شاهر الشاهر*

لم يكن الموقف العماني من الأزمة السورية موقفاً براغماتياً خاضعاً لحسابات الربح والخسارة، بل كان موقفاً مبدئياً يستند إلى مبادئ السياسة الخارجية العمانية وتوجهاتها التي أرسى دعائمها السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله.

تلك السياسة جعلت السلطنة تحظى بنوع من “الحياد الإيجابي”، وهو حياد شبيه بالحياد السويسري سابقاً، على الرغم من وجودها في بيئة إقليمية مضطربة وجوار متقلب في مواقفه وأهوائه.

وكانت العلاقات السورية العمانية قد ترسخت وتطورت منذ العام 1970، وهو العام الذي شهد وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة في سوريا، وهو الذي يعد مؤسس الجمهورية الحديثة ومرسخ دعائمها. كذلك، شهد هذا العام استلام السلطان قابوس بن سعيد مقاليد السلطة في السلطنة التي حكمها نصف قرن من الزمن.

ومنذ ذلك التاريخ، بدأت السلطنة تؤدي دوراً ريادياً في المنطقة العربية، ورفعت شعار “السلم والتعاون مع الجميع من دون استثناء أحد”، ولا سيما دول الجوار. وقد سار السلطان هيثم بن طارق على هذا النهج منذ تسلمه السلطة في 11/1/2020.

لقد كانت سلطنة عمان من أولى الدول التي عانت ازدواجية المعايير التي تحكم عمل جامعة الدول العربية، فقوبل طلبها الانضمام إلى الجامعة آنذاك بالرفض من بعض الدول العربية.

لكن سوريا، وانطلاقاً من كونها دولة مؤسسة لهذه الجامعة، وقفت إلى جانب السلطنة ودعمت مسعاها للانضمام، فكان الموقف السوري بقيادة الرئيس حافظ الأسد: “إن العمانيين عرب قبل أن تكونوا عرباً، ومكانهم محجوز تحت قبة الجامعة”. هذا الموقف لم ينسَه العمانيون كما يبدو، وأي حديث عن الجامعة العربية سيذكرهم به.

وبعد اندلاع الأزمة في سوريا، لم تنقطع العلاقات بينها وبين السلطنة التي استمرت في موقفها مما يجري في سوريا باعتباره شأناً داخلياً، وأن الدور العربي يجب أن يكون بناءً، وهدفه احتواء الأزمة لا تأجيجها.

لذا، لم تغلق السلطنة سفارتها في دمشق. وفي عام 2015، وهو العام الذي شهد ذروة الصراع العسكري في سوريا واستدعى التدخل الروسي، أرسلت السلطنة وزير خارجيتها إلى دمشق. وعام 2021، كان السلطان هيثم بن طارق أول زعيم خليجي يهنئ الأسد بإعادة انتخابه، وعبّرت برقية التهنئة عن “أطيب تمنياته للرئيس في قيادة الشعب السوري نحو المزيد من التطلعات للاستقرار والتقدم والازدهار”.

وفي يناير 2022، زار وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي سوريا، والتقى الرئيس الأسد، ضمن سلسلة الجهود التي تبذلها بلاده لدفع التطبيع العربي مع سوريا.

وزار وزير الخارجية السوري فيصل المقداد عُمان في رحلة استغرقت 3 أيام في مارس 2022. لذا، لم يكن مستغرباً أن يختار الرئيس السوري بشار الأسد مسقط لتكون وجهته الأولى في أول زيارة عمل له بعد الحرب، وخصوصاً في ظل حالة الانفتاح العربي على سوريا، التي كان لمسقط دور كبير في تحقيقها.

على الرغم من الزيارات التي قام بها الرئيس الأسد خلال الفترة الماضية إلى كل من روسيا وإيران والإمارات العربية المتحدة، فقد غابت عنها المراسم البروتوكولية المعتادة، لخصوصية الظروف التي كانت تعيشها سوريا والإجراءات الأمنية الخاصة المرافقة لتلك الزيارات.

لقد كانت زيارة مسقط إعلاناً من دمشق عن عودة نشاطها السياسي والدبلوماسي بطريقة رسمية، وفاتحة لزيارات دول عربية أخرى، وصولاً إلى مشاركة الرئيس الأسد شخصياً في قمة الرياض التي ستعقد في نهاية الشهر القادم.

حملت الزيارة طابعاً رسمياً، فكانت الطائرة الرئاسية، والسجاد الأحمر، وعلم الجمهورية العربية السورية الذي رفرف في كل أنحاء مسقط، وعزف للنشيد العربي السوري، ووفد رسمي مرافق. هذا المشهد، رغم بديهيته، سيشكل نهاية الأحلام التي نادت بها “المعارضة السورية” ومشغلوها، وتأكيداً عربياً على عودة سوريا الواحدة الموحدة إلى الصف العربي.

إن اختيار مسقط لتكون الوجهة الأولى للرئيس الأسد نابع من اعتبارات عدة، أهمها رد الجميل لسلطنة عمان، قيادة وشعباً، لموقفها من سوريا خلال أزمتها، فقد اتخذت السلطنة، ومنذ اليوم الأول للحرب، موقفاً داعماً لكل جهد يفضي إلى إنهاء الحرب في سوريا، وسعت لإعادة الأمن والأمان والاستقرار فيها.

هذا الموقف ينسجم مع التوجهات السياسية العامة لعمان ومواقفها الداعمة للأمن والاستقرار ورفض العنف والصراعات في المنطقة.

إن الموقف العماني الوسطي والمعتدل جعلها محط انتقاد الكثير من الدول، وتسبب بتوتر علاقات السلطنة مع بعض الدول التي انتهجت سياسات راديكالية متطرفة، وانتهجت نهجاً مانوياً قائماً على قاعدة “من ليس معنا فهو ضدنا”.

صحيح أن السلطنة لم تكن الدولة العربية الوحيدة التي احتفظت بعلاقاتها الدبلوماسية مع سوريا، إلا أنها كانت متقدمة في مواقفها على بقية الدول في التعاطي مع دمشق، وعلى مستويات عليا، وفي المجالات كافة، السياسية منها والاقتصادية.

كما أدت السلطنة دوراً مفتاحياً في فتح المجال أمام الدول العربية الراغبة في عودة علاقاتها مع سوريا، وخصوصاً الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ومن ثم مصر والأردن وباقي الدول العربية.

ومنذ 8 سنوات، أدى وزير الخارجية العماني السابق يوسف بن علوي دوراً كبيراً في محاولة إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، لكن مساعيه باءت بالفشل، نظراً إلى الموقفين السعودي والقطري والفيتو الأميركي على ذلك.

عودة سوريا إلى الجامعة العربية أو “عودة العرب إلى سوريا”، وهي العبارة التي يحبذ السوريون ترديدها دوماً، هي العبارة التي تحققت ربما، ونتيجة لاعتبارات وظروف معينة، ومشيئة إلهية ربما.

إن عودة العلاقات العربية مع سوريا كانت تصطدم بعائقين كبيرين، هما:

– الفيتو الأميركي الرافض أي تطبيع للعلاقات مع دمشق، وخصوصاً في ظل استمرار الإدارة الأميركية بانتهاج سياسة معادية لسوريا عبر فرض المزيد من العقوبات عليها وإصدار بعض القوانين الخاصة، بدءاً من قانون “قيصر”، وليس انتهاءً بقانون “الكبتاغون”، الذي يبدو أن الهدف الواضح منه هو “شيطنة سوريا” وعرقلة أي مسعى عربي أو دولي للتقارب معها، والتضييق على الشعب السوري من خلال منع استيراد العديد من أنواع الأدوية الضرورية، بذريعة احتمال استخدامها في صناعة المواد المخدرة.

– الفيتو العربي الذي كانت تقوده وتفرضه وتتبناه المملكة العربية السعودية، والذي جعل العديد من الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، تتردد في التقارب مع دمشق خشية إغضاب المملكة.

ولم تنجح السلطنة في البداية بإحداث تغيير في الموقف السعودي من سوريا، نظراً إلى غياب الثقة بين البلدين (السعودية وعمان)، نتيجة علاقة السلطنة المتميزة مع طهران، ونتيجة اختلافات مذهبية معروفة بين البلدين.

وزاد التوتر بين البلدين في السنوات الأخيرة بسبب حرب اليمن، إذ تُعَدُّ سلطنة عمان الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تنضم إلى التحالف السعودي، وظلَّت محايدةً في اليمن، وغالباً ما تستضيف محادثاتٍ مع أنصار الله في مسقط، وهي مستمرة في علاقاتها القوية مع إيران.

لكن العلاقات العمانية السعودية شهدت تحسناً كبيراً بعد وفاة السلطان قابوس بن سعيد عام 2020، وهو الذي حكم عمان نصف قرن من الزمن. وبعد استلام السلطان هيثم بن طارق، بادرت المملكة العربية السعودية إلى تهنئته ومحاولة فتح صفحة جديدة معه، لعدة أسباب:

–  وصول الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، وسعيه لتصفير مشكلات المملكة، ليتسنى له تحقيق انتقال سلس للسلطة في السعودية.

– الموقف الأميركي من الأمير السعودي، ورفض إدارة بايدن الحديث معه، وهو ما جعله يسعى للتوجه شرقاً نحو روسيا والصين.

– رغبة المملكة في أن تؤدي عمان دوراً في حل الخلافات بين السعودية وطهران، وصولاً إلى وضع نهاية للحرب في اليمن.

–  طرح مشروع المملكة 2030، وهو أكبر مشروع تنموي في تاريخ المملكة، وتحقيقه يتطلب تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.

–  طرح مشروع السلطنة 2040، وهو مشروع تنموي متناغم مع المشروع السعودي.

–  تطور العلاقات الاقتصادية بين البلدين وازدياد التبادل التجاري بشكل كبير.

نظراً إلى هذا التطور الإيجابي في العلاقات بين سلطنة عمان والسعودية، ونتيجة لمواقف عمان وتوجهاتها السياسية التي تساعدها في التحدث إلى الجميع وأداء دور الوساطة، فقد كانت مساعي السلطنة وفرصها في تحقيق نجاح في تغيير الموقف السعودي من دمشق تزداد بشكل كبير.

ختاماً، إن عودة العلاقات العربية مع دمشق كانت قد بدأت منذ سنوات، ولو بشكل تدريجي وبطيء. ولم يبقَ في الطرف المعادي لسوريا سوى قطر والمغرب، وهما دولتان ملتزمتان بأجندات وتحالفات خارجية أكثر من المصالح والاعتبارات الداخلية.

ومن المفيد الإشارة إلى أن زيارة الرئيس الأسد إلى مسقط كانت مقررة منذ مدة، وربما تم تأجيلها بضعة أيام بسبب الزلزال الكارثي الذي تعرضت له سوريا، وهو الحدث الذي عرى الغرب من “الإنسانية” التي يدعيها، وجعل العرب أمام استحقاقاتهم وواجبهم تجاه الشعب السوري الذي لم يتخلف عن دوره وواجبه تجاه أشقائه العرب في يوم من الأيام.

إن عودة العلاقات العربية مع دمشق تتطلب بلا أدنى شك تقديم بعض “التنازلات المؤلمة” ربما، وطي صفحة الماضي، وقراءة المتغيرات الدولية قراءة صحيحة، وتغليب مصلحة الأوطان وشعوبها على المناكفات السياسية الصغيرة التي برع بعض العرب بها.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع