عن الولادة المتعثرة لنظام عالمي جديد
حسن نافعة*
يشهد النظام الدولي تغييرات جذرية تدفعه إلى التحوّل من نظام “أحادي القطبية”، تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية والغرب، إلى نظام “متعدد القطبية”، تقوده قوى عالمية وإقليمية تعكس بشكل أفضل موازين القوى الراهنة على الساحة الدولية، وهي تغييرات لم تحدث فجأة وإنما تراكمت تدريجياً، بفعل الطبيعة الديناميكية للنظام الدولي، إلى أن وصلت الآن إلى مستوى يؤهلها للتطلع إلى تغيير نوعي في شكل النظام الدولي السائد حالياً ومضمونه.
صحيح أنه ما زال يحمل معظم سمات وخصائص النظام الذي تشكل في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن دلائل كثيرة باتت تشير إلى أنه لم يعد قادراً على الصمود والاستمرار فترة طويلة قادمة، فقد أصبح انهياره مسألة وقت. لذا، يمكن القول بثقة إن العالم يمر الآن بمرحلة انتقالية تتسم بتصدع مؤسسات النظام السائد وانهيار قواعده وقيمه وبزوغ نظام عالمي بديل لم تتحدد معالمه بعد.
حين انهار جدار برلين عام 1989، تبيّن أن النظام الدولي ثنائي القطبية لم يعد قادراً على الصمود، على الرغم من أن الاتحاد السوفياتي نفسه لم يكن قد سقط أو تفكك رسمياً في ذلك الوقت. بعد ما يقرب من عام واحد، أقدم صدام حسين على احتلال دولة الكويت، وضمّها إلى العراق بالقوة المسلحة، مسهماً بذلك في صنع الحدث التاريخي الذي مهد الطريق لبروز نظام دولي جديد. فقد انتهزت الولايات المتحدة الفرصة التي أتاحتها هذه الأزمة للمسارعة إلى تشكيل تحالف عالمي واسع، التأم حول شعار البحث عن “نظام عالمي جديد تلعب فيه الأمم المتحدة الدور الرئيسي”.
ولأنها كانت تدرك جيداً أن موازين القوى السائدة في ذلك الوقت لا تسمح إلا بنظام أحادي القطبية، فقد نجحت في إدارة أزمة احتلال الكويت بطريقة مكّنتها من التعجيل بسقوط الاتحاد السوفياتي. فالولايات المتحدة كانت ما تزال تهيمن على ما يقرب من 40% من الاقتصاد العالمي، ولديها ميزانية عسكرية تزيد على إجمالي ميزانيات الدول العشر التالية لها على سلم النظام الدولي، لذا فقد كان من الطبيعي أن تصبح هي الدولة الوحيدة المؤهلة لقيادة النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وهكذا راحت الولايات المتحدة تستخدم الأمم المتحدة نفسها كأداة من أدوات سياستها الخارجية، وتستخدم حلف “الناتو” أداة لمحاصرة روسيا ومنعها من استعادة نفوذها القديم على المسرح الدولي. ولأن الصين لم تكن تشكل منافساً جدياً لها في ذلك الوقت، حيث كانت قد بدأت بالكاد تضع قدمها على طريق التنمية الشاملة، فقد تصورت الولايات المتحدة أن الطريق أمامها بات خالياً تماماً للشروع في إحكام سيطرتها المنفردة على النظام العالمي.
وفي سياق كهذا منحت نفسها حق الانفراد بإدارة المفاوضات المتعلقة بالبحث عن تسوية للصراع العربي-الإسرائيلي، واستغلت أحداث سبتمبر عام 2001 لشن “حرب عالمية على الإرهاب” ولتبرير احتلالها لكل من أفغانستان والعراق في عملية استعراض غير مسبوقة للقوة العسكرية، بل وراحت تهيئ نفسها لكي يصبح القرن الواحد والعشرون قرناً أميركياً بامتياز.
بعد أقل من 3 عقود على ممارستها سياسة الهيمنة المنفردة على النظام الدولي، بدأت مكانة الولايات المتحدة النسبية في التراجع، فهي لا تسيطر حالياً إلا على نسبة من الاقتصاد العالمي لا تتجاوز 20%، وتحولت استعراضاتها العسكرية إلى عملية استنزاف متواصل على الصعد الاقتصادية والسياسية والأخلاقية، ما أجبرها في النهاية على الانسحاب التدريجي من منطقة الشرق الأوسط، كي تتفرغ لمواجهة تحديات أخطر في مناطق أخرى من العالم.
بالتوازي مع هذا التراجع الأميركي المتواصل على سلم القوة الشاملة، شهد النظام العالمي صعوداً لافتاً لقوى دولية وإقليمية، كروسيا والصين والهند وإيران والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها. وعندما وصلت حالة الحراك الدولي إلى نقطة باتت تشكل تهديداً للنظام أحادي القطبية، بدأت الأزمات تتفجر تباعاً على الساحة الدولية، كاشفة عن عجزه عن الوفاء بالحد الأدنى من متطلبات السلم الدولي، وباحثة عن نظام دولي جديد أكثر قدرة على تحقيق الاستقرار العالمي، وهو ما يفسر الظهور المتوالي لثلاث بؤر متداخلة للتوتر: فهناك بؤرة توتر أوروبية يجسدها الصراع الدائر حالياً على الساحة الأوكرانية، وبؤرة توتر آسيوية يجسدها الصراع الدائر حالياً حول تايوان، وبؤرة توتر شرق أوسطية يجسدها الصراع الدائر حول برنامج إيران النووي.
بين هذه البؤر الثلاث قاسم مشترك يمثله وجود الولايات المتحدة كطرف أصيل فيها جميعاً، ما يؤكد تداخلها، من ناحية، وارتباطها جميعاً بالصراع الدائر على قيادة النظام العالمي، من ناحية أخرى.
لم تظهر بؤرة التوتر الأوروبية، والتي تجسدها الحرب الدائرة حالياً على الساحة الأوكرانية، فجأة، وإنما تسببت فيها سياسات أميركية قديمة استهدفت محاصرة روسيا واحتواءها عبر توسع حلف “الناتو” شرقاً، وسبقتها جولتان من الصدام المسلح، الأولى جرت عام 2008 على ساحة جورجيا، وانتهت باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، والثانية جرت عام 2014 على الساحة الأوكرانية، وانتهت بفصل شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا.
صحيح أن الجولة الحالية تبدو الأخطر، ليس لأنها ما تزال مستمرة منذ أكثر من عام فحسب، بل لأن الولايات المتحدة قررت خوضها حتى النهاية، واستخدمت فيها كل أدوات القوة الشاملة وعناصرها، وراحت تصرح علناً بأن هدفها الرئيسي هو “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا” وربما تغيير النظام فيها. لذا، يمكن القول إن النتائج التي ستسفر عنها هذه الجولة ستكون الأكثر إسهاماً في تحديد مصير النظام الدولي أحادي القطبية.
أما بؤرة التوتر الآسيوية، والتي يجسدها الصراع المحتدم حالياً حول تايوان، فقد تسببت فيها سياسات أميركية تستهدف استخدام تايوان، رغم اعتراف الولايات المتحدة رسمياً بأنها جزء لا يتجزأ من الصين، كأداة لعرقلة صعود الصين والحدّ من طموحاتها الإقليمية والدولية. ولأن الولايات المتحدة ترى في الصين التحدي الأكبر ومصدر خطر رئيسياً يهدد إصرارها على الهيمنة المنفردة على النظام الدولي، كما ترى في الوقت نفسه أن تمكن الصين من فرض سيادتها الكاملة على تايوان سيزيد من خطورة هذا التحدي، يمكن القول إنها قررت تبني استراتيجية جديدة تجاه الصين تشبه في بعض ملامحها سياسة الاحتواء التي مارستها في مواجهة روسيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن المشكلة التايوانية لم تظهر فجأة على ساحة العلاقات الأميركية -الصينية، لكن يبدو أن الولايات المتحدة قررت في الآونة الأخيرة تغيير سياستها التقليدية القائمة على “صين واحدة”، وبدأت تسعى لضم تايوان إلى سلسلة الأحلاف التي تعمل على تشكيلها في منطقتَي المحيط الهادئ والهندي بهدف تحجيم الصعود الصيني. صحيح أن الولايات المتحدة تدرك عمق العلاقات القائمة بين الصين وروسيا، وصحيح أيضاً أنها تدرك خطورة ما قد ينجم عن احتمال تحول هذه العلاقات إلى تحالف استراتيجي بين البلدين الكبيرين، بيد أن مؤشرات كثيرة توحي بأنها قررت رغم ذلك تبني سياسة تقوم على الاحتواء المزدوج لكليهما.
ربما كان بوسع الولايات المتحدة تجنب وجود بؤرة توتر ثالثة تهدد هيمنتها المنفردة على النظام العالمي، ممثلة في التوتر الناجم عن البرنامج النووي الإيراني، لو لم يدخل العامل الإسرائيلي طرفاً مباشراً على خط هذه الأزمة. فمن المعروف أن إدارة أوباما كانت قد توصلت عام 2015 إلى اتفاق اعتقدت أنه يضمن الإدارة السلمية لهذا البرنامج، لكن حكومة نتنياهو ألقت بكل ثقلها لإقناع إدارة ترامب بالانسحاب منه، وهو ما تم فعلاً عام 2018. ورغم سعي الإدارة الأميركية الحالية، ومنذ دخول بايدن البيت الأبيض، للعودة إلى هذا الاتفاق، فإن جهودها على هذا الصعيد تعثرت لأسباب كثيرة، في مقدمتها رفض “إسرائيل” لهذه العودة، والإعلان عن عدم التزامها بأي اتفاق يوقّع مع إيران، وإصرارها الدائم على جر الولايات المتحدة للاشتراك معها في اعتماد الخيار العسكري فقط في مواجهة إيران.
صحيح أن بعض المؤشرات الأخيرة يوحي بأن العودة الأميركية إلى اتفاق 2015 ليست مستبعدة، لكنها لم تحدث بعد، لذا فالأرجح أن تواصل “إسرائيل” بذل كل ما في وسعها لعرقلة هذه العودة، وهو ما قد تنجح في تحقيقه إذا لم تتم هذه العودة قبل انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي من المقرر أن تبدأ قبل نهاية العام الحالي.
وفي جميع الأحوال، ينبغي لنا أن نتذكر حقيقة هامة وهي أن الإدراك الإسرائيلي لخطر إيران عليها لا ينبع من احتمال تمكن الأخيرة من تصنيع السلاح النووي، ولكن من نفوذها الإقليمي الذي تجسده قيادتها لمحور المقاومة.
نخلص مما تقدم إلى أن النظام الدولي أحادي القطبية، والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة منفردة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يعد قادراً على الصمود في مواجهة تحديات هائلة تفرضها روسيا والصين وإيران. لذا، تبدو قدرته على البقاء رهناً بقدرة الولايات المتحدة على حسم الصراعات الدائرة على الساحات الأوكرانية والتايوانية والإيرانية لمصلحتها، وهو أمر مشكوك فيه ويفسر أسباب الولادة المتعثرة لنظام دولي جديد لا يمكن إلا أن يصبح متعدد القطبية.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع