السياسية- تقرير/  أنس القاضي

منذ مطلع الأسبوع الماضي تجري مواجهات عسكرية، في السودان بين الجيش السوداني (الرسمي) وقوات الدعم السريع (المليشيات) في الخرطوم وشمال السودان، وتبادل الطرفان الاتهامات، بشأن المسؤولية عن اندلاع المواجهات.

منذ انقلاب أكتوبر 2021م، يدير العسكر الحكم في السودان بقيادة، الطرف الأول في النزاع الراهن عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة والرئيس الفعلي للبلاد، من جهة، والطرف الثاني في النزاع نائبه قائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي. هذه الأطراف المتصارعة حالياً، قامت سابقاً بتصدير مرتزقة إلى اليمن من القوات التابعة لها.

مطلع الشهر الحالي -ابريل 2023م- تم تأجيل التوقيع على الاتفاق النهائي لتسوية الأزمة السياسية في البلاد، بسبب الخلاف حول بند “الإصلاحات الأمنية والعسكرية” وبروز الخلاف حول دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة الذي ينذر بسد الآفاق السياسية لحميدتي، والخلاف حول أي سلطة ستشرف على العملية، لكون عملية الدمج شرط أساسي للاتفاق الذي تأجل توقيعه، كما تعقدت الأزمة بسبب الخلافات بين القوى السياسية السودانية حول إدارة الفترة الانتقالية واستحقاقاتها.

ما يجعل المواجهات الراهنة أكثر خطورة، كونها تجري بين النخب العسكرية الحاكمة في السودان تاريخيا، التي تمتلك القوة الهائلة، القادرة على تدمير الدولة إذا لم تتوقف المواجهات.

واقعياً يُعبر هذا الصدام العسكري عن فشل العملية الانتقالية، وابتعاد القوى العسكرية والمدنية التي تصدت لقيادة البلاد وحكمها منذ بداية الثورة في أبريل 2019م عن المهام المُفترض انجازها في هذه الفترة الانتقالية.

وهو في جوهره صراع حول السلطة والثروة داخل النخبة العسكرية المسيطرة، ولا يخلوا من وجود، تأثيرات دولية، حيث يبدو بوضوح أن البرهان قريب مصر، ويستضيف البرهان في بلاده قوات مصرية بموجب اتفاقيات رسمية بين البلدين، وابدى انفتاحاً للعلاقات مع إسرائيل، فيما، حميدتي مدعوم من الإمارات، وكانت الحكومة في ديسمبر 2022م قد وقعت مع الإمارات اتفاق قيمته 6 مليارات دولار لتطوير ميناء على البحر الأحمر، ومن غير المستبعد أن يكون مدعوماً من اثيوبيا التي هي في خلاف مع مصر بشأن سد النهضة.

ويمكن قراءة الصراع من الناحية الدولية باعتباره تعبيراً عن الخلاف السعودي الإماراتي، للصراع محركاته الداخلية الجوهرية، لكنه أيضاً يتأثر بهذا التنافس الخليجي بين الرياض وأبو ظبي.

وتشهد قارة إفريقيا حالة استقطاب شديدة جراء المنافسة، بين كل من روسيا والصين من جهة، وكذلك الولايات المتحدة من جهة أخرى.

يمتلك الجيش بقيادة البرهان قوة عسكرية مهولة وأسلحة ثقيلة تجعله متفوقاً، فيما يقوم حميدتي من فترة طويلة باستقطاب الضباط في جيش البرهان ولا يعرف مدى تأثير ذلك، كما يعزف على وتر الحكم المدني ويعد الشعب أنه سيسلم السلطة للقوى المدنية بعد القضاء على البرهان، حد زعمه.

 

التداعيات على اليمن

تحتفظ قوات الدّعم السريع، بوجود كبير في ولاية البحر الأحمر السودانية، وتتلقى دعماً إماراتياً- وبالتالي صهيونيا، ما يجعل انتصاره خطراً على اليمن، كما أن البرهان هو الأخر التقى بوزير الخارجية الصهيونية ومنفتح على التطبيع.

مصلحة اليمن تكمن في عودة، الحكم المدني إلى السودان وفي استقرارها، ووحدتها الجغرافية، وفي دمج القوات العسكرية المتصارعة وإعادة بناء الجيش السوداني وطنياً ومهنياً.

الخلفية التاريخية للأحداث

يعود تاريخ النظام الإخواني في السودان عام 1989: حين قاد العميد عمر حسن البشير انقلابا ضد الحكومة المدنية المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي.

شن العسكر حينها حملة اعتقالات طالت قادة جميع الأحزاب السياسية بمن فيهم حسن الترابي زعيم الجبهة الإسلامية القومية. وبدأت مرحلة ما عرفت بقوانين “الشريعة”.

طوال فترة حكم الإسلاميين في السودان فقدَ نظام البشير قدرته على تجديد ذاته بالأدوات والأساليب التي تمرس عليها. وهي الطبيعة الدموية، التي وصلت إلى الإبادة الجماعية والتمردات والحروب الأهلية، اللامبالاة الوطنية والأسلمة الإخوانية التي فجرت الحرب مع المسيحيين وأدت إلى انفصال جنوب البلاد، واللصوصية المنظمة التي أدت إلى الإفقار والتدهور الاقتصادي الشامل، كما أن نظام البشير ظل يتقلب بين الولاءات بين الشرق والغرب، ومحور “المقاومة” ومحور “الاعتدال” وبالتالي فقد القدرة على الثبات السياسي في المنطقة، وبات عاجزاً عن تجديد مشروعية بقائه المستقبلية عبر الاستناد إلى طرف إقليمي.

 

الثورة والانقلاب العسكري

في نهاية العام 2019م، ومع ارتفاع سعر الخبر من جنيه الى ثلاثة جنيه وغيره من المواد الاستهلاكية ألأساسية وضعف السيولة النقدية وارتفاع التضخم بنسبة 70% وارتفاع الدولار من 6 جنيه إلى 18 جنيه ، وإحجام المصارف عن سحب المواطنين لأموالهم بسبب انعدام السيولة النقدية، خرج الطلاب في 19 ديسمبر 2018م، في مظاهرات عمت سائر البلاد. وتطورت من المطلب الاقتصادي، إلى المطلب السياسي المتمثل بتنحيه البشير وإسقاط نظامه.

 

سقوط البشير 2019م

بعد أسابيع من الاحتجاجات أطاح الجيش بالرئيس عمر البشير في 11إبريل 2019م، وهي عملية قامت بها النخبة العسكرية المسيطرة، التي قدمت البشير أضحية من أجل بقائها، مثلت الجماهير في الاتفاقية “قوى الحرية والتغيير” التي وافقت على اتفاق لتقاسم السلطة مع الجيش، وإنشاء مجلس السيادة.

إلا أن الاتفاق لم يكن مقبولاً من قبل الجميع، فقوى “تحالف الإجماع الوطني” تغيبت عن توقيع الاتفاق وبعض قوى ” الحرية والتغيير” وقد رفضه الحزب الشيوعي السوداني وهو أكبر أحزاب “تحالف الإجماع الوطني”، أحد مكونات قوى التغيير، قائدة الحراك الشعبي. الذي اعتبر أن الاتفاق منقوص ومعيب، ويعيد إنتاج الأزمة بالاستمرار في سياسات النظام السابق القمعية والاقتصادية، والتفريط في السيادة الوطنية.

بحسب القوى المعارضة للاتفاق، فالعيب الجوهري فيه، أنه أغفل تفكيك النظام السابق، ومحاسبة رموزه الفاسدة، واستعادة أموال وممتلكات الشعب، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وإعادة هيكلة جهاز الأمن، وحل كل الميليشيات وفق الترتيبات الانتقالية في الفترة الانتقالية.

 

نص الاتفاق:

نص الاتفاق على تشكيل مجلس سيادة من 11 عضوًا، 5 عسكريين يختارهم المجلس العسكري و5 مدنيين تختارهم قوى التغيير، تضاف إليهم شخصية مدنية يتم اختيارها بالتوافق بين الطرفين. ويترأس أحد الأعضاء العسكريين المجلس لمدة 21 شهرًا، بداية من توقيع الاتفاق، تعقبه رئاسة أحد الأعضاء المدنيين لمدة 18 شهرًا المتبقية من الفترة الانتقالية (39 شهرًا).

 

انقلاب 25 أكتوبر

كانت قد انتابت القوى المعارضة للاتفاق – وفي مقدمتهم الحزب الشيوعي” شكوك عميقة إزاء التزام المجلس العسكري، بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، بتطبيق الاتفاق المبرم مع قوى “إعلان الحرية والتغيير”، برعاية أفريقية ــ إثيوبية، بوجود تاريخ حافل للمجلس العسكري بنقض المواثيق والعهود. في بيان صدر حينها (يوليو 2019م)

في 25 أكتوبر 2021م قام قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان(1) بانقلاب عسكري على مجلس السيادة الانتقالي الخليط من قوى مدنية وعسكرية، وقد تم توقيف الغالبية الساحقة من المسؤولين المدنيين، وبينهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بعد رفضهم دعم “الانقلاب”، حينها أعلن البرهان عبر التلفزيون الرسمي حالة الطوارئ بعد حل السلطات الانتقالية وإقالة عدد كبير من أعضاء الحكومة والأعضاء المدنيين في مجلس السيادة المسؤول عن قيادة المرحلة الانتقالية.

بعد 40 يوماً من الانقلاب العسكري، أي في 5 ديسمبر 2021م، وقع اللواء برهان والقائد محمد حمدان دقلو، الرجل الثاني في النظام والعديد من القادة المدنيين من “قوى الحرية والتغيير”، اتفاقاً لإنهاء الأزمة، عرف بـ”الاتفاق الإطاري” الذي من المُفترض أن يمهد الطريق لتشكيل سلطة مدنية انتقالية. تم التوقيع في حضور المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس ومحمد بلعيش سفير الاتحاد الافريقي لدى الخرطوم.

لاحقا وبعد عام – أي في 2022م- اتّهم الشيوعي السوداني جهاز المخابرات المصرية بدعم الانقلاب العسكري عام 2021م، ودعم تكوين تحالف الكتلة الديمقراطية بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركات الموقعة على اتفاق السلام.

 

تعقد الأزمة ما قبل الانقلاب الجديد ابريل 2023م

فوض قرار مجلس الأمن 2579 الصادر في 2021م، البعثة الأممية بمهام “المساعدة في عملية الانتقال السياسي، والتقدم نحو الحكم الديمقراطي، وحماية حقوق الإنسان وتعزيزها وتحقيق السلام المستدام، في السودان.

إلا أن البعثة فشلت في مهامها وعلى رأسها إنجاز التحول الديمقراطي، وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن وقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والاكتفاء بالإدانات. فيما واصلت الاحتجاجات المطالبة بإسقاط الحكم العسكري، وتواصلت حملة القمع الأمنية، وخلال هذه الفترة جرى انتشار غير مسبوق للقوات المسلحة والميليشيات في عواصم المدن.

وعلى المستوى الاقتصادي تفاقمت الأزمة المعيشية وعجز الحكومة عن دفع الرواتب وارتفاع التضخم.

كما فشلت جهود البعثة الأممية في حل مليشيات الدعم السريع وجيوش الحركات وفلول ومليشيات الجبهة الإسلامية، وتفاقمت التباينات في صفوف القوات المسلحة بشأن إدماج قوات الدعم السريع في الجيش، وكانت هذه العقدة هي التي اوصلت الى الصدام العسكري الحالي، حيث يتخوف قائد قوات التدخل السريع والنخبة العسكرية معه من انتهاء مستقبلهم السياسي والثروة التي يمتلكونها من بينها منجم ذهب في حال تم دمجهم في الجيش ويُعد هذا الأمر من الأسباب التي دفعت قوات الدخل السريع إلى الانتشار العسكري الأخير الذي تسبب بالصدام.


  • المصدر: سبأ