إيناس عبدالوهاب الشهاري

( تنومة الحقد الدفين) هكذا كان اسم المسلسل..

بينما كنت أُقلب قنوات الراديو….. كما هي عادتي، ومن الأمور التي أحب أن أعملها في كل صباح؛ لجميل ما يُقدم في الإذاعات الحرة التي تسعى جاهدة لتقديم كل ما هو رائع والتي تواكب الأحداث وتعيش معنا كل اللحظات الحلوة والمرة، لتطرب مسامعنا وتعزز ثقافتنا، وتسمو بوعينا لحرصها على تنوع برامجها بتنوع الفعاليات والأحداث كل يوم، ليبقى المستمع منشد ومتلهف في كل يوم ، لتلقي المزيد والمزيد وبأصوات المذيعين العذبة التي لا تصل إلينا إلا وقد مرت بكوكبة من الموظفين، فمنهم المُعد للحلقات الذي يطوف بين الأزهار لينتقي لنا أجملها، ليتلقفها المخرج ليُنقحها ويزودها بكل ما يزيدها رونقًا وجمالًا، ليستلمها المذيع ليزيد من جمالها بنبرات صوته المرتفعة حينًا والمنخفضة حينًا أخر، ليرش عليها من مشاعره وإحساسه، وبذلك يكون قد تملك وجدان المستمع الذي يغوص معه ومع كل كلمة تخرج من خلال جهاز الراديوا لتصل إليه وإلى كل مستمع محب للفائدة.
وفي يوم كان المذياع بين يدي وعند تنقلي بين القنوات شدني عنوان لمسلسل يمني اسمه (تنومة الحقد الدفين)وهو انتاج لإحدى القنوات الإذاعية الحرة إذاعة (سام اف ام) ومن قام بالتمثيل لهذا المسلسل هم مذيعي قناة (سام اف ام) ،وبالطريقة التي تأسر كل يمني محب للهجة الصنعانية، التي ما أن تسمعها إلا وتعلو روحك لتفارق جسدك لتذهب إلى صنعاء القديمة لتتنقل بين زقاق ومباني ومساجد وأسواق صنعاء القديمة التاريخية الأصيلة، بأصالة مسجدها الكبير الذي يعبر عن الولاء والانتماء الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووليه الإمام علي عليه السلام ، لتبدأ الحلقات الأولى للمسلسل، التي تعود بنا إلى ماقبل مائة وثلاثة سنوات، ليحكي لنا واقع اليمني المؤمن عندما يشتاق لبيت الله لإكمال دينه وأركان إسلامه، ليحج إلى أقدس مكان على الأرض، حتى ولو عانى مخاطر السفر التي كانت في ذلك الوقت متعبة ومرهقة ومكلفة.

إلا أن حبه لله وتلبيته لنداء الحج اجتاح به كل الصعوبات، وحين كنت أستمع للحلقات كنت أعيش مع كل تفاصيلها وتغمرني حالة من الانبهار ! والإعجاب !، انبهار بأداء الممثليين الرائع برغم أنها مجرد حلقات في مذياع إلا أنك تشعر وكأنك تراهم في مشاهد حية تحاكي كل وجدانك، وإعجاب بمجتمعك اليمني الراقي بمبادئه والسامي بأخلاقه وهويته الإيمانية، التي نفتخر بأنها من الإرث الذي ورثناه إلى يومنا هذا ، وفي كل يوم يمر انتظر لليوم التالي بكل لهفة لأستمع للحلقة الجديدة من مسلسل…… ( تنومة الحقد الدفين) التي كانت تأسرني أحداثها لأعيش معها قصة الحُجاج وكيف تمت التجهيزات والإعداد للسفر، والعادات التي يقوم بها اليمنيون قبل الذهاب للجح، من بينها عادة قديمة ومسلية في صنعاء القديمة وهي إعداد وربط ما يسمونها (بالمدرهة أو المدريهة عند البعض الآخر) ليتأرجح عليها الحاج قبل توديعه وهم ينشدون له بعض الأهازيج الشعبية الجميلة والمعبرة ، ولتبقى معلقة ليتسلى عليها الأطفال ومن أراد إلى حين عودة الحاج، معتقدين بأن المدرهة(الأرجوحة) إذا اقتطعت فذلك نذير شؤم على الحاج.

والأهم من ذلك كله استشعار أهمية هذه الفريضة التي يتلاشى أمامها كل شيء في الدنيا أمام علاقة الإنسان بخالقه ليبقى في وجدانه وعلى لسانه شيء واحد_تلبية الواحد الأحد، وهو يعي مقاصد الحج والوظيفة الأسمى لهذه الشعيرة، ليُعد الحاج نفسه قبل الرحيل ليطهر قلبه ويزكي روحه بالتعهد إلى الله بتنقيتها من كل الذنوب، ويصفي ماله من كل حرام ويوفي دينه ويزور أرحامه، ويطلب العون من الله، وبدعوة خالصة من كل المحبين يبدأ مشواره، ليكون ضمن موكب جليل من الحجاج الذين بلغوا في ذلك الوقت ثلاثة آلاف حاج وحاجة وبينهم مجموعة من الأطفال،
فكان سناريو المسلسل يوضح الحالة التي كانت بين الحجاج من المودة والألفة والتعاون والإحسان فيما بينهم، لكي نتعرف على أصالة اليمني الشهم الحر الذي يُقدم الخير والعون لمن حوله وفي أقسى الظروف وكأنهم أسرة واحدة، كيف لا تكون هذه صفاتهم وهم أحفاد الأنصار الذين قال الله فيهم (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ ) إلى هنا كنت سعيدة وأنا أواكب الأحداث وكأنني قد أوثقت رحالي وعقدت الرحيل وكنت رفيقة سفرهم، إلى أن تغيرت النبرة وتسلل القلق في الوقت الذي اخترقت أحلام الشؤم لأحد الحجاج المعروف عنه بالورع والتقوى، التي توحي بأن هناك من يتوجس لهم الشر وينوي بهم الغدر، فكان الشعور بالخطر يقترب… لتبعده النويا الحسنة والظن الطيب، فليس من الإنسانية ولا في الأعراف ولا يوجد مبررًا في الدنيا أن يُستهدف حجاج مسالمين قاصدين بيت الله مهللين محرمين ملبين، حتى في أيام الجاهلية كان للحُجاج مقامهم فالمعروف منذ القدم هو الإعتناء بالحجاج وتقديم الخدمات لهم وضيافتهم على أعلى مستوى.

ولنعود إلى المسلسل الذي لم ينسَ القائمين عليه إدخال الطرفة والأحداث المثيرة عليه، التي تجذب المستمع وتأسر قلبه.

ومن المعروف أن يكون في المسلسل من يتقمص الأدوار والشخصيات لتُفهم الأحداث، ولهذا ومع مرور الحلقات بدأت أسمع لهجة مختلفة عن اللهجة اليمنية وإذا بها لهجة لمجموعة من العسكر المنتمين لجيش الأمير [ خالد بن محمد] ابن أخ الملك عبد العزيز آل سعود الذي كان يحكم السعودية آنذاك وكانوا يعرفون ب (الغُطغُط) والمعروفون ب(أخوان من أطاع الله) وهي جماعة وهابية أسسها عبدالعزيز آل سعود.

وبدأت تنسدل عبرات تحمل الضغينة والحقد والكراهية والطمع والجشع من أفواه أولئك الأوغاد الذين كانوا يلاحقون موكب الحجاج للتجسس عليهم ولمعرفة كل ما يحملون معهم من مؤونة ومال وخير.

في الوقت الذي كانت أوضاع الحُجاج على ما يرام وكانت تعلو أرواحهم المشاعر الروحانية وكان يرافقهم التهليل والتكبير والأناشيد الدينية، وكانوا يتبادلون الأحاديث والضيافات والزيارات في ما بينهم وهم في اطمئنان وراحة بال، حتى خروجهم من المناطق اليمنية وبداية دخولهم إلى مناطق كانت تحت حكم آل سعود، وإلى وصولهم إلى عسير كانت الأحداث تشتد، وتشتد معها أعصابي وينقبض لها قلبي، فكانت هذه الجماعة التكفيرية المنتمية لعسكر آل سعود تحمل عقائد باطلة تكفيرية، تكفر الآخرين لتبيح قتلهم ونهب ما معهم بمبرر أنهم مشركين!

فعلى كل عاقل أن يقف هنا للتفكير كيف أن من يترك أهله وأحبابه وكل الدنيا وما تحمل من مغريات وراءه، طاعةً لله واستجابةً لأوامره، رغم كل ما سيعانيه، كيف به أن يكون مشركًا؟ لكن عندما تستحوذ على الإنسان الأهواء والأطماع، يتحول إلى شيطان بل إلى وحش كاسر لايمتلك أي مشاعر، ولا تردعه أي مبادئ ولا دين ولا أخلاق ولا أعراف وهذا ما كانت عليه الجماعة التكفيرية المنتمية لجيش آل سعود.

فقد أتقن من تقمص هذه الشخصيات التمثيل حتى أن المستمع يعرف الدرجة التي وصل إليها هؤلاء التكفيريون من خلال طريقة كلامهم المعبرة عن نفسياتهم الخبيثة وكيف كان طمعهم الذي سال له لعابهم لما لدى الحجاج من المال والمؤونة التي يحتاجونها في تغطية احياجاتهم أثناء سفرهم.

ونجح المسلسل في إبراز طبيعة هؤلاء المتعطشين للدماء والقتل لا لشيء إلا للتلذذ بالقتل والنهب.

وكل ما كان الحجاج يقتربون من المناطق التي تحت حكم آل سعود إلا وتزداد الخطورة عليهم لما يحاك ضدهم من مؤامرات توحي بالشر، فكانت الجماعات التكفيرية المنتمية للفكر والثقافة الوهابية والتي كانت بقيادة الوهابي (سلطان بن بجاد العتيبي ) تلتقي مع أميرها للتخطيط على الحجاج العزل لقتلهم ونهب ما معهم.

وعرفت من خلال أحداث المسلسل وجود شخصيات بين الحجاج من العلماء الأجلاء أحسوا بالخطر وأن هناك حركات مريبة من جماعة غريبة ولعلمهم بالوهابية وطبيعتها التكفيرية اتفقوا في ما بينهم أن تذهب مجموعة منهم للإطلاع وزيارة قائد هذه الجماعة التي رأوا منهم ما يريبهم فأرادوا التعرف على نوايهم، وعند لقائهم وصل بهم الحديث إلى أن أخذوا منهم العهد أن لا يتقربوا من الحجاج بأي سوء، وكانت الجماعة التكفيرية الوهابية قد قطعت لهم العهد على ذلك.

لكن عندما يعمي الطمع القلوب ويسيطر الخبث على النفوس، تطغى على الإنسان الصفات الشيطانية وهذا ما كانت عليه هذه الجماعة الخبيثة فلم يكن لديهم لا عهد ولا ذمة، فبمجرد وصول الحجاج إلى وادي تنومة وهي منطقة في عسير، ظهرت النوايا التي لم يحسب لها الحجاج حساب، وطغى طوفان الشر المقيت الوحشي ليُفاجأ الحجاج العزل بتمركز سرية من جيش آل سعود التكفيرية على قمم الجبال وهم مسلحين، ليحدث مالا يحمد عقباه.

تبدلت الأجواء الروحانية والهدوء والسكينة التي كان يعيشها الحجاج فجأة إلى حالة من الرعب والفزع لهول ماحدث فقد بدأ ناقوس الخطر يدق من أول حاج سقط قتيلًا مغمورًا بدمه على الأرض، فقد عقد هؤلاء الأنجاس أن يقتلوا الجميع دون استثناء، فبدأت تنهال عيارات الرصاص من أعالي الجبال على ثلاثة ألاف حاج فكان يسقط الواحد تلو الآخر وهم ينظرون لبعضهم البعض والتساؤلات تملأ أنفسهم لماذا وما الذي جنيناه ليصنع بنا هذا الجرم الشنيع؟ وكان التكفيريون لا يميزوا بين رجل أو إمرأة ولا كبير أو صغير فالكل بنظرهم غنيمة وقربان يتقربون بقتله إلى الله!
وقد حرصوا أن لا ينجو من شرهم أحد ونزلوا من على الجبال ليحتزوا الرؤس ويُفصل الرأس عن الجسد، ولم ينجو منهم إلا من توارى عن الأنظار ولم يستطيعوا كشفه أما من حاول الدفاع عن نفسه أو عن الحجاج كان أول من يستهدف.

جريمة نكراء من شناعتها يخيل للمستمع بأنها ضرب من الخيال ولا يمكن أن تحدث على أرض الواقع ، وهل هناك على الأرض بشر يقدمون بمثل هكذا جريمة بشعة؟ فأكيد من يقترف مثل هذا الجرم فقد انسلخ عن الإنسانية ليتحول إلى مسخ في هيئة إنسان.

ولكن للأسف أن حادثة تنومة وقعت فعلًا قبل مائة وثلاثة سنوات، وهي بالنسبة لكل يمني جرح غائر ومظلومية لابد من الثأر لها من الجناة ولن تسقط بالتقادم، رغم محاولتهم إخفاء هذه الحادثة المروعة في حق الحجاج العزل وتنصلهم عن الجرم بزعمهم أنهم ظنوا أن الحجاج جيش جاء لإسناد الشريف حسين إلا أن هذا لن يحميهم من العقاب.

آل سعود أوغروا صدورنا قديمًا وحاضرًا بتكرارهم لجرائمهم على شعبنا وقتلهم للأبرياء، وما جاء من فعلهم البغيض بإعلانهم لتبني الحرب علينا وقيادة التحالف الذي قتل وشرد وظلم الكثير من شعبنا، وهدم كل ماهو جميل على أرضنا.

ولكن نعدكم أيها الأوغاد أن أسلحتنا التي ما زالت بأيدينا والتي تجرعتم منها بأسنا ونالتكم في عمق دياركم أنها لن تترككم، إلا إذا خضعتم لسلام مشرف وأنهيتم حصاركم وانسحبتم من كل شبر بأرضنا وتعهدتم بالتعويضات عن كل ما اقترفتموه في حقنا، أو كما يُقال في المثل اليمني: الوجه من الوجه أبيض.

وقد أعذر من أنذر.