أبعاد التراجع عن تصويت إدانة الاستيطان في مجلس الأمن الدولي
أيمن الرفاتي*
تتعاظم المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية، في ظل فشل المسار والبرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، تحت قيادة الرئيس محمود عباس، وانحداره إلى مستويات خطيرة في البعد الوطني، وبخاصة في مواجهة الاحتلال، وهو ما تكشّف مؤخراً بقبول السلطة الفلسطينية سحب مشروع قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يدعو إلى “وقف فوري” للنشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلّة عام 1967.
الورقة الدبلوماسية والقانونية أمام المجتمع الدولي كانت ورقة أخيرة في يد الرئيس عباس؛ للوقوف في وجه سياسات حكومة الاحتلال المتطرفة، وكانت كفيلة بإحراج الاحتلال وفتح الباب لمحاكمته في المحاكم الدولية والأوروبية، إضافة إلى تعزيز حركة المقاطعة المتنامية في مختلف مناطق العالم.
الرئيس عباس بذاته يعلم جيداً أنّ السيطرة على الضفة الغربية المحتلة تمثل هدفاً استراتيجياً لليمين المتطرف، وبمنطق الغلبة الذي يفرضه “جيش” الاحتلال على الأرض، بات الاحتلال يفرض الوقائع الجديدة على الأرض، ويوسّع الاستيطان، وينفذ مخططاته الكبرى، والأصل أنّ فرصة إدانة الاستيطان والاحتلال في الضفة الغربية أمر لا يفوّت؛ لأنها تمثل ركيزة أساسية في مواجهة مخططات اليمين الإسرائيلي في الوقت الحالي.
إنّ خطوة التراجع عن التصويت بإدانة الاستيطان كانت محبطة، ليس فقط على المستوى الفلسطيني الداخلي، بل تعدّت ذلك إلى مستوى المناصرين للقضية الفلسطينية الذين كان كثير منهم ينتظرون هذه الإدانة للاستيطان؛ لتصعيد حملات المقاطعة “BDS” وفتح آفاق جديدة لها. وللأسف، فإنّ خطوة التراجع قد عززت الصورة التي يريدها ويسوّقها المطبّعون العرب، ومن قبلهم حكومة الاحتلال، بأنّ الفلسطينيين هم من يتخلون عن حقوقهم، وأنّ الحكومات العربية “لن تكون ملكية أكثر من الملك نفسه”.
في الوقت الذي يحتاج فيه الفلسطينيون إلى ثورة جديدة في وجه حكومة المتطرفين، تنتكس السلطة وتقبل بالعرض الأميركي الذي يتجاوز الحقوق الوطنية الفلسطينية، ويُغلِّبُ المصلحة الإسرائيلية التي تتجاوز جميع الخطوط الحمر أمام القضية الفلسطينية وتفرض وقائع جديدة، بل وصلت الحال إلى قبول مكتسبات تكتيكية ضئيلة على حساب قضايا وملفات استراتيجية للقضية الفلسطينية.
المؤسف أنَّ موقف السلطة بإلغاء التصويت في مجلس الأمن الدولي لإدانة الاستيطان لم يكن مقابل موقف مماثل من حكومة الاحتلال التي نفت أغلب البنود التي تمّ ذكرها في وسائل الإعلام، وشددت على أنّها ستنفذ ما تم إقراره مؤخراً في قضية الاستيطان، بل نفت كلياً أنّها ستوقف عمليات هدم المنازل في مناطق الضفة الغربية والقدس المحتلتين.
وعلى عكس ما تحاول السلطة الترويج له، تتمثّل الحقيقة في أنّ الرئيس عباس وافق وأعطى الضوء الأخضر على كل الوقائع التي فرضها الاحتلال على الأرض بخصوص الاستيطان، بما في ذلك ما تم إقراره مؤخراً بإقامة 9 بؤر استيطانية.
ما حدث في مجلس الأمن يمثل خطأ استراتيجياً من السلطة، مقابل وعود غير واقعية من الإدارة الأميركية التي لن تضغط بأي شكل من الأشكال على حكومة نتنياهو ما دامت الأخيرة لم تذهب إلى تفجير الأوضاع؛ فإدارة الرئيس الأميركي جون بايدن لا يهمّها الآن شيء سوى استمرار حالة الهدوء في منطقة الشرق الأوسط، في ظل تركيزها على مواجهة الخطر الصيني والحرب الروسية-الأوكرانية.
التدخل الأميركي يأتي في ظل تقديرات ومؤشرات خطيرة بتزايد فرص التصعيد والحرب بين الفلسطينيين والاحتلال، وهو ما يتزامن مع خشية إسرائيلية وأميركية من إمكانية انهيار السلطة الفلسطينية، خلال الفترة المقبلة، ولهذا يستغل الأميركيون هذا المعطى للضغط على الرئيس محمود عباس لتقديم تنازلات أكثر.
لا يمكن تفسير ما حدث إلا أنّه نتيجة لعدد من الاحتمالات أولها أنّ الضغط الأميركي كان كبيراً على الرئيس عباس، وهو ما تحدثت عنه أوساط صحافية إسرائيلية، وبخاصة رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مائير شبات، الذي ألمح إلى أن عدم محاربة المقاومة من قبل الرئيس عباس ستكون تبعاته خطيرة على عباس نفسه قبل “دولة” الاحتلال.
والاحتمال الثاني أنّ تقديرات عباس وفريقه وقادة الأجهزة الأمنية بأنّ السلطة باتت تقترب من حالة الانهيار في ظل التوجهات المتطرفة لحكومة الاحتلال، والدعوات إلى إنهاء السلطة من قبل الوزيرين الإسرائيليين بن غفير وسموترتش، بالتزامن مع تصاعد حالة المقاومة في الضفة التي تعد نقيضاً لبرنامج السلطة حالياً، وعليه كان التقدير بأنّه يجب الانحناء أمام العاصفة، وعدم معارضة المطالب الأميركية والإسرائيلية للحفاظ على بقاء السلطة.
من ناحية أخرى، لم يعد يخفى أنّ هناك بعداً شخصياً لدى بعض المتنفذين في السلطة الفلسطينية بعدم مواجهة الاحتلال والدخول معه في صدام؛ نظراً إلى أنّ ذلك يضر بالمصالح والامتيازات الشخصية التي يحظون بها على المستوى الاقتصادي وحرية الحركة والتنقل المتاحة لهم، فيما لا يريد البعض الآخر دعم المواجهة حالياً كي يظهر بأنّه الأفضل أمام الإدارة الأميركية والاحتلال في معركة وراثة الرئيس عباس.
بعد 29 عاماً على مشروع “أوسلو” وبرنامجها والمفاوضات مع الاحتلال، بات الفلسطينيون بحاجة ماسة إلى إعادة ترتيب بيتهم الداخلي، والتخلص من عبء هذا البرنامج الذي أثبت فشله وعدم قدرته على التعاطي مع المتغيرات الداخلية والخارجية المحيطة بالقضية الفلسطينية، ويجب التفكير جدياً في حلّ السلطة الفلسطينية، وإصلاح منظمة التحرير لتكون جامعة وممثلة لكل الفلسطينيين.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع