عماد آبشناس

عندما انهار الاتحاد السوفياتي السابق، وانهارت الكتلة الشرقية المسماة “حلف وارسو”، كان هناك أمل بإنهاء دور حلف شمالي الأطلسي وبدء حقبة جديدة من العلاقات الدولية، المبنية على التعامل بين الدول بدلاً من العداء، على أن يكون منطلق المنافسة بينها هو بناء عالم جديد يعيش فيه البشر بسلام من دون خشية اندلاع حروب جديدة تُستخدم فيها أسلحة دمار شاملة، من الممكن لها أن تقتلع البشرية من جذورها.

حتى إن دولاً متعددة فتحت أبوابها وسياساتها لوضع جديد كهذا.

في عهد الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، عرضت طهران بدء حوار الحضارات وسجلت هذا المشروع في الأمم المتحدة، وعرضت روسيا تفكيك كل الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل وتدميرها، حتى إن الأمر وصل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين حينها إلى عرض انضمام روسيا إلى حلف شمالي الأطلسي إذا كان هناك خشية من عودة عداء روسيا للدول الأعضاء في هذا الحلف.

لكنّ ما حدث هو أن جشع الهيئة الحاكمة خلف الكواليس في الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية فضّلت استغلال الوضع الجديد من أجل ضم دول جديدة إلى دائرة نفوذها، وسرقة موارد هذه الدول عبر سياسات استعمارية جديدة.

السياسات الاستعمارية الجديدة مبنية على الأفكار المكيافلية، بحيث إن هذه الدول، من خلالها، لا تحتاج إلى احتلال دول أخرى، بل تحتاج إلى فرض حكام عملاء تابعين لها من أهل البلد كي ينفّذوا المطالب.

عملياً، حتى اللوبيات الحاكمة في الدول الغربية تعمل على أساس هذه السياسة أيضاً، فهي لا تضيّع وقتها وتخرج على العلن لتتبوّأ مناصب حكومية، بل تقوم بتنصيب الشخصيات السياسية وتدير هؤلاء من الخلف.

إن احتلال أفغانستان والعراق وليبيا، والحرب التي أدت إلى تجزئة يوغوسلافيا والسودان، والثورات الملونة كالتي اندلعت في أوكرانيا وجورجيا وإيران وسوريا والصين وروسيا، وانهيار أنظمة بعض الدول العربية وأميركا اللاتينية وشرقي آسيا وشرقي أوروبا، كانت كلها نتيجة سياسات الناتو الجديدة، التي كانت تعمل على إعادة خلط الأوراق وإعادة صياغة نظام جديد يكون أساسه خدمة المصالح الأميركية، أولاً وأخيراً. بعضها أعطى نتائج، كما حدث في أوكرانيا، وبعضها الآخر احتاج إلى تدخل عسكري من جانب الناتو، مثل ليبيا والعراق وأفغانستان، وبعضها الآخر فشل نسبياً أو كلياً.

لربما نحتاج إلى مقالات تفصيلية عن كل من هذه الثورات وانهيار الأنظمة كي ندرك الموضوع، بصورة مفصلة.

واستمرار الولايات المتحدة – التي تتحكّم في الناتو – في سياساتها المتمثلة بمدّ نفوذ الحلف شرقاً أدى إلى انهيار كل ما كانت البشرية تتمناه. وطبعاً، فإن دولاً وجدت مصالحها القومية متمثلة بمواجهة هذا التمدد، لأنها إذا لم تواجهه الآن فغداً سوف يأتي دورها. وعليه، استطاعت مجموعة من هذه الدول أن تنفذ من محاولات أميركية لتدميرها وتجزئتها، مثل إيران وروسيا والصين والهند وغيرها.

ويمكن القول إنه لولا قيام جبهة المقاومة لمواجهة الحضور الأميركي في غربي آسيا لاستطاعت الولايات المتحدة فرض خطتها التي رسمتها لتجزئة المنطقة إلى دويلات صغيرة متصارعة بين بعضها البعض إلى ما لا نهاية. وهي الخطة المبنية على ما رسمه برنارد لويس عام 1974، وعرّفتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون باسم خطة الطريق، وعنونتها جريدة “الأتلانتيك” بحدود الدم.

ويمكن القول إن الحرب في شرقي أوروبا حالياً هي امتداد للحرب في غربي آسيا.

على الرغم من أن روسيا هي التي بدأت الحرب في أوكرانيا، عبر بدء عمليتها الخاصة في هذا البلد، لكن لا يمكن أن ننكر أن الهجوم الروسي لم يكن من دون خلفيات أجبرت الروس على اتخاذ هذا القرار.

فمن هو على دراية بوضع كل من روسيا وأوكرانيا يعلم جيداً أن أوكرانيا، بالنسبة إلى الروس، لها خصوصيتها، فهي تمثل رمزية تاريخية للشعب الروسي، بالإضافة إلى أنها تُعَدّ الخاصرة الرخوة لروسيا. وإذا استطاعت الولايات المتحدة ضم أوكرانيا إلى الناتو، فهذا يعني كسر ظهر روسيا وانهيارها، لأن حلف شمالي الأطلسي سيتمكن من العبور عبر جورجيا والوصول إلى الجمهوريات السابقة في الاتحاد السوفياتي السابق ومحاصرة روسيا بكل سهولة.

وفي هذا السياق، فإن دولاً أخرى، مثل إيران والصين، مهتمة أيضاً بهذا الوضع، فتمدد الناتو إلى الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفياتي يعني وصول الناتو إلى حدود هذه الدول ايضاً.

أول استفزازات الناتو، بالنسبة إلى روسيا والصين وإيران، بدأ عبر كازاخستان، حيث حاولوا إسقاط النظام هناك، والسيطرة على هذا البلد الذي يتوسط البلدان الثلاثة. وبعد تدخل روسيا فشلت المحاولة، فبدأت الاستفزازات لروسيا في أوكرانيا عبر تحريض النازيين الجدد على مهاجمة الأوكرانيين من أصول روسية، وقيام كييف بمناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة وبريطانيا تحضيراً لعملية احتلال جزيرة القرم، والسيطرة على المناطق ذات الأغلبية الروسية.

في كل حال، فإن ما يهم إيران هو محاولات الناتو الدائمة التمدد شرقاً، وهو ما يتعارض مع المصالح الإيرانية، والمصالح الروسية. وعلى هذا الأساس، فإن روسيا وإيران لديهما مصالح استراتيجية مشتركة في مواجهة مشاريع كهذه، فكانت الشراكة الاستراتيجية، التي أدّت إلى التقارب بين البلدين بصورة تلقائية. وهذه الشراكة وهذا التعاون لم يبدآ بمواجهة تمدد الناتو في شرقي أوروبا، بل بدآ بمواجهة تمدد الناتو في غربي آسيا.

بالإضافة إلى كل ما سبق، لا بد من أن نشير إلى أنه، على الرغم من الميل نحو الغرب في إيران، إن كان على المستوى الاجتماعي أو الثقافي أو حتى السياسي، فإن خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وعدم العودة إليه، أضعفا موقف السياسيين المنادين بضرورة التقارب بين إيران والغرب لمصلحة السياسيين الداعمين لتوسيع التعاون مع الشرق وتعميقه. وهؤلاء، بالإضافة إلى بعض الاقتصاديين، يدعون إلى إيجاد صيغة اقتصادية ومصرفية عالمية خارج إطار سيطرة الولايات المتحدة والغرب. وهنا يمكن القول إن العقوبات الغربية على روسيا أتت لتؤكد صواب هذا المنحى وهذه الدعوات، ليس على صعيد إيران فقط، وإنما على صعيد الصين أيضاً.

وعليه، بعد عدة أعوام من الانتظار، استطاعت إيران دخول منظمة شانغهاي بدعم قوي من روسيا، وباتت اليوم مرشحة لدخول منظمات اقتصادية أخرى، مثل البريكس أيضاً. ويمكن القول إن هذه هي إحدى نِعَم الحرب بين روسيا والناتو بالنسبة إلى إيران، التي بدأت تسريع التعاون مع روسيا، فتحولت موانئها الجنوبية في المياه الدافئة إلى موانئ تستفيد منها روسيا لاستيراد البضائع وتصديرها، وإلى منفذ لموسكو إلى العالم.

التعاون بين البلدين لم يقتصر على الاستيراد والتصدير، وإنما وصل إلى حدود التنقيب عن النفط والغاز، والاستفادة من الخبرات الروسية في هذا المجال، في مقابل إعطاء إيران أراضيَ شاسعة داخل روسيا لاستثمارها وزراعتها لمواجهة الجفاف الذي تعانيه وتغطية حاجاتها الزراعية، بالإضافة إلى تأمين حاجات روسيا من مواد زراعية أيضاً.

ولربما أحد المواضيع الأكثر اهتماماً هذه الايام هو زيادة التعاون العسكري بين إيران وروسيا في كل المجالات.

ففي حين كانت روسيا تتحضر لمواجهة عسكرية تقليدية مع الغرب، كانت إيران تستعد لمواجهة غير تقليدية مع الغرب. ولهذا، ففي حين كانت روسيا تعمل مثلاً على تصنيع طائرات من دون طيار وصواريخ بالغة التطور تكنولوجياً، وغالية الثمن عملياً، كانت إيران تستثمر في الإنتاج الكمي لطائرات من دون طيار وصواريخ رخيصة الثمن. كانت ترى أنها إذا ما دخلت حرباً مع الولايات المتحدة فإن الكمّ الهائل لهذه الأسلحة سوف يغطي على التطور النسبي لأسلحة الطرف المقابل.

وفي حين كانت روسيا تحاول كسب الحرب في أوكرانيا عبر الحرب التقليدية، فإن الناتو استفاد من تجاربه في الحروب غير التقليدية. ومع ذلك، فإن روسيا والناتو باتا يواجهان شحاً في كميات الأسلحة التي يحتاجان إليها في المعارك.

وحالياً، فإن المصدر الوحيد الذي يمكن له تغيير الدفة في الحرب الأوكرانية هو إيران، بحيث إنها إذا قررت فتح مخازنها ومساعدة روسيا، ففي إمكانها أن تزودها بعشرات الآلاف من الطائرات من دون طيار ومن الصواريخ، التي لن يتمكن الناتو من تحمل تكلفة مواجهتها.

ولهذا، فإن أنباء متضاربة بدأت بالتواتر عن أن إيران قامت بتزويد روسيا ببعض هذه الأسلحة من أجل تجربتها في الحرب، ثم نقل تكنولوجيا تصنيع هذه الأسلحة إلى روسيا، كي تقوم روسيا بتصنيعها.

وعكس جوزيف بوريل، منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، في لقائه الأخير مع وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان في الأردن، هذا التخوف بصورة ملحوظة، عبر طرح الموضوع عدة مرات على طاولة البحث، على نحو متكرر.

في المقابل، فإن لدى روسيا أيضاً أسلحة تفتقر إليها إيران في ترسانتها الدفاعية، كالطائرات المقاتلة المتطورة وأنواع خاصة من الصواريخ وتكنولوجيا التصنيع. وما يتم تناقله اليوم من شائعات هو قيام روسيا بتزويد إيران بعشرات الطائرات من نوع سوخوي 35 المتطورة.

ويمكن القول إنه، في حين أن إيران غير حاضرة رسمياً في الحرب الروسية مع الناتو، إلا أنها مؤثرة بصورة كبيرة. ويمكن لهذا التأثير أن يتسع مستقبلاً.

في النهاية، يبدو أن بعض الإيرانيين لم يفقد الأمل في إعادة إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران. لذلك لا يريد هؤلاء لطهران الدخول في مواجهة مع الناتو بصورة مباشرة، لكن بالتأكيد، إذا استمرت الولايات المتحدة والدول الأوروبية في سياسة التلاعب في هذا المجال، أو قامت مثلاً بإعلان وفاة الاتفاق النووي، فحينها قد تستخدم إيران الأوراق التي في يديها، ومنها قلب المعادلة في أوكرانيا لمصلحة حليفتها روسيا، عبر تزويدها بطائرات من دون طيار وبالصواريخ التي تحتاج إليها.

  • المصدر: الميادين نت
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع