بثينة شعبان*

من يقرأ خطاب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) في واشنطن يوم الاثنين الماضي يتساءل: هل يدرك السيد بلينكن مدى المهانة التي يرتكبها بحق كرامة اللغة وكرامة البشر وكرامة الحقوق الإنسانية التي تقرّها وتجلّها البشرية ماعدا بلينكن وجمهوره؟ وهل يدرك أنك حين تقرأ النصّ الذي أدلى به بتمعن لغوي صرف يستحيل عليك أن تصل إلى أي مغزى مفيد لأي رسالة أو هدف من وراء تسطير كلمات وجمل تنفي بعضها بعضاً وتناقض بعضها بعضاً؟ ولفائدة القارئ وأصحاب الحق أورد بعض الأمثلة.

أكد بلينكن استمرار واشنطن الالتزام بأمن “إسرائيل” وحل الدولتين من دون أن يقابل التزامه بأمن “إسرائيل” التزاماً مماثلاً بأمن الفلسطينيين.

ولا شك أن الالتزام بأمن طرف مدجج بأنواع الأسلحة كافة، بما في ذلك أسلحة الإبادة الشاملة، على حساب حياة وأمن وحقوق ومستقبل شعب آمن أعزل حُرم من حق تقرير المصير وجميع حقوق الإنسان لن يقود إلى حلّ الدولتين الذي أصبح عبارة لفظية منفصلة عن مجريات الواقع وعن إمكانية الحدوث طالما أن الكيان الغاصب يعمد يومياً إلى قتل وتهجير وإبادة الفلسطينيين بكل الوسائل الإجرامية المتاحة لديه منعاً لهم من تحقيق حلمهم في إقامة دولتهم على أرضهم.

كما أشار إلى أن الإخلال بالوضع الراهن في الأماكن المقدسة واستمرار هدم المنازل وإجلاء العائلات التي عاشت في تلك المنازل لأجيال يلحق الضرر بآفاق حل الدولتين، كما أنه يقوّض الكرامة التي يستحقها جميع الناس.

بعد هذا التشخيص الذي يعني عملياً أن الكيان الصهيوني يقوم بأفظع الأعمال لمنع استمرار عيش الفلسطينيين على أرضهم بسلام ولانتهاك أمنهم وحقوقهم وحياتهم وإلغاء كل العوامل التي يجب البناء عليها في تحقيق حل الدولتين. فما هو موقف الولايات المتحدة من كل هذا؟ وما تراها فاعلة؟

أم أنها مجرد شاهدة زور من وراء المحيطات مختتمة كل هذه الإشارات المبطنة للاعتداءات الاستيطانية والإجرامية بحق شعب أعزل بالقول: “إن للولايات المتحدة مصلحة حقيقية تتعلّق بأمنها القومي في دفع مسارات التطبيع ومساعدة إسرائيل على الاندماج في المنطقة”.

في العامية يقال: “مجنون يحكي وعاقل يفهم” أي أنه حين يتكلّم إنسان مجنون فإن على العاقل أن يفسّر ما قيل، ولا شك أن السيد بلينكن عاقل ويعرف ماذا يقول ولكنني أقول له إن كلامه لا يعني شيئاً لأي محلل باحث عن مغزى حقيقي وعن نتيجة يتم التوصل إليها من خلال السرد.

إذا كانت الولايات المتحدة تقرّ أن الاستيطان عقبة في طريق حل الدولتين فلماذا لا تعمل على إيقافه؟ وإذا كانت تدرك أن هدم المنازل يلحق الضرر بالحل السياسي وبكرامة الناس التي عاشت هنا لأجيال فلماذا لا تتجرّأ الولايات المتحدة على اتخاذ موقف واضح وصريح والمطالبة بوقف كل ما من شأنه أن يعيق الحلول وينتهك كرامة البشر والقوانين الإنسانية والدولية؟

وإذا كانت تدرك أبعاد كل هذا كيف تطمح أن تحقّق أمنها القومي من خلال الدفع باتجاه التطبيع ومحاولة دمج الكيان الصهيوني في المنطقة من دون معالجة أي من الجرائم والانتهاكات التي يقترفها هذا الكيان بحق الشعب العربي في فلسطين والجولان السوري المحتل وجنوب لبنان؟

لقد قام بلينكن بزيارة الرياض حيث التقى إضافة إلى وليّ العهد السعودي بوزراء خليجيين لطمأنتهم بشكل جماعي على أن بلاده في صفهم وأن “الولايات المتحدة موجودة في هذه المنطقة لتقول إننا لا نزال منخرطين بعمق في الشراكة معكم جميعاً” كما قال. ولكن يا سيد بلينكن ألا تقولون إن “الأعمال تتكلم بصوت أعلى من الأقوال” فما هي معاني أقوالكم إذا كانت مناقضة تماماً لأفعالكم ومواقفكم؟

أم أنكم تراهنون على الاستمرار بهذه اللغة المواربة إلى أن تتمكّن قوات الاحتلال الغاصب من إحداث تغييرات ديموغرافية وعملية تضمن أمن الكيان وأمنكم على حساب العرب في فلسطين وسوريا ولبنان وتهديد بلدان الخليج التي تتعطشون لنهب ثرواتها. إذا كانت هذه آمالكم الخفية فلكم فيما يجري في فلسطين والجولان وجنوب لبنان دروس واقعية عن آفاق هذا المستقبل الذي ترجونه لكم ولحلفائكم على حساب وجود العرب وأمنهم.

بعد سبعين عاماً من انتهاك حقوق عرب فلسطين وتهجيرهم وتدمير بيوتهم وقتل أطفالهم وأسر شبابهم تنتفض المدن والقرى الفلسطينية في وجه الاحتلال، ويقسم أبناء الشهداء أنهم مكملون مسير آبائهم حتى التحرير.

ويقف الراعي اللبناني إسماعيل ناصر، الذي لا يحرس الأغنام فقط وإنما يحرس تراب الأرض الطاهرة، في وجه جرافة إسرائيلية ويتصدى لها بجسده، ولا تتردد جرافة الاحتلال عن غمره في التراب أثناء قيامها بتجريف أراضٍ زراعية محتلة يمتلكها لبنانيون في مرتفعات كفر شوبا.

وقام الجيش والشعب اللبناني في الجنوب بالمرابطة في كفرشوبا حماية للأرض والحقوق. وتحتار مقالاتكم وجرائدكم في تفسير هذه الأحداث وعدم إيلاء أي اهتمام لجرافات وطائرات وأسلحة الاحتلال العدوانية.

وإذا كان المجنّد المصري قد قام بالدفاع عن كرامة بذّته وقداسة أرضه بعد عقود من اتفاقات التطبيع مع مصر، واعترفتم بعد كل حادثة أن اتفاق التطبيع مع مصر واتفاق أوسلو مع الفلسطينيين مجرد وهم، فلماذا تسعون إلى حصد المزيد من الأوهام من خلال دفع مسارات تطبيع تعلمون علم اليقين أنها لن تقود إلى قبول هذا الكيان الغاصب في منطقتنا وعلى أرضنا وأرض أجدادنا وأن شعبنا العربي ينبذكم لأنكم أغراب عن هذه الأرض التي اغتصبتموها عنوة وما جلبتم للمنطقة سوى الحروب والدماء والدمار.

إذا كنتم تراهنون على الوقت كما يدّعي المستوطنون والمحتلون فلتتذكّروا أن الاستيطان الفرنسي استمر مئة وثلاثين عاماً على أرض الجزائر الأبية، وبعد أجيال وأجيال انطلقت الثورة الجزائرية المباركة وحرّرت الجزائر من الاستعمار الفرنسي.

إنّ مراجعة التاريخ تبوح لكم أن تحقيق أمن طرف ما على حساب طرف آخر لن تكتب له الحياة، وأن التزامكم بأمن “إسرائيل” تنقصه تتمة ضرورية وواقعية وقادرة على تغيير المعادلة المغلوطة التي تبنيتموها منذ زمن وهي الالتزام بأمن “إسرائيل” وأمن الفلسطينيين وأمن العرب في المنطقة، حينذاك فقط يمكن لك، بلينكن، أن تتكلم بشكل جاد وذي مغزى عن الأمن القومي الأميركي.

ميّزة هذا الزمن أنه زمن كاشف ولم يعد “الغموض البنّاء” كما تسمونه أنتم بينما هو “غموض هدّام” لا ينطلي على أحد أو يقنع أحداً. ما يسعى إليه الجميع هو الوضوح والكرامة والحقوق وإن رفضتم كما فعلتم إلى حدّ الآن فهناك قوى أخرى تحتضن هذه المبادئ وتؤمن بها ومستعدة لبذل الجهود من أجل تطبيقها على الأرض.

* المصدر: موقع الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع