أحمد الدرزي*

انتظر السوريون بدء تعافيهم الاقتصادي، من خلال تحسن مستوى صرف عملتهم الوطنية، مقابل العملات الصعبة، بعد انتهاء قمة الدول العربية في جدة، بالحد الأدنى، كمؤشر على بدء حصاد المتغيرات الإقليمية، التي تدفع إلى انتهاء الكارثة السورية، ولكن ذلك لم يحصل حتى الآن، بل ازداد الأمر سوءاً، فهل سينتظر السوريون كثيراً؟

من طبيعة الكارثة السورية، أنها شديدة التعقيد، بفعل العوامل المحلية والإقليمية والدولية، التي جعلت منها عصية حتى الآن، على إيجاد حلول حقيقية لها، بالرغم مما أفرزه الصراع بمستوياته الثلاثة، من معادلات جديدة، جراء تحولات جيوسياسية لم تكن متوقعة، قبل انتقال الصراع إلى أوكرانيا.

وقد ثبتت نتائج الانتخابات التركية ما كان يجري من تلاق بين دول الإقليم، بل والعالم، فعلى مستوى الإقليم، حصل التقارب الإيراني-السعودي، بعد التقارب السعودي والإماراتي مع تركيا، ودعم الاقتصاد التركي من قبلهما، بمليارات الدولارات، لضمان فوز الرئيس أردوغان بالانتخابات الرئاسية، لاستكمال مسيرة المصالحة فيما بينها.

كما لم تبتعد مصر عن هذا المسار، بعد اتصال الرئيس السيسي بالرئيس أردوغان مهنئاً، رغم ما صنع الحداد بينهما، بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وهم من كان يراهن عليهم الرئيس التركي، في التمدد إلى شمال أفريقيا، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى مؤشر عودة العلاقات بين إيران ومصر، بعد بدء وساطة سلطان عمان هيثم بن طارق، إثر نضوج الظروف الموضوعية لنجاح الوساطة، بعد أكثر من أربعة عقود من القطيعة بين البلدين.

وقد أصبح من الواضح أن هناك نظاماً إقليمياً جديداً بدأ بالتشكل، إثر بدء انزياح السعودية والإمارات نحو خيارات سياسية جديدة، توَّجتاها بانضمامهما إلى اجتماع وزراء خارجية دول “البريكس” الأخير، في مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا، وبحضور وزير خارجية إيران أيضاً.

يرتكز هذا النظام الإقليمي الجديد على ثلاث قوى إقليمية فاعلة، هي تركيا وإيران والسعودية، بالإضافة إلى قوة مصر الجيوسياسية والتاريخية المغيّبة، ودور الإمارات المالي، بالإضافة إلى الدور القطري المالي المرتقب، المرتبط بالتوجهات التركية الجديدة.

ولا تغيب الصين وروسيا عن هذا المشهد الإقليمي، فهما تشكلان المظلة الدولية الجديدة له، وخاصةً بعد أن لعبت الصين دوراً أساسياً في المصالحات التي تجري بين كل الفرقاء حتى الآن، بما في ذلك العودة السورية إلى الجامعة العربية، عدا عن كونها الشريك الاقتصادي الأول لهذه الدول.

تقف سوريا بأهمية وضعها الجيوسياسي، كمشكلة أساسية أمام تحقق هذا النظام الإقليمي الجديد، فهي تلعب دوراً مهماً كممر بري شبه وحيد، بين تركيا ودول الخليج، كما أنها بإطلالتها على شرق المتوسط، عبر شواطئها وشواطئ لبنان، تفصل بين شرق المتوسط المهم، وبين العراق وإيران، بالإضافة إلى دول الخليج.

وهي لا يمكن أن تلعب هذا الدور المهم، في ظل استمرار كارثتها، فعدا العوامل الإقليمية والدولية، فإن طبيعة مشكلاتها الداخلية، لا تتيح إمكانية تحقيق الأمن والاستقرار، فهي من الناحية الجغرافية منقسمة إلى أربع مناطق منفصلة عن بعضها البعض، ففي الشمال هناك الجزيرة السورية حيث يوجد الاحتلالان الأميركي والتركي، مع وجود قوات “قسد” والفصائل المسلحة التي تدعمها تركيا، وفي الشمال الغربي يوجد الاحتلال التركي مع “هيئة تحرير الشام” وبقية الفصائل، وفي الجنوب حيث تضعف سلطة دمشق على درعا والسويداء.

والأمر لا يتوقف على الجغرافيا، بل يمتد إلى السياسة والاجتماع، فهناك أكثر من ثمانية ملايين سوري، في دول الجوار، وهي تركيا ولبنان والأردن والعراق، عدا عن أكثر من مليون ونصف منهم في دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى أكثر من ثمانية ملايين في الجزيرة السورية، وشمال غرب سوريا.

وهذا التشتت السوري لا يخرج من الإطار السياسي، بعد أكثر من اثني عشر عاماً من الكارثة، وهي مدة كافية لتشكل توجهات سياسية متباينة بين السوريين، من الصعوبة بمكان عودتهم إلى ما قبل الكارثة، بالإضافة إلى ارتباط معظم هذه القوى السياسية الجديدة بقوى إقليمية ودولية داعمة لها، كي تحقق من خلالها ما عجزت عن تحقيقه بنفسها.

قد تكون الصين سبَّاقة للجميع برؤيتها لطبيعة الكارثة السورية، وهي الدولة الأكثر قدرة اقتصادية وعلمية، وتمتلك الإمكانيات كافة لإعادة إعمار سوريا، ولكنها أحجمت عن الاستثمار في ذلك، فهي الأكثر تجربة بآليات الاستثمار، الذي يتطلب تحقيق الأمن والاستقرار، في كل الدول التي تريد العمل فيها، وهذا غير متوفر في الحالة السورية، وهذا ما دفعها إلى تغيير مسارات “طريق الحرير”، الذي كان يمر تاريخياً من سوريا، بعد أن أعلنت عن مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013، التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ من كازاخستان، فكان من المفترض أن يتفرع الطريق القادم من إيران والعراق إلى سوريا، الأول يخرج من حلب إلى أوروبا عبر تركيا، والثاني يتوجه من سوريا إلى الأردن وشمال أفريقيا.

وصلت جميع دول النظام الإقليمي المستجد إلى الرؤية الصينية نفسها، بعد أن بدأت بتغيير تموضعها الجيوسياسي، بأن الأمن والاستقرار لا يمكن أن يتحققا إلا بعودة كل اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم، إن كان من دول الجوار وبقية العالم، أم كان من الداخل السوري، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق بغياب الرغبة لدى هؤلاء، إن كان بفعل غياب مقومات الحياة الأولية، أم بفعل الهواجس والقلق المرتبطيْن بتوجهاتهم السياسية.

كما أن مشكلة إعادة توحيد سوريا، بإزالة الانقسام الجغرافي والسكاني بين مناطقها، لا يمكن أن يتحقق من دون النظر بواقعية إلى طول زمن الانقسام، وارتباطه بطموحات سياسية واقتصادية، لا تنفك بمصالحها عن مستويات الصراع الإقليمي والدولي، وهي استطاعت إلى حد ما، إحداث تغيير اجتماعي ذي بعد سياسي، مغاير لما اعتادوا عليه.

من الواضح بأن هناك شبه إجماع إقليمي، على أن الانفتاح على سوريا، وعودتها إلى الجامعة العربية، لن يحلا المشكلة السورية المعقدة، كما أن هناك قراراً دولياً صدر عن مجلس الأمن، وصاغته روسيا، برقم 2254، ووافقت عليه الولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا، وهو بمحتواه يدعو إلى حل سياسي في سوريا، على أساس الشراكة للسوريين، ضمن عملية سياسية مرحلية، وهذا القرار لا يمكن تجاوزه، إذا ما توافقت الدول الخمس على تنفيذه.

بدء التعافي الاقتصادي للسوريين قد لا يبدأ قريباً، فسوريا تحتاج إلى ضخ الاستثمارات والمساعدات لبدء إعادة الإعمار، تمهيداً لعودة اللاجئين والنازحين، وهذا الأمر من الصعب البدء به، من دون تحقيق مؤشرات على قرب حصول توافق إقليمي كامل، يشمل أيضاً سوريا جديدة، تبدأ أولى خطواتها بالمصالحة السورية والشراكة السورية، وتجبر الولايات المتحدة على القبول، وتنزع عنها حجة بقاء احتلالها في الجزيرة والتنف، واستمرار عقوباتها على السوريين.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع