه العدو من تقنيات، وأجهزة مراقبة ومتابعة وتجسس على الفلسطينيين.
اعترف العدو بأن الإصابات في صفوف قتلاه كلها في الرأس، وذلك يعني أنها نُفِّذت من مسافة صفر، وفيها رسائل إلى العدو ومستوطنيه، الذين يبنون بيوتهم على حساب خراب بيوت الفلسطينيين وسرقة أرضهم.
إن كنس الاحتلال ممكن عبر المقاومة المسلحة، فلقد تم تضييع ثلاثة عقود منذ أوسلو في المفاوضات والرهانات على الوساطات، والرضا بالوعود الأميركية، بينما الأرض تضيع، والزمن يضيع، والاحتلال يقتل ويصادر ويطبّع معه!
وصف العدو أحد الشهيدين، اللذين نفذا الاقتحام الشجاع لمستوطنة “عيلي”، بأنه جامعي. فهل هناك غرابة في أن يكون المقاوم جامعياً؟! وأذاع بأن أحدهما سجين سابق! فهل يلغي السجن الصهيوني انتماء المقاوم وصلابته، ويخرجه وقد تخلّى عن قضيته؟!
هذه المعارك ليست ردود فعل، لكنها فعل يتراكم في طريق تحرير فلسطين، كل فلسطين، من نهرها إلى بحرها، ومن سيواصلون هم مؤمنون بهذا الخيار للتحرير، فلا حلول وسط في الصراع مع هذا العدو، ولا استسلام له ولأميركا من خلفه، بل المقاومة حتى النصر والتحرير.
رحم الله الشهداء الأبطال، وفي طريقهم سيمضي مئات وألوف، فهذا طريق تحرير فلسطين، ولا طريق سواه.
* المصدر: موقع الميادين نت