فرنجية والخيار المسيحي… ما بين اغتيالين
بثينة عليق*
إصرار آل فرنجية على العلاقة المميزة مع سوريا كتجسيد لقناعتهم بالبعد العربي للوجود المسيحي في لبنان هو أحد أسباب كراهية الموساد لهم.
يبدو أن ما يتعرض له الوزير سليمان فرنجية هذه الأيام من رفض قوى مسيحية لبنانية له كمرشح طبيعي للرئاسة هو بمنزلة محاولة اغتيال سياسي له. الأسباب عديدة ومعقدة ومركبة، يتداخل فيها الشخصي بالسياسي بالتاريخي، لكن ما هو مؤكد أن هذه القضية متعلقة بموقع المسيحيين في هذا البلد، وموقفهم من ثلاث قضايا أساسية هي: الموقف من الغرب و كيان “إسرائيل” تحديداً، والعلاقة مع سوريا وقضية وحدة لبنان.
هذه العناوين ليست وليدة اللحظة الراهنة. إنها مسار تمظهر تاريخياً بأشكال متعددة ومتنوعة. فقد انقسم المسيحيون تاريخياً وفي أكثر من محطة وفق اتجاهين:
الأول: مشرقي يقول إن المسيحيين جزء من المنطقة ونسيجها الاجتماعي
والثاني: غربي يعدّ المسيحيون بمنزلة الخط المتقدم للغرب في هذا الشرق، ووظيفتهم مواجهة المدّ الإسلامي. ذهب هؤلاء إلى حدّ إنكار أصولهم العربية والترويج لسردية الأصول الفينيقية.
الانقسام الحاد في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي لم يكن الأول، وما جرى في 13 حزيران/يونيو 1978 ليس الأخير. لكنّ الحدثين معبّران ومفصليان. ففي العام 1282، إبان الوجود الصليبي في لبنان، انقسمت الكنيسة المارونية، ما أدّى إلى انتخاب بطريركين على خلفية الموقف من الصليبيين.
هذا ما أكّده المؤرخ كمال الصليبي في دراسة له حول القضية، إذ أشار إلى أن هذا الانقسام “كان في جوهره خلافاً سياسياً بين موالاة للغرب وبين ميل إلى نوع من استقلال الموارنة وعدم انجرافهم في التبعية الغربية”. وقد أورد الأباتي بولس نعمان هذه الرواية في كتابه “المارونية في أمسها وغدها” يقول نعمان: “في العام 1282 انتخب الموارنة بطريركين: لوقا البنهراني زعيم الخارجين عن طاعة الفرنجة كسلطة سياسية ودينية، وآرميا الدملصاوي الموالي لروما والفرنجة”. وقد انتهى هذا الانشقاق نهاية تراجيدية تمثلت باختفاء البطريرك الخارج عن طاعة روما بطريقة مريبة.
ويبدو أن المآلات المأساوية ستتكرر على خلفية هذا الانقسام. مقتل آل فرنجية عام 1978 إحدى أبرز المحطات في هذا السياق. في ذلك العام، كانت ترجمة الانقسام التاريخي تتمحور حول عناوين مرتبطة بالمرحلة وغير منفصلة عن السياق التاريخي: اختلف المسيحيون مجدداً حول العلاقة بالغرب ومع “إسرائيل” تحديداً.
يقول ريشار لا بيفيير في كتابه “مجزرة إهدن أو لعنة العرب المسيحيين”، الذي وثق كل الظروف المحيطة والمسببة للمجزرة التي أودت في 13 حزيران/يونيو 1978 بحياة طوني فرنجية وزوجته وابنته وثلاثين من أنصاره: “إن دم إهدن… سجل التعارض المديد بين المسيحيين المنادين بانتمائهم إلى العالم العربي والمسيحيين الذين اختاروا كيان إسرائيل”.
على هذه الخلفية، ارتكبت مجزرة إهدن التي هدفت إلى شطب آل فرنجية من المعادلة السياسية اللبنانية.
تؤكد الوثائق التاريخية أن من الأسباب المباشرة التي دفعت بشير الجميل، الذي كان رمزاً لما يسمّى بالمسيحيين الانعزاليين إلى اتخاذ قرار الاغتيال، رفض طوني فرنجية المشاركة في اجتماع يضم الجميل وشمعون مع الصهاينة.
يتحدث لا بيفيير عن أن “الشرخ الذي حصل في شتاء 1978 كان مميتاً. ففي أثناء اجتماع عقدته الجبهة اللبنانية يوم 21 كانون الثاني/يناير 1978 برز أحد التناقضات الرئيسية بين مسيحيي لبنان، وكان ذلك الاجتماع آخر اجتماع يحضره الرئيس فرنجية الذي انسحب رسمياً من الجبهة في 11 أيار/مايو. في أثناء النقاش مع عائلتَي الجميل وشمعون، رفض طوني بصورة جذرية كل نوع من التعاون مع كيان إسرائيل”.
لم يكتف طوني فرنجية برفض الدور الصهيوني في لبنان بل ذهب أبعد من ذلك بانتقاده العلني لاتفاقية الصلح المنفرد بين مصر و كيان “إسرائيل”. يذكر لا بيفيير في كتابه أن طوني فرنجية لم يكف عن التحذير من “أن اتفاق كامب ديفيد سيتحقق على حساب لبنان”.
ويتابع لا بيفيير أن هذا الموقف المتشدد الشديد العداوة للاتفاقية “جعل من طوني فرنجية واحداً من الأعداء الرقم واحد للأجهزة السرية الصهيونية في لبنان”.
وقد كشف الصحافي الصهيوني أوري دان في كتابه “الموساد خمسون سنة من الحرب السرية” عن دور صهيوني مباشر في التحضير لمقتل طوني فرنجية. وفي سياق حديثه عمّا سمّاه “مهمات تعاون” ينظمها الموساد مع عائلتَي الجميل وشمعون، يذكر الكاتب أن “الموساد كان يأمل من خلال لعب ورقة بشير الجميل أن يصنع كامب ديفيد ثانياً أي عقد صلح منفرد بين كيان إسرائيل ولبنان مسيحي يسيطر عليه حزب الكتائب. لذلك، لم يرفض الموساد أي طلب تقدم به بشير الجميل من أجل مساعدته في الوصول إلى الحكم بما في ذلك الاغتيالات لأشخاص محددين من المنافسين الذين قد يقفون حجر عثرة في طريقه. كان طوني فرنجية واحداً من هؤلاء، ولا سيما أن الموساد كان لا يحب عائلة فرنجية”.
يمكن استنتاج أن إصرار آل فرنجية على العلاقة المميزة مع سوريا كتجسيد لقناعتهم بالبعد العربي للوجود المسيحي في لبنان هو أحد أسباب كراهية الموساد لهم.
خاصة أن هذه العلاقة جاءت لتشكل مساراً معرقلاً لمحاولات إلحاق لبنان بالفلك الصهيوني. وقد عبّر طوني فرنجية بوضوح وفي أكثر من مناسبة عن رؤيته لدور سوريا وأهميته بالنسبة إلى اللبنانيين عامة والمسيحيين خاصة.
في مقابلة أجرتها معه مجلة “الجمهور” في نيسان/أبريل 1978 قال: “إن القوات السورية دخلت لبنان كي تساند المسيحيين من جهة، ولأن الرئيس الأسد لن يرضى أبداً بخلق كيان إسرائيل ثانية في الشرق الأدنى”.
ويضيف طوني فرنجية “أن طوابير خامسة دخلت على الخط للحط من قيمة هذه القوات، وأن الأجهزة السرية الصهيونية شكلت البنية الرئيسة لهذه الطوابير”.
أما التمسك بوحدة لبنان فقد عبّر عنها طوني فرنجية أيضاً بوضوح ومن دون أي مواربة: “إنني ضد التقسيم…كل ما فعلناه في الشمال كان حقاً ضد تقسيم لبنان. نحن مستعدون للتضحية بحياتنا لأجل منع كل نوع من أنواع تقسيم بلادنا”.
لم يكتف آل فرنجية بالشعارات في هذا المجال. بل ذهبوا إلى عقد الاتفاقيات والمصالحات مع شركائهم في الوطن من غير المسيحيين، وأهم تلك المصالحات كان مع أبرز رؤساء حكومات لبنان في تلك المرحلة، رشيد كرامي الزعيم الطرابلسي السني، ما فاقم من انزعاج وغضب حاملي مشروع التقسيم والكانتونات. وقد عبّرت صحيفة “السفير” في عددها الصادر في 19 أيار/مايو 1978 عن هذه المسألة بالقول: “إن ثمة حدثاً أخيراً عمّق القطيعة، وأثار غيظ أنصار التقسيم هو المصالحة الشمالية بين الرئيسين فرنجية وكرامي. هذه المصالحة كانت تعني خروجاً حقيقياً من حرب السنتين؛ لأنها أعادت الأواصر بين مسلمي طرابلس ومنطقتها مع مسيحيي الشمال مقدمة بذلك تكذيباً ملموساً للانقسام الطائفي الذي تشجعه كيان إسرائيل”.
كل هذه المواقف كانت أحد تعبيرات المشروع المناقض لما سمّي في تلك الفترة بـ”المشروع الانعزالي المسيحي” الذي كان يمثله حزب “الكتائب”، مهندس مشروع العلاقة مع كيان “إسرائيل”، وقد كشف العديد من الكتب تفاصيل هذه العلاقة التي لم تخل من الحميمية والتأثر الشديد.
عرف عن بشير الجميل وهو القائد الفعلي لهذا الحزب أنه استلهم شعار “توحيد البندقية المسيحية”، الذي قتل طوني فرنجية في إطاره، من تجربة توحيد العصابات الصهيونية عام 1948 بهدف إنشاء “الجيش” الصهيوني، ولم يخف الجميل إعجابه بهذه التجربة. يروي آلان مينارغ في كتابه “أسرار الحرب اللبنانية” أن بشير الجميل تفاخر أمام بيغن في أحد لقاءاتهم بإطلاقه اسم “التالينا” على إحدى عملياته العسكرية التي أودت بحياة 70 مقاتلاً من حزب “الأحرار” في 7 تموز/يوليو 1980 نسبة إلى اسم السفينة التي كان عليها بيغن في العام 1948، والتي استهدفت من أجل الدمج القسري لعصابات الهاغانا والآرغون وشترن ليهي في “جيش” واحد.
ويضيف لا بيفيير في السياق نفسه أن بشير الجميل لم يكتف بخطيئة التحالف السياسي مع “إسرائيل” بل ذهب إلى “اعتناق تقنيات الموساد في الاغتيال السياسي الموجّه”.
لكن حسابات البيدر لم تتوافق مع حسابات الحقل. وإذا كان الاغتيال السياسي يرتكب من أجل إحداث تأثير سياسي يعدل مسار التاريخ، فإن قتلة طوني فرنجية وعائلته فشلوا في تحقيق مرادهم. ولكن أصحاب المشروع يحاولون مجدداً.
اليوم، بعد مرور 45 سنة على المجزرة، يعمل فريق على اغتيال سليمان فرنجية سياسياً. تنخرط أطراف مسيحية عديدة في محاولة إقصائه، وقطع الطريق على وصوله إلى الرئاسة ورفض كونه مرشحاً رئاسياً طبيعياً. يعمل هؤلاء أو بعضهم على الأقل على إحياء المشروع الانعزالي التقسيمي نفسه. وإحدى أدواته رئيس للجمهورية يكون مطية لتمرير مشاريع الفدرالية والتطبيع وتموضع لبنان من جديد في المشروع الغربي- الصهيوني.
من هنا، تكمن أهمية الانتخابات الرئاسية ومفصليتها للبنان وللمسيحيين. هذا ما أشار إليه الوزير فرنجية في ذكرى مجزرة إهدن عندما أثار نقطة مهمة تتعلق بتخويف المسيحيين؛ بهدف جعلهم وقوداً لمشاريع التقسيم والتقوقع التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من التدمير الذاتي.
وحده خيار “الاستقلال وعدم الانجراف نحو التبعية للغرب” يشكل ضمانة وسياجاً للمسيحيين ولدورهم وبقائهم ووجودهم. ففي حين قاد الخيار الآخر المسيحيين إلى حروب الاقتتال وإلى المآسي في زحلة وشرق صيدا والجبل، حافظ المسيحيون على وجودهم واستقرارهم وحرية قرارهم السياسي في الشمال بسبب حكمة الرئيس سليمان فرنجية وعلاقته مع سوريا ومع آل كرامة في طرابلس.
إن هذه اللحظة الحساسة التي يمر بها لبنان تحتاج إلى هذا المسار، وإلى رئيس جمهورية يؤمن بهذه الرؤية، وهذا ما يرى مؤيدو فرنجية أنه ينطبق عليه. أما التأخير فينطوي على هدر الفرص وجنوح نحو المخاطرة.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع