جنين.. القصة من الضفة الأخرى
أحمد فؤاد*
تحتاج الأحداث الكبرى الفارقة والمميزة دائمًا إلى قراءة من الضفة الأخرى، بحيث نطل على المشهد بكليته وبالمنظور الأوسع. لا تلفتنا أضواء صورة ولا جماليات مشهد واحد عن رؤية تأثير وقائع بذاتها في مسار الأمة وقضيتها وتأثيرها الهائل على مستقبلها، وما تقدمه لنا من دروس مطلوبة، وبشدة، في هذه الأيام العصيبة.
خلال يومي الاثنين والثلاثاء، قدم الشعب الفلسطيني أعظم وأكمل أمثلة الفداء والنبل، نيابة عن أمة بكاملها، في جنين ثم في نابلس، استطاعت المقاومة في الضفة الغربية أن ترسم واقعًا جديدًا ومغايرًا أمام كيان الاحتلال، وأمامنا وأمام العالم، تثبت بالبارودة وبالدم وبالأرواح أن هذا الكيان هش جدًا وضعيف جدًا، وهو أقرب إلى بالونة وهم، صنعناها نحن بخيباتنا وهزائمنا، أكثر مما صنعها هو بأساطيره الكاذبة وأبواقه.
أبطال مخيم جنين قدموا، في تصديهم للعدوان الصهيوني المتجدد، القدوة والنموذج العملي لقدرة المقاومة العربية ولإمكانيات الإنسان هنا على الفعل، المخيم الذي دمرته طائرات الكيان ومدفعيته ودباباته عام 2002، عاد إلى سيرته الأولى رأسًا لحربة الفعل الفلسطيني والرقم الأصعب أمام الكيان العاجز عن تحقيق أي نصر أو حتى ادعاءات إنجاز نصر، ومقابل أي اقتحام فإن السلاح الفلسطيني حاضر متيقظ، وتمكن من تحويل عمليات -كانت- روتينية إلى أسوأ كوابيس العدو بجيشه وحكومته ومستوطنيه في مدن مثلث النار الثلاث جنين ونابلس وطولكرم.
خسائر العدو لم تتوقف عند المعركة المباشرة في أزقة جنين وشوارعها، بل وصلت النار إلى قلبه في اليوم التالي بعملية بطولية جديدة نفذها مهند شحادة وخالد صباح في “عيلي” شمال رام الله، وأوقعوا 5 قتلى وعددًا آخر من المصابين، في مكان له أهميته الرمزية عند الصهاينة باحتضانها معهدًا عسكريًا وكونها إحدى نقاط الارتكاز في خطة ابتلاع أراضي الضفة الغربية، بما يجعلها عملية شديدة الأهمية والرمزية، ويضاعف ضرائب أوجاعها على أعصاب حكومة الاحتلال العارية.
الضفة الأخرى من حكاية المقاومة الفلسطينية الباسلة في الأرض المحتلة تجري في عاصمة عربية أخرى، ارتضى نظامها أن يلعب دور السمسار في صفقة أميركية واسعة المدى للتهدئة بطول المنطقة، وضمنها تثبيت وقف إطلاق النار عقب جولة “ثأر الأحرار”، عبر تلميع فكرة استغلال مشترك لحقل مارين البحري قبالة شاطئ غزة، 36 كيلو متر، تحصل منه حكومة الكيان على نصيب، ثم نصيب آخر من الكعكة لسلطة التنسيق الأمني، وربما تحصل القاهرة على عمولة كالعادة، ويترك الفتات الباقي من مائدة الأوغاد لمليوني فلسطيني في غزة، يعانون الأمرين من أبشع أشكال الحصار التي عرفها التاريخ.
ما يستهدفه الأميركي ومعه الصهيوني، وبعده الأتباع العرب، هو منح المواطن الفلسطيني دفعة معيشية يشعر بها ويتأقلم معها، ثم لا يلبث إلا قليلًا حتى يهندس حياته عليها، وبالتالي فإن أي قرار أو خيار للمقاومة سيكون صعبًا من جهة تأثيره المضاعف على الحياة اليومية للناس، هنا يستطيع الصهيوني أن يحكم الخناق –بشكل حقيقي ومجرد- على الشعب الفلسطيني، عبر وقف هذا المورد الجديد في أية لحظة يشاء.
والمفهوم من تقارير استغلال حقل مارين أن أغلب الأطراف التابعة للأميركي قد ألقت بثقلها وراء هذا الخيار، أو ما يسميها إعلامهم بـ”الفرصة”، ومواقف تركيا وقطر لا تبتعد في كثير أو قليل عن موقف القاهرة وعمان، واللافتة المرفوعة هي “تحسين حياة المواطن الفلسطيني”، وهم في هذا علموا أو لم يعلموا يلعبون دور خنجر الخيانة القذر، الذي يمتلئ به تاريخنا البعيد والقريب على حد سواء.
ما هو حقيقة ثابتة، ولا جدال فيها، هو أن شعبًا لا تتحسن حياته تحت حراب الاحتلال، والاحتلال الصهيوني بالذات يمثل سرطانًا مميتًا في جسد أمتنا، وهو عدو مطلق لا سلام ممكن معه، والصراع معه صراع صفري إما نحن أو هم، صراع لا فرصة فيه للنجاة سوى بإنهاء وجود طرف على هذه الأرض تمامًا ونهائيًا.
قد يتنازل أي احتلال أمام النضال الشعبي المستمر، قد يتراجع خطوة أو خطوات، لكن “الاستعمار أبدًا لن يرفع يده إلا إذا وضعت السكين على عنقه”، كما خطها فرانز فانون، في كتابه “معذبو الأرض” الصادر عام 1961، وكما تخبرنا قراءة وقائع صراعنا مع العدو، وصفحات هزائم ونكسات السلام، وحتى نكبات الحلول غير الجذرية في موقفها المبدئي من القبول بوجود الكيان من الأصل.
المقاومة الفلسطينية البطلة الواعية، في تمثيلها الأروع لفكرة غاية في البساطة المكثفة، فهمت أن العدو لن يرحل سوى بالبندقية، وثلة من عشرات أو مئات المحاصرين المقيدين، العاديين مثلي ومثلك، وبأقل الإمكانيات، قدموا طريقًا مختلفًا لأمتهم ومستقبلها، ورسموا بأجسادهم ودمائهم وأرواحهم طريق كسر وسحق كل الأساطير التي كبلتنا وأعجزتنا، مهند وخالد ومن مثلهما من أبطال الشعب العربي دهسوا في طريق مقاومتهم هذا كل ما كان يردده إعلام العار الرسمي العربي، عن الدولة المتفوقة وجيشها الذي لا يقهر. شابان في عمر التفتح سوّدا الكيان من أوله إلى آخره، ووقف جيشه وسلاحه عاجزًا عن المواجهة أو الرد، وحتى عن الاستيعاب.
ما يثبت القلب أمام المأساة التي تمثلها الأنظمة العربية، هو أن الشعب الفلسطيني باعتماده خيار المقاومة، عبر خلايا ووحدات صغيرة منتشرة بشكل كامل في الضفة بالذات، وقريبة من قلب الكيان الضعيف، قد أمسك بأول خيوط شروط التحرير، وأن كل عملية جديدة في الأرض المحتلة تقرب هذا الكيان من لحظة النهاية، كل رصاصة تحكم على هذا المشروع بالفشل في عيون مستوطنيه ورعاته الدوليين والإقليميين، وتكسر من جديد أوهام أننا لا نستطيع قهر كل مشروع أميركي يستهدفنا.
قبل أيام قال الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله إنه في أية مواجهة قادمة فإن ساحات القتال ستضيق بمئات الآلاف من المقاتلين المستعدين لمواجهة الكيان، بعد تطورات عدة على الساحة الفلسطينية، وهي قلب الصراع وأرض معركته النهائية، تثبت لنا الأحداث أن الكيان قد تحول تمامًا من استراتيجية المبادرة بالهجوم إلى تبني الدفاع، وهو في هذا وقع في مأزق لن يزيده إلا وهنًا على وهن، ووقف لأول مرة في موقع متلقي الضربات لا موجهها، وبوجه شعوب شبه عزلاء، فيخرج كل يوم من يوجه له الصفعة تلو الصفعة، وبقدر ما يقرب العدو من نهايته وفشله تقرب أيضًا الشعوب العربية، عند مستوى القاعدة، من امتلاك ثلاثية شروط النصر، الإيمان والثقة والوعي.
* المصدر: العهد الاخباري
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع