تجارة السلاح… شر لا مفر منه!
أدى تسرب مذكرة الاستخبارات العسكرية التي أدرج الأسلحة الفرنسية المنتشرة في اليمن من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى إحياء النقاش الدائر حول مبيعات الأسلحة(SIPA).
بقلم: فرونسوا كليمونسو
(صحيفة “جورنال دو ديمونش” الفرنسية – ترجمة: محمد السياري – سبأ)
عمد هذا الأسبوع ما يزيد على 12 منظمة غير حكومية فرنسية وأجنبية إلى مطالبة الحكومة الفرنسية بوقف جميع عملياتها لتسليم الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة. وحول هذا الموضوع المأساوي والمثير للجدل هناك الكثير من التعتيم والوقائع التي تحتاج إلى المزيد من التوضيح والتفسير للحيلولة دون الانجراف نحو مسارات قد يغدو من المستحيل تفادي تبعاتها.
ومن ضمن هذه المنظمات غير الحكومية هناك منظمات كبرى على غرار منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش، وغيرها من المنظمات التي لا يمكن لها إلا أن تكون حاضرة إلى جانب ضحايا ذلك الصراع اليمني الذي قضى فيه ما لا يقل عن 10000 شخص في الأوساط المدنية على مدى ما يزيد عن 4 سنوات من الحرب المريرة. وفي هذا النوع من البحث والتحقيق حول مبيعات الأسلحة ، لا بد لنا من الاعتراف بأن كل شيء أصبح ثنائي وبصورة متنامية.
وعلى ما يبدو أن بعض الدول الديمقراطية مثل فرنسا باتت تبيع أسلحتها إلى دول ليست ذات طابع ديمقراطي مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ؛ الأمر الذي أصبح يثير الكثير والكثير من الشبهات والتساؤلات حول طبيعة العلاقات القائمة بينها ونوع المصالح التي تتقاسمها. وفي حال كانت هذه البلدان الشرهة للسلاح قد انخرطت في صراعات تسببت في سقوط العديد من الضحايا المدنيين ، فمن البديهي ومن المسلم به جدلاً أن تغدو فرنسا موضع اتهام وبشكل صارخ بالتواطؤ في ارتكاب جرائم حرب.
ومع ذلك، فإن مذكرة الهيئة العامة للاستخبارات العسكرية التي أشارت إليها تلك المنظمات غير الحكومية ، والتي طلبتها السلطة التنفيذية على وجه التحديد لتقييم الوضع ، تشير إلى وجود العديد من المخاطر المحتملة؛ ومن تلك المخاطر أن تقوم إحدى البطاريات الثلاث لمنظومة “سيزر” الصاروخية الفرنسية الدفاعية، التي تم نشرها على الحدود السعودية، بإطلاق قذيفة في نهاية الأمر على أهداف محتملة في أوساط مدنية… وحتى الآن، وكما تعلم المنظمات غير الحكومية، فإن الميليشيات الحوثية – التي تخوض صراع دموياً ضد قوات التحالف العربي – لم تتمكن مطلقاً من تقديم أبسط الأدلة على أن قذيفة أو قنبلة فرنسية الصنع قد تسببت في مقتل مدنيين يمنيين ولو على سبيل الخطأ؛ بل على العكس كانت الحقيقة المثبتة مخالفة لذلك: حيث كشفت الأمم المتحدة أن صواريخ إيرانية الصنع هي التي أطلقت من قبل ميليشيات الحوثي على خصومهم وفي أوساط مدنية.
ولكن وبالرغم من كل ما سبق هل يمكننا القول بأن تلك الحقائق تقدم أي شكل من أشكال الحلول للمعضلة الرئيسة المتمثلة في البعد الأخلاقية ؟ حتما ولا بد أن تكون الإجابة الأكيدة على ذلك هي بالنفي.
هل ينبغي علينا التخلي عن هذا القطاع الاستراتيجي؟!
حتى نتمكن من إزالة الغموض والإبهام الذي يسود ملف تجارة السلاح ، يتحتم علينا اولاً وقبل كل شيء أن نراجع بعض الحقائق التي لا شك أنه يصعب في كثير من الأحيان أن نتقبلها كأمر واقع: أولاً ، تعد فرنسا إحدى أكبر ثلاث دول رائدة في تصدير السلاح في العالم ؛ ثم إنها في المقام الثاني تحرص دائماً وأبداً على تسليم صفقة الأسلحة المبرمة معها إلى بلدان ليست في حالة حرب بالرغم من أن احتمالية أن تصبح كذلك هي مسألة واردة وبقوة ؛ ثالثاً وإن كانت هذه الفكرة غالباً ما تثير السخط والاستياء لدى من يسمعها ، إلا أنه بطبيعة الحال إذا ما توقفت فرنسا عن إنتاج الأسلحة أو تصديرها فإن ذلك لن يحدث تغييراً يذكر على الصعيد العلمي ، فضلاً عن ان هنالك الكثيرين ممن سوف يبادرون بتولي زمام الأمور بدلاً عنها على غرار الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين.
وإذا ما أخذنها كل ذلك كأساس يستند إليه ، فهل يجب على فرنسا أن تتخلى عن هذا القطاع الاقتصادي والصناعي والاستراتيجي الذي يمثل لها ركيزة رئيسية من ركائز القوة والنفوذ ؟!
ثم إن هنالك البعد الاقتصادي لهذا النوع من الصناعة والتجارة : حيث يعمل هذا القطاع في فرنسا على توظيف ما لا يقل عن 150.000 شخص فضلاً عن 400.000 يتم توظيفهم بشكل دوري وبصورة غير مباشرة ؛ وبالرغم من أن هذه الحجة قد تبدو نمطية وغير مقنعة ، إلا أن ذلك في الحقيقة هو واقع لا مفر منه.
وتبعاً للتأثير الإيجابي لذلك الأمر ، فإنه من الممكن لتلك العملية أن تعيد التوازن والاستقرار إلى سوق التجارة الخارجية المعرض للانهيار بين الفينة والأخرى ؛ ناهيك عن عمليات البحث والتطوير التي كما هو معلوم للجميع ، تحمل من التداعيات ما لا حصر له إزاء الحاجة الملحة للاختراع والتطوير والتقنيات في المجال المدني والاستهلاك اليومي ؛ إذن هل يجب علينا أن نتجاهل كل ذلك كما لو لم يكن يوماً ما؟
رؤى مضادة
من الجلي أن هنالك مفارقة كبيرة في المنظور العام حول هذا الموضوع ؛ فمن ناحية ، يتفق الجميع على أن الحرب خيار مكروه ولا بد من العمل بكل ما هو متاح من إمكانيات لتجنبه وبأي ثمن كان ؛ ولذلك كان هذا هو المنطلق الذي تأتت منه فكرة إيجاد ما يعرف اليوم بـ”الدبلوماسية” ؛ ومن ناحية أخرى وكما هو معلوم للسواد الأعظم من الناس أن الجيش الفرنسي يمثل مؤسسة عسكرية صلبة ومتكاملة بفضل إمكانياته الرهيبة وكفاءاته المتقدمة في إنجاز العمليات الخارجية على أكمل وجه.
ومع ذلك ، فمن غير الممكن أن يتم تطوير المعدات العسكرية إلا من خلال الصفقات التجارية وعمليات التصدير ؛ وهنا يكمن جوهر المشكلة حيث أنه بمجرد اشتعال الحروب يصبح لدينا ما لا يقل عن ثلاثة خيارات:
1- الحياد الدبلوماسي كما هو الحال بالنسبة لسويسرا التي بالمناسبة تحتل المرتبة الحادية عشر في قائمة الدول المصدرة للسلاح في العالم.
2- الانحياز إلى جانب أحد الأطراف المتحاربة ، ويجب التأكيد هنا على أنه ليست هذا هو الحال بالنسبة لفرنسا فيما يتعلق باليمن ، حتى وإن كانت بعض الأسلحة الفرنسية التي تم شرائها قبل وقوع النزاع تستخدم في الوقت الراهن من قبل السعوديين والإماراتيين.
3- التحلي بالإرادة اللازمة وعقد العزم على لعب دور رئيس في هكذا منطقة استراتيجية بالنسبة لأوروبا.
وبالرغم من كل ما أسلفنا ذكره ستظل منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي بمثابة الركيزة الجنوبية والبوابة الرئيسة للوصول إلى آسيا بالنسبة للدول الأوروبية.
ولإيجاز القول ، يتفق الدبلوماسيون والعسكريون الفرنسيون ، أياً كانت حكوماتهم ومهما كانت توجهاتهم ، على شيء واحد يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار بغض النظر عن الطريقة التي يصاغ بها ، وهو ما يحتم عليهم واجبهم القيام به تجاه الوطن : ذلك هو السلام ؛ ولا يمكن أن يقوم السلام في الداخل إلا بإعداد العدة وبالاستعداد للدفاع عنه ، وهذا أيضاً لا يكون إلا بالتجديد والابتكار والتصدير ؛ وبيد أن جميع الخيارات متاحة لانتقاء الأطراف التي تبرم معها الصفقات أو حتى إلغاء العقود الموقعة وتحديد وتقنين الشراكات بين الأطراف المتعاقدة ، إلا أنه في هذه الحالة تصبح مصداقية الطرف المصدر موضع شك ؛ ونظراً للرغبة الجامحة التي تتحلى بها فرنسا في البقاء في مقدمة قائمة الدول النافذة ، أو حتى في منتصف القائمة ، يعد الحفاظ على مصداقيتها بمثابة تحدٍ حقيقي تحفه الكثير من المخاطر والصعوبات البالغة.